من هنا وهناك

شـفـيـق الـحـوت ” سنديانة فلسطين “

بـقـلـم :  عـادل أبو هـاشـم

 

في الثاني من شهر أغسطس” آب ”  عام 2009 م فقد الشعب الفلسطيني و الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة القائد المناضل والأديب و الكاتب شفيق إبراهيم الحوت ” أبو هادر ” .

ليس من السهل أن يكتب المرء عن ”  سنديانة فلسطين ”  ، و ” الفلسطيني حتى الموت ” القائد و المعلم و الرمز شفيق الحوت  في ذكرى رحيله السادسة  ، فالرجل ليس أحد أهم رموز الشعب الفلسطيني الوطنية في مسيرته النضالية وحسب ، بل كان نبراساً و ثائراً ومناضلاً و مفكراً صاحب كلمة شجاعة و هادئة و عاقلة و ثورية في نفس الوقت ، وهو فوق ذلك يتدفق شفافية ويفيض أحاسيس .

كل كتابة عنه ستكون ناقصة ، لأن قضيته هي قضية مسيرة المقاومة ضد المحتل  ، هي قضية الجيل الذي يكسر قيد المحتل و يصنع الأنتصار  ، وهي قضية لم تكتمل بعد .

ذلك أن  ” أبا هادر  ” لم يكن في حياته وفي التـزامه مجرد شخص اختار طريق الجهاد والنضال والمقاومة ،  بل كان إلى جانب ذلك نموذجـًا بارزًا لجيل فلسطيني كامل هو جيل مقاومة المحتل منذ اليوم الأول للنكبة ، ومن خلال تمثيله لهذا الجيل  ومن خلال تعبيره عنه بالبندقية المقاتلة والكلمة الحرة الأبية  اكتسب قيمته كقائد وكمعلم وكرمز من رموز هذا الجيل .

عاش شفيق الحوت ومات عاشقاً لمدينة يافا حيث ولد فيها ، ولولا تقدمه في السن لقيل قتله الحنين إليها.!

فإذا تحدث عن بحر تجده قد انعطف للحديث عن ميناء يافا  وبحرها الهادر ، وإذا تذكر طفولته يعرج للكلام عن الصراع مع الصبيان اليهود وكيف منعهم ورفاقه من اقتسام ملعب كرة القدم في يافا ، فـ ” كل الأرض لنا ” ،  وإذا رأى ساعة في ساحة البرج في بيروت تذكر ساحة الساعة في يافا ، فمن يافا بدأ المشوار ، كما هو عنوان مذكراته مستعيداً كل لحظة فيها حتى لحظة مولده فيها .

وسيرة شفيق الحوت ليست مجرد سيرة لإنسان فلسطيني واجه أقداره بعناد ونبل وشغف فلمع اسمه كواحد من أبرز المناضلين في الحركة الوطنية الفلسطينية المعاصرة ، بل إنها سيرة فلسطين نفسها ، وسيرة الألم وسيرة القلب وسيرة الشرايين المسدودة ، وسيرة الحنين إلى يافا حيث هاجر جدّه سليم يوسف الحوت من بيروت إلى فلسطين في أوائل تسعينات القرن التاسع عشر هرباً من الخدمة في الجيش التركي ، وأقام في يافا حيث ولد ” أبو هادر” فيها في 13/1/1932م  وغادرها في 23/4/1948 م على ظهر السفينة اليونانية “دولوريس”، وخلّف في ثراها شقيقه جمال الذي استشهد مدافعاً عنها في 2/4/1948م .

عاد شفيق الحوت إلى بيروت عام 1948م ليترك قلباً في يافا ، وعصابات تعبث به هناك. !

 يقول الحوت في آخر سنوات عمره :

 ” لا تزال يافا ملء نفسي وذاكرتي ، وما من مرة ألتقي فيها واحداّ من أصدقائي القدامى إلا نبادر إلى سباق في الذاكرة عن اسم هذا الشارع ، أو ذاك المنتدى، وما أكثر ما كنا نصاب بالدهشة عندما نكتشف أننا لا نزال نتذكر من معالم المدينة ما كان لا يهمنا أو يثير اهتمامنا يوم كنا نقيم المدينة الحبيبة , مثل لون بناية الذات , أو اسم بائع متجول لـ ” النمورة ” , أو تخشيبة بائع ” بطيخ ” .!
في الجامعة الأمريكية في بيروت بدأ نضاله الفعلي طالبا بتأسيس ” مؤتمر المشردين الفلسطينيين ” , واختار المشردين تدليلا على مرارة المشاعر , وعلى رفض صفة لاجئين , وما يرتبط بها من معاني الذل والمهانة كما يقول .!

 أخذ يطوف بالمخيمات  يوم كانت الخيام معلمها الوحيد ليجند الطلائع وينظمهم في أطر سياسية تكون قادرة على القيادة وتحمل المسؤوليات ، فدخل السجن أكثر من مرة , ومنع من الدراسة في الجامعة لأكثر من عام , ليعمل في معمل الصابون , ويعيل أسرته .

استرداده الجنسية اللبنانية عام 1955 م  لم ينسه نضاله الفلسطيني , بل كانت سببا وغطاءً إلى حد ما للولوج أكثر في قضية تحرير فلسطين .

بدأ  شفيق الحوت وغيره من الفلسطينيين التحرك عام 1961م  لإنشاء ” جبهة التحرير الفلسطينية ” , وفي عام 1963م  صدر أول عدد لدورية الجبهة المعروفة بـ ” طريق العودة ” ،  وأصبح للجبهة فروع خارج لبنان ومخيمات الفلسطينيين  فشملت العديد من البلدان العربية والغربية ، وساهم في تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية برئاسة أحمد الشقيري عام 1964م  , ثم أصبح عضوا في لجنتها التنفيذية عام 1966 م, ومديرا لمكتب المنظمة في لبنان منذ تأسيسها عام 1964م  فبذل جهداً كبيراً ليقيم العلاقة بين المنظمة والحكومة اللبنانية على أسس دبلوماسية أسوة بأية سفارة عربية ، هذا النشاط عرضه لمحاولة اغتيال في   فبراير من عام 1967م أصيب بنتيجتها بجروح في ساقه ، واتهم أحد أجهزة الاستخبارات العربية بمحاولة الاغتيال  .!

وفي عام 1969 م فشل مخطط آخر لاغتياله ، وهذه المرة على يد أحد القادة الثوريين ! وفي العام نفسه   تعرض لمحاولة اغتيال ثالثة ، حين استهدف مكتبه بعدة صواريخ ، وهذه المرة بتنفيذ ” الموساد ” كما علم لاحقا ً، وفي عام 1974 م  تعرض لمحاولة اغتيال بتفجير مكتبه . !

بقي في بيروت ولم يغادرها مع رجال المقاومة في سنة 1982م بعد الاجتياح الإسرائيلي للبنان  بل شرع في ترميم مقر مكتب المنظمة في بيروت كي يكون جاهزاً لخدمة أبناء شعبه ،  لكن اجتياح القوات الإسرائيلية بيروت الغربية بعد اغتيال بشير الجميل في 14 / 9 / 1982م  ألجأه إلى التخفي والتنقل بين منزل وآخر ، وكم وجد نفسه متشرداً في شوارع بيروت باحثاً عن مكان آمن خشية أن تصطاده المخابرات الإسرائيلية التي كانت تبحث عنه.

أشياء عديدة  ميزت شفيق الحوت , فهو قيادي فلسطيني مثقف , له باع طويلة في المعرفة و الثقافة و الصحافة والكتابة , وقد أغنت ثقافته وسعه اطلاعه  تجربته السياسية , ودعمت نضاله الدؤوب , ورفدت معركته ضد الاحتلال الصهيوني الإرهابي في كافة المحافل .

وهو  قيادي فلسطيني مستقل ذو شخصية قوية , صاحب عقل وحكمة ورأي , له رؤيته الخاصة وتحليله وقراءته  ينسج منها موقفه , ويعبر عنه بكل صدق و أمانه وجرأة .

لم يكن شفيق الحوت بوقا لزعيم , ولم يكن تابعا لنظام , ولم يكن أداة سياسية أو بوليسية لمشروع أراد اختراق القضية الفلسطينية , أو حرفها عن مسارها .

فهو قيادي فلسطيني بامتياز ، ظل يفهم و يدرك أن فلسطين هي من البحر إلى النهر , ومن الناقورة إلى رفح , وأنها جزء من الوطن العربي وقطعة من الأمة , وأنها قضية تاريخ وحضارة , وأن الشعب الفلسطيني هو صاحب هذه الأرض , وأن نابلس ورام الله وغزة , ليست أهم ولا أغلى من عكا وحيفا ويافا واللد والرملة .

ظل شفيق الحوت يفهم حقائق الصراع مع الاحتلال ويدرك طبيعته , وظل واعيا لطبيعة المشروع الصهيوني واّثاره على أمتنا العربية وشعوبنا وحضارتنا .

لذلك عند الانعطافة التاريخية في القضية الفلسطينية يوم توقيع اتفاق أوسلو الأسود عام 1993 م , ظل شفيق الحوت ثابتا في الأرض وعلى الأرض , ظل في التاريخ ومع التاريخ , بقي في الشعب ومع الشعب , فكره مع المقاومة , وقلبه على الخراب الذي أحدثه هذا الاتفاق .

عام 1993م  برزت ” طهارة ” الموقف السياسي لا بل الرؤية السياسية عند شفيق الحوت , كانت التسوية مع الاحتلال الصهيوني والاعتراف بالكيان الغاصب ” نظرية ” أو ” تحليل ” ، ومع أوسلو أصبحت واقعا ومؤسسة وسلطة وأجهزة أمنية تقمع المقاومة وتلغي حق الفلسطينيين والعرب في فلسطين وفي قدسهم وعودتهم .!

في 22 أغسطس 1993م اتخذ القائد شفيق الحوت قراراً بتعليق عضويته في اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ، وقال في بيانه الصحفي ( لم يعد سراً على أحد ما تعاني منه منظمة التحرير الفلسطينية من أزمات سياسية ومالية وتنظيمية ، تتحمل مسؤوليتها القيادة الراهنة أو ما يسمى باللجنة التنفيذية (…) وباعتباري عضواً في اللجنة التنفيذية الراهنة  أعترف بأنه لم يعد في استطاعتي ، وكذلك غيري من الزملاء  أن نتحمل مسؤولية قرارات تصدر باسمنا دون علم لنا بها ، مما أدى إلى تفريغ هذه المؤسسة من صلاحياتها ).!

وبعد الإعلان عن اتفاقية أوسلو في 13 / 9 / 1993 م  شعر أن صخرة تحاول الوقوف بطريق عودته إلى يافا فأعلن استقالته من منصبه .

استقال شفيق الحوت ورفض الانضمام إلى السلطة , وهجا اتفاق أوسلو , وعرى النتائج التي وصلنا إليها , لم تغره السلطة ولا الألقاب والمناصب .

ظل مع البسطاء والشرفاء واللاجئين المقهورين المناضلين من كل الاتجاهات للعودة إلى فلسطين .

حين كان يقترب من الثمانين كان يردد :

” تعبت ؟ هذا صحيح . ! سئمت ؟ هذا أكيد .! لكنني لم استسلم “.

ترجل الفارس الذي قال :

لم نتمكن من كراهية اليهود لدرجة أن نقتلهم ، و لكنهم تمكنوا من كراهيتنا لدرجة أن يقتلونا ..!!

مات شفيق الحوت مثل كل الفلسطينيين , حبا بفلسطين , وألما على فراقها , ولوعة على جمالها وسحرها .

شرف لك يا شفيق الحوت أن تموت ثابتا , مقاوما , صلبا , ” عتيقا ” في مواقفك , ”  قديما  ” في طروحاتك  , فأنت مثل الغالبية العظمى من الشعب الفلسطيني ” ابن البلد ” , و” ملح الأرض ” , ترفض الانتهازية والواقعية العمياء , وتعارض السمسرة على الحقوق والمتاجرة بالنضال .

 عشت مناضلاً  .. ومناضلاً  رحلت .

وسوف نفتقدك كثيراً …  وسوف نفتقدك طويلاُ .!

اترك تعليقاً