ثقافة وفن

أمريكا الأُخرى – رشاد أبوشاور

أمريكا في عيون مغترب عربي للدكتور مسعد عربيد

                    

هذا الكتاب الصادر في عمّان، عن منشورات ( فضاءات) عام 2014، صدر في حميّا أحداث عربية عاصفة، مُنحت وصفا تبريريا، وتجميليا، ؤتشويقيا: الربيع العربي، والذي بسرعة  صادمة تكشّف عن كارثة عربية، فقد سُرقت الحراكات، وشوّهت المطالب، وحرفت الجموع الغاضبة، وأخذت إلى نقيض ما طمحت وأمّلت، وآلت الحراكات إلى قفز قوى رجعية متخلفة، وتفشي فصائل إرهابية ( متأسلمة) تخريبية مرعية أمريكيا، ومن دول الاستعمار القديم ، بريطانيا وفرنسا، وممولة من (نظم) حكم عشائرية متخلفة مهمتها إفشاء الجهل، والتخلّف، وتغذية نعرات دينية تمزق مجتمعاتنا العربية، تتقدمها: السعودية، وقطر.

كتاب كبير حجما، وقيمة، كتبه طبيب عربي، هو الدكتور مسعد عربيد، أخصائي أطفال، مثقف كبير، تشرّد من الكويت، وأقام في الأردن الذي يحمل جنسيته، ثم رحل إلى الغرب..إلى أمريكا، حيث استقر هناك في ولاية كاليفورنيا، في مدينة لوس أنجلوس، التي يعمل في أحد مستشفياتها.

قارئ الكتاب سيتفاجأ بأن كاتبه طبيب، فالكتاب يوحي بأن كاتبه دكتور في علوم السياسة والاقتصاد، وهو كاتب صاحب مبادئ، منتم، مؤمن، يحمل هم فلسطين حيثما ترحّل، وأمته العربية الممزقة، والمنهوبة، والمحكوم عليها بالتخلف، لأن نهوضها سيعني خسارة الغرب للجغرافيا، ولمنطقة ترتد عليه ثرواتها، وتُحتل برضى حكامها( العرب) التابعين الممسوخين.

الكتاب من الحجم الكبير، ويقع في 431 صفحة، وعنوانه يأخذ القارئ العربي، وهو موجه له بالدرجة الأولى، إلى عمق أمريكا، وهدفه تخليص هذا العربي من سطحية النظرة المراوغة الخبيثة التضليلية، فكاتبه لا يرتكز على دراسات تشرّح أمريكا، حسب، بل يضع تجربته المباشرة الممتدة على عقدين من الزمان، حيث ما يزال هناك في أمريكا، ليبصّر القارئ العربي بحقيقة أميركا، منطلقا من( قراءة) علمية موضوعية، تستند إلى مبادئ يؤمن بها الكاتب، ويبرهن على صحتها ببراهين الفكر العلمي، والتجربة المباشرة المعيشة.

ولأن الكاتب طبيب، فهو لا يعالج ظواهر المرض، بل يذهب إلى أسباب المرض، فيطرح ( الأدوية) الشافية، ولا يتوقف عند البثور على الجسد، أو السخونة في البدن، فهو لا يركز جهده على تخفيض الحرارة، وإزالة البثور، لأنها أعراض لما في الجوف، في العمق، ولا بد أن تستأصل حتى يتم الشفاء التام.

يكتب مسعد عربيد في الفصل الأول، المعنون ب( إشكاليات الكتابة حول أميركا): فبفضل الأوهام والأكاذيب التي طالما سعت أميركا لأن تقنع العالم وشعبها بها، سادت في عقول الكثيرين أوهام يصعب محاورتها، أو استئصالها، أوهام ترعرعت لعقود عديدة مفادها أن أميركا هي بلد الرخاء والرفاهية والعيش الكريم ،وبلد الحريات والديمقراطية، وأن المجتمع الأميركي مجتمع علماني وديمقراطي يسود فيه حكم القانون، ويتحقق فيه فصل الدين عن السلطة/ الدولة، وغيرها من الأوهام والأكاذيب. ( ص33)

لا يهجو الكاتب أميركا، بل مهمته التي اختارها لنفسه، أن يفتح عقول وعيون القرّاء _ وبخاصة العرب_ على (جوهر) الإمبريالية الأمريكية، وزيفها، والأساليب التي تتبعها في التضليل لكل شعوب العالم، بما فيها الشعب الأمريكي نفسه.

يكتب في نفس الصفحة: لقد اجتاحت أميركا كافة جوانب الكرة الأرضية، لا سياسيا وعسكريا، حسب، بل إعلاميا وثقافيا.

كشف الزيف الدعائي الأمريكي، ونقد النظرة التي تصدّق وتقبل وتستدخل ألاعيبه وأكاذيبه، وهي نظرة قاصرة عن صياغة فهم مادي موضوعي( لأميركا) كظاهرة تاريخية واجتماعية واقتصادية وسياسية، وكقوة إمبريالية عسكرية وتكنولوجية، تهدد أمن العالم ومصير الإنسان ومستقبل البيئة. (ص  (34

ينطلق مسعد عربيد من فلسطينيته، وعروبته، وإنسانيته، فمعركة فضح ( الإمبراطورية) الأمريكية، وزيفها، وعدوانيتها، وخطابها الإعلامي الكاذب التضليلي، وخطرها على البشرية جمعاء، بما في ذلك الشعب الأمريكي، وتعمقه في فهم ( تاريخية) نشوء أميركا، هي هاجسه لفتح عيون وعقول قرّاء كتابه، ومن يعنيهم التسلح بوعي علمي لفهم أميركا الإمبريالية.

يكتب: لقد أضحى من المُلّح أن نعي أن الإمبريالية الأمريكية هي اليوم العدو الرئيس للإنسانية، وأنها ستبقى كذلك على مدى المستقبل المنظور. ( ص 36)

هذا الوعي هو ما يفترض أن يتسلح به كل مناضل حقيقي، وبخاصة في بلاد العرب، وبالأخص أبناء وبنات الشعب الفلسطيني، حيث ترضى القيادات الفلسطينية المتحكمة بالقرار، وتروّج، بالوسيط الأمريكي النزيه..وهو الحليف الاستراتيجي للكيان الصهيوني!!

يلفت الكاتب الانتباه إلى أن التركيز على الإمبريالية الأمريكية كعدو، لا ينفي وجود أعداء آخرين، داخليين وخارجيين، مكشوفين ومختبئين.

العقل العلمي لا يقبل بالمساومة، ولا يرضى بالمجاملة على حساب القضايا المصيرية، ولذا يكتب مسعد عربيد:..الوحش الرأسمالي لا يزداد إلاّ انفلاتا، وشراسة ودموية، ولن يجلب على البشرية سوى المزيد من الدمار والهلاك..ولذا : فإن نقد أميركا وتفكيك خطابها، يصبح المهمة الملحة، ويرتكز على عدّة مرتكزات، يشرحها الكاتب بالتفصيل، في الصفحتين (37و38)

يفضح الكاتب أكاذيب وادعاءات( أميركا) الإمبريالية، بتسليط الضوء على : العرق والدين من جهة، والسلطة من الجهة الأخرى، و: العرق( هيمنة الأبيض على الأعراق الأخرى). والمسيحية الأوربية من جهة أُخرى.. والاستغلال الطبقي على أساس التمييز العنصري.

ينبه الكاتب أنه لا يكتب كرها بأمريكا، ويؤكد على أن أمريكا هي العدو الرئيس الذي تواجهه البشرية اليوم، وأن هذا ليس تعبيرا عن الكراهية، أو العداء لأمريكا الإنسان والمجتمع، أو لأي عرق أو إثنية، وليس دعوة شوفينية، كما يستشعر بعض القراء.)ص39 )

ربما يساعد إهداء المؤلف في مقدمة كتابه على فهم دوافعه لتأليف هذا الكتاب، الذي هو عصارة فكر، وجوهر انتماء، وخبرة تجربة مباشرة حيّة، ورسالة، فالكتاب له مهمة، والكتابة انتماء كما يؤمن الدكتور مسعد عربيد.

الإهداء في الكتاب، وهو مدخله الذي يُعرّف بتفكير الكاتب، دون غمغمة، أو مواربة، ينشىء جسرا مع القارئ لتسهيل عبوره، ويضعه أمام جوهر الكتاب:

أهدي هذا الكتاب إلى الذين لا يملكون شيئا، ولا حتى مستقبلهم… وإلى الذين كلما نظرت في عيونهم السمراء، وأجسادهم النحيلة، لا أرى سوى مسحة الحزن وأنهار من الدموع، وتاريخ من الألم والمعاناة. أهديه إلى كل من يحلم بغد لا جوع فيه ، ولا فقر، ولا بؤس، وبعالم خال من الظلم والاستغلال، وإلى كل من يؤمن بأن عالما آخر ممكن، وبأن تحقيقه لا يتسنّى إلاّ بمناهضة الرأسمالية والإمبريالية الأمريكية، ومقاومة هيمنتها على الشعوب ونهب ثرواتها، وإلى كل من يؤمن بأن خيار المقاومة هو خيارنا الوحيد والمتاح.

وبهذا فإنني أهدي كتابي إلى كل عربي ما زال  حائرا ومفتونا بحريّة وديمقراطية  الغرب وأمريكا، وما زالت تساوره الشكوك والأوهام حول( نواياهم الطيبة) إزاء شعوبنا..وإلى كل عربي يسعى إلى فهم كنه أميركا وحقيقتها فهما يتأسