وقفة عز

الرحيل عن بيروت ومجزرة صبرا وشاتيلا – نضال حمد

 

بتاريخ 23.08.1982 وفي العدد رقم ٦٠ وهو العدد الأخير من جريدة المعركة التي صدرت اثناء فترة حصار بيروت… وحمل غلاف الصفحة الأولى صورة لمقاتلين فلسطينيين راحلون عن العاصمة المثقلة بالجراح وبخيانات جزء من اللبنانيين وبصمت وبتخاذل قسم كبير من العرب… مع عنوان بالخط العريض يقول: “والى نلتقي في معارك أخرى ثورة حتى النصر والتحرير والعودة”.

رحل الفدائيون الى بعض الدول العربية تاركين خلفهم مخيماتهم وشعبهم  للمجهول. كانوا على متن السفن التي اقلتهم الى المنافي العربية البعيدة عن فلسطين المحتلة، يفكرون بما حل بهم بعد ثلاثة أشهر مقاومة وحصار وبعد قرار القيادة السياسية بالانسحاب من بيروت. تحت تأثير ومطالب بعض القوى اللبنانية الحليفة وكذلك بعض القوى العربية الرجعية مثل مصر والسعودية.. ونتيجة للضغط الأمريكي المباشر عبر مفاوضه المكوكي “فيليب حبيب” ذو الجذور اللبنانية. وبعد أخذ ورد وسجالات عديدة بين قادة الثورة الفلسطينية وافق الجميع على قرار الرحيل.

القيادة المتنفذة في الثورة وافقت على الرحيل وهو بمثابة الهزيمة بعد صمود اسطوري. وفرضت قرارها على الآخرين المتمنعين والمترددين في فتح وأخواتها من الفصائل. ربما لأسباب أخرى كانت موجودة في عقل رئيس منظمة التحرير الفلسطينية آنذاك المرحوم ياسر عرفات، الذي قيل أنه في ذلك الوقت حصل على وعود فرنسية وسعودية بمنحه الدعم لدى الادارة الأمريكية ومن أجل تأمين عقد محادثات سلام مع الصهاينة تنتج عنها دولة فلسطينية في قطاع غزة والضفة الغربية. يعني وفق البرنامج المرحلي لمنظمة التحرير الفلسطينية. وهو برنامج اعترف بحق “اسرائيل” في الوجود وتنازل عن اراضي ال48 الفلسطينية. وقبل بدولتين واحدة يهودية والثانية فلسطينية. للأسف تبنته منظمة التحرير الفلسطينية وأصبح منهاجا لتقديم التنازلات تلقائيا في كل مناسبة ومع كل تطور جديد في الصراع. وبقي هكذا الى أن وصلت القيادة الفلسطينية بعد وأدها للانتفاضة الفلسطينية الأولى التي استمرت لسنوات عديدة، وعدم الاستفادة من انجازاتها، الى اتفاقية اوسلو، التي بدورها عرّت تلك القيادة ونزعت عنها آخر أوراق التوت التي كانت تتغطى وتتستر بها.

في اثناء خروجنا من بيروت نهاية آب 1982، في ذلك الوقت كان المقبور بشير الجميل مع المقبور ارييل شارون يعيشان أجمل الأوقات. إذ اعتبرا انهما حققا المطلوب وطردا القوات الفلسطينيية وقيادتها من لبنان. والآن عليهما التفكير بكيفية تنصيب بشير الجميل رئيسا للبنان تحت الاحتلال الصهيوني.

بعد ذلك سوف يقوم بشير بتحقيق أحلامهما وأمنياتهما هو وشارون بانهاء الوجود الفلسطيني تماماً. سيقوم بشير وعصابته الفاشية بمسح المخيمات الفلسطينية في لبنان عن الوجود. طبعاً مساعدة الكيان الصهيوني جاهزة دائما ومساعدة البطريركية أيضا جاهزة، فهي جاهزة فعلا من قبل النكبة الفلسطينية سنة 1948. طالما ردد المقبور بشير أنه سوف يمسح مخيمي صبرا وشاتيلا ويقيم مكانهما حديقة للحيوانات. لكن الحيوان المتوحش بشير الجميل، الخائن والفاشي المتصهين والمغرور المتعجرف، المستكبر والمتطاوس، الذي يعتبره لبنان الرسمي شهيدا للبنان ومارونيته الطائفية الانعزالية، لم يفكر أو يعتقد يوما ما أنه قد يموت في أي لحظة وتموت معه أحلام العظمة، التي راودته طويلا وأصبحت تقريبا حقيقة واقعة.

فبعد أن  التهم شارون وجبات الطعام الشهية من يدي صولانج زوجة بشير في بيت العائلة ببكفيا في بيروت الشرقية، وشعر بأنه شبع واكتفى من الطيبات الجميلية، أخذ بشير وجره من يده ليعينه وينصبه رئيسا للبنان المحتل. فأحضره رئيساً لا منافس له الى قبة البرلمان رغماً عن ارادة غالبية سكان لبنان. وهكذا أصبح بشير الجميل رئيساً من على ظهر دبابة ميركفاه صهيونية.

 

لم تدم طويلا فرحة الارهابيين الصهاينة وأقرانهم الارهابيين الانعزاليين الفاشيين اللبنانيين. فرفاق الزعيم أنطون سعادة، كانوا لهم بالمرصاد. وأتخد القائد الراحل نبيل العلم القرار وقام المناضل الكبير حبيب الشرتوني في 14 آب 1982 بتنفيذ مهمة تفجير مقر بشير الجميل على من فيه من ارهابيي الكتائب والجبهة اللبنانية الفاشية. منفذين بذلك إرادة الشعبين اللبناني والفلسطيني والأمة جمعاء. اعدام بشير الجميل ومن معه من المتصهيين اللبنانيين قلب الطاولة رأسا على عقب. وأعلن أن المعركة مستمرة وفي تصاعد، وانها الآن اتخذت منحى مغاير. لأنها أصبحت معركة تحرير لبنان من الاحتلال الصهيوني ومن الخونة والعملاء. معركة التحرير التي أعلن تصاعدها الشهيد المغدور خالد علوان من شارع الحمراء ومقهى الومبي في الثاني والعشرون من أيلول سبتمر 1982.

في أعقاب مصرع بشير الجميل ساد التخبط في صفوف الفاشيين الانعزاليين لكن بطركهم الروحي وملهمهم الاجرامي شارون سارع الى جمعهم وطلب منهم الانتقام لاغتيال بشير بإبادة سكان مخيمي صبرا وشاتيلا، اللذين أراد بشير تحويلهما الى حديقة حيوان. وضع شارون جيشه الذي كان لازال بعد انسحاب الفدائيين الفلسطينين قبل وقت قصير، يحاصر بيروت الغربية في تصرفهم. اجتاح العاصمة وتقدم الفاشيون تحت غطاء من القصف الصهيوني وقنابل الانارة الليلة نحو المخيمين، الخاليين تقريبا من المدافعين عنهم، ليرتكبوا مجزرة العصر، التي أودت بحياة آلاف السكان من اللاجئين الفلسطينيين، عجزة ورجال ونساء وأطفال ومرضى وجرحى وممرضين وممرضات وأطباء وطبيبات.. لم يوفروا أحداً هناك. حتى فقراء اللبنانيين والسوريين والعرب والأجانب الذين كانوا في المخيمين تمت ابادتهم.

. (Photo by Alain MINGAM/Gamma-Rapho via Getty Images)

في أيام المجزرة 16 و17 و18 أيلول سبتمبر 1982 كنت وبعض الرفاق من جبهة التحرير الفلسطينية التي كان يقودها الأمين العام الشهيد طلعت يعقوب بقينا في بيروت لأننا أردنا البقاء قرب مخيماتنا وأهالينا. وربطنا مصيرنا بمصيرهم. دافعنا كما قلة من الفلسطينيين في المخيمين عن شعبنا وعن بيروت. فاستشهد من استشهد وجرح من جرح واعتقل من أعتقل. فيما بعد سيطر الغزاة الصهاينة على معظم أحياء بيروت الغربية. لكن الشهيد خالد علوان ورفاقه الأحياء كما شهداء آخرين من الشعب اللبناني وقواه الوطنية والتقدمية، كانوا يقاتلون خلال المواجهات قبل أيام من عملية الويمبي، أعلنوا أنه لا مكان للصهاينة في بيروت العروبة. فأنسحب الغزاة من بيروت الغربية باذلال ودون مقاومة وتحت رصاص المقاومين اللبنانيين ومن تبقى هناك من المقاومين الفلسطينيين.

في الصورة بعض الرفاق الذين دافعوا عن صبرا وشاتيلا الفاكهاني وبيروت مع القائد الراحل طلعت يعقوب أمين عام جبهة التحرير الفلسطينية . صورة من ارشيف موقع الصفصاف.

نضال حمد في 31-08-2020