وقفة عز

إلى الشهيد عبد محمد حمد – شادي 1962 – 1982

إلى الشهيد عبد محمد حمد – شادي 1962 – 1982

إلى صديق شهيد –

إلى الشهيد عبد محمد حمد – شادي 1962 –

1982

أخي وصديقي ورفيقي عبد محمد

يا زميل الطفولة والدروب والأزقة وحارات مخيم عين الحلوة

خرجت ولم تعد إلينا إلا شهيداً كما أردت

افتقدناك كثيرا أيها الشقي الطيب

 أيها الثوري النبيل

، أيها المجبول بحب البلاد

والمهموم بحرية العباد

يا شادي التلال والوديان شرق وجنوب المخيم

 كنت أتساءل دائما هل نحن أصحابك ، رفاق الصبا والطفولة وحارات الفقر المسلح بأمل العودة وحتمية النصر ، هل نحن كنا صغارا أمام عطاؤك الكبير؟

قد نكون كذلك وقد لا نكون لأننا مثلك خضنا الحرب بروح قتالية عالية ، بشهوة للاستشهاد أو النصر

استشهدت أنت وآخرين من الأصدقاء والأحبة ، وجرح بعضنا وأسر بعضنا  أيضا ، ورحل البعض الآخر منفياً في بلاد العرب من المحيط إلى الخليج

أتساءل أيضا هل وفينا لك العهد أم مازلنا ؟

وفينا بعض العهد يا عبد ومازالت البقية معنا على الطريق الطويل والصعب.

إن أكرمنا أيها الصديق الراحل هم من رحلوا في ميادين الثورة والكفاح ، أما أنت فقد سطرت برحيلك أسطورة رائعة ، أسطورة فدائي لا يخاف الموت ، يواجه الاحتلال والغزو بروح فلسطينية لا تعرف اليأس والهزيمة والتراجع ، فتقدمت وتقدمت وقاتلت وواجهت حتى استشهدت فرحمة لك وخلود ومجد ومنا عهد ووعد أنا ماضون على نفس الطريق.

ومضينا يا رفيقي في الكفاح نردد أغاني تعلمناها صغارا في معسكرات الفدائيين:” أنا إن سقطت فخذ مكاني يا رفيقي في الكفاح  لا يخفك دمي يسيل من خلف السلاح “. مضيت من بعدك مع رفاق تعرفهم وآخرين لا تعرفهم لكنهم مثلي ومثلك أحبوا فلسطين حتى الشهادة ، فاستشهد وجرح وأسر بعضهم بعد استشهادك بأسابيع.

حينما كنت اجلس وحيدا في المستشفى بايطاليا وبعد أشهر عديدة من رحيلك ورحيل بعض الرفاق والأصدقاء ، كنت أتذكركم وأبحث معكم عن طريق للخلاص ، بعدما صارت فلسطين ابعد مسافة مما كانت عليه قبل حصار بيروت. وكنت أفكر بالمخيمات وبكيفية الحفاظ على الذات ، خاصة أن القادم قد يكون أعظم. وكنت يا صديقي أفكر بجراحي وآلامي وحنيني وأشواقي وكل أحبتي. وبالأوقات التي قضيناها معاً متسكعين في الأزقة وبين البيوت وعلى الطرقات وفي زواريب المخيم ، نتحدث عن الثورات الكوبية والفيتنامية والجزائرية . ونتجادل حول كتاب ما لكاتب جديد من كتاب الثورة العالمية.

أحيانا كنا نذهب إلى البحر القريب عبر سكة الحديد وبساتين الحمضيات الممتدة على جانبي الطريق من المخيم إلى البحر ، ولما لم نجد مالاً نشتري به بعض السكاكر والشوكولاته والبوظة وغير ذلك كنا نقوم على الطريق بالبحث عن قطع النحاس والالمنيوم والحديد والبلاستيك ، ونقوم ببيعها لتاجر في محله القريب من شاطئ بدر وصخرة البطل والمملكة ، أماكننا الجميلة ، التي كنا نختارها للسباحة . بينما كنا نصطاد الأسماك بطرق بدائية عند مناطق بحرية لها أسماء من اختراعنا واختراع من سبقونا مثل البونط والمقاصد والرابج .. هذه المناطق البحرية كانت مناطق طفولتنا ، وفيما بعد صارت بالليالي أثناء الحرب الأهلية وتدخلات الصهاينة مناطق نقوم بحراستها وفي بعض الأحيان بالاشتباك مع الكوماندوس الصهيوني وقطعاته البحرية.

كنا نذهب إلى البحر بالرغم من عدم موافقة الأهل ، نختلس الوقت لنفعل ذلك ، نهرب من الحر الشديد إلى البحر المديد ، نلهو ونلعب ونسبح ونشوي السمك ونتزاعل ونعترك على أتفه الأشياء ثم نعود ونصطلح وننسى كل المشاكل والخلافات ، كما كل أطفال الدنيا. وحين نعود إلى المنازل نعاقب من قبل الأهل. لكننا نعود في الأيام التالية وخاصة في عطلة الأسبوع لنعيد الكرة من جديد. ومع الأيام وعندما كبرنا قليلا أصبحنا نذهب إلى نهر الأولي لنسبح في مياهه الباردة  ونقفز إلى النهر من على الجسرين الممتدين فوقه ، جسر التنك القديم والجسر الذي يربط  الشارع الرئيسي بين صيدا وبيروت.

كنا نرافق الأهل في رحلات ترفيهية قليلا ماكانت تحدث يوم كنا صغاراً . أما رحلة نهر الأولي فكانت مميزة وممتعة برفقة الأهل حيث المشاوي والأطعمة اللذيذة والمشروبات المنوعة كالعصير والمرطبات والقهوة والشاي ، تلك الأشياء المحببة لدي ولدى كل أبناء جيلي.ولم نكن دائما نستطيع القيام بتلك الرحلات والنزهات للترفيه عن أنفسنا. خاصة أننا لم نكن نملك سيارة. لذا عندما شببنا وكبرنا قليلا أصبحنا نقوم بها لوحدنا وبدون سؤال أحد أو انتظار جواب من أي كان.

الآن وأنا انظر لجبال كورتينا الايطالية الممتدة سلاسل شاهقة وخضراء على مد النظر تفصل بين ايطاليا والدول المجاورة ، تعود بي الذكرى إلى لبنان الأخضر وغاباته وجباله وجنوبه الذي كنا نشد الرحال إليه ، تاركين خلفنا مقاعد الدراسة فارغة ، وأهل ينتظرون بقلق كبيرعودتنا لرشدنا ، وعودتنا سالمين من خطوط النار والقتال.

آه يا رفيقي عبد ، يا شادي ، آه ما أجملها وجهتنا الجنوبية ، كان القلب يحدد الطريق والمسار ، وكانت فلسطين تقترب أكثر كلما ابتعدنا جنوبا… لقد أحببت أن نناديك باسمك الحركي ، بلقبك المحبب شادي. أتذكر يا شادي كم كانت جميلة تلك الأيام التي قضيناها على مقربة من حدود فلسطين. كنا نتحزر ونقول تلك هي بلدتنا ، ترقد بصمت على سفح الجبل ، يقطنها مستعمرون ومستوطنون جلبوا كيفما اتفق لاحتلال هذه الأرض. وكنا نعتقد أن أول جبل رأيناه هناك هو جبل الجرمق. وكنا ولازلنا نحن الذين بقينا من بعدك على قيد الحياة نرسم الطريق إلى الجرمق والجليل وكل فلسطين.

يا لأيام صبانا وعنفواننا على جبل سيروب وفي المغاور والكهوف التي وجدناها أو حفرناها بأنفسنا ، لتكون أماكننا وملاذنا كل يوم أو يوم بعد يوم. نذهب من المخيم إلى الجبل الصغير القريب ، نعمل في تلك الكهوف  وعند حلول الظلام نعود إلى منازلنا. والغريب أننا كنا نجد الوقت للقيام بالواجبات المدرسية. في تلك الكهوف كان لنا رفاق منهم من مضى مثلك شهيدا أو رحل على درب الحياة ومنهم من ينتظر .. أتذكر الآن فريد ، أحمد (حمدي) وزهير ومنذر . كانت أيامنا جميلة رغم الذي كان فيها من شقاء وبؤس ومتاعب في الحياة.

أيام عنفواننا وصبانا وطلعتنا الثورية لازالت ماثلة أمامي… أتذكر لحظات المعارك التي خضناها سوية ، والتي كادت تودي بحياتنا. كنا صغارا مقدامين لا نعرف التراجع أو التقهقر. كنا في نفس الخندق أنا وأنت حين انهمر الرصاص من كل صوب والقذائف كانت تصفر فوق رؤوسنا عابرة المكان لتسقط غير بعيد عنا وعن رفاقنا في المقدمة… كنا غير آبهين بهم كلهم ، تحصنا هناك وقاومنا وصمدنا ولم يبقى معنا في الرشاش طلقات ولا في الآر بي جي قذائف فقد أطلقناها كلها مما أدى لتلف سبطانة المدفع الرشاش.

كيف لا نتذكر وكيف ننسى تلك الأيام المسجلة بدماء الرفاق كانت بداية تكويننا الفدائي الثوري ومعرفتنا بالحرب الحقيقية وبالموت والحياة . تلك الأيام عجنتنا وأعطتنا القوة والإصرار ومدتنا بالمزيد من الإيمان وبمواصلة المشوار.كنا نتسكع في منطقة الآثار وجوارها بمدينة وصر العريقة ، صور التحدي والتصدي والصمود والمحافظة على تاريخها الكبير والطويل. في مخيم البص قرب صور عشنا فترة قصيرة من فترات التكوين العقائدي ، وكنا عندما نزهق أو نمل نتوجه إلى منطقة الآثار الجميلة ننظر  لما تركه لنا العمالقة والمبدعين من سحر على هذه البقعة الجميلة من الأرض. وكنا نذهب للحارات القريبة والجميلة نجوب أزقتها بحثاً عن عشق أو حب قد يأتينا على قارعة الطريق. وعندما نستسلم لحر الشمس الحارقة نتوجه إلى بحر صور لنستحم بمياهه الدافئة. بعد شهور عدنا إلى عين الحلوة فدائيين عن حق لأننا خضنا التجربة الجنوبية وعرفنا معاني الانتماء للبندقية المقاتلة.

يا رفيق الصبا والشيطنة والفداء والمخيم والمقاومة والتوجه الفكري والانتماء العقائدي الثوري ، يا رفيق الإصرار والأخلاق النبيلة ستبقى معي حياً في شهادتك. فأنا لا يمكنني أن أنسى تلك التجربة الفريدة. استطيع نسيان الكثير من المحطات في حياتي لكنني لا استطيع نسيان حزننا وفرحننا وطموحاتنا وأحلامنا يا عبد الشهيد. ولا يمكنني نسيان دموع أمك التي جاءت مع أمي الى بيروت الحصار. فالتقينا وبكينا وتعانقنا وحزنا معاً لأجل رحيلك. التقينا في الفاكهاني ببيروت المحاصرة صيف 1982 وعندما علم رفيقنا القائد طلعت يعقوب أمين عام جبهة التحرير الفلسطينية* بوجودهما جاء للسلام عليهما ولتقديم التعازي لوالدتك المناضلة ، ابنة الشهيد وأم الشهيد وشقيقة الشهيد.

كل الأيام التي قضيناها معاً يا رفيق عبد ، يا شادي الشجاع والجميل والمقدام والمتنور والواعي والقارئ النهم والفدائي النبيل مازالت وستبقى حية وحاضرة في حياتي. تاريخك تاريخنا المشترك مسجل في ذاكرتي لأنه غير قابل للنسيان ولأنك كللته بالشهادة فكنت أول شهداء مخيم عين الحلوة ، وأول الذين تصدوا للدبابات الصهيونية واستطاعوا إصابة بعضها.

رفيقي وصديقي

أخي الراحل مع ابتسامتك

تحيات الجراح النازفة والزهور المتفتحة فوق شرفة غرفتي في المستشفى الطلياني ، وفوق شاهد قبرك في ساحة الشهداء بمدينة صيدا حيث النصب التذكاري والقبر الجماعي الفلسطيني اللبناني..

تحيات العصافير الحبيسة التواقة إلى الحرية ونسيم الفجر أرسلها إليك مع بسمتي رغم الجراح ومع حزني رغم روعة الصمود .

وداعا يا رفيق الصبا والعنفوان والثورة المستمرة

وداعا عبد

وداعا شادي

انتهت

* توفي القائد طلعت يعقوب فيما بعد يوم 17-11-1988 في الجزائر العاصمة اثر نوبة قلبية حادة

بقلم نضال حمد – كتبت في المستشفى بايطاليا سنة 1983 –

مواد ذات علاقة

http://www.safsaf.org/safsafeyat.htm

آخر تحديث 7-6-2014

الصفصاف- تاريخ النشر:16-6-2011

بقلم نضال حمد

اترك تعليقاً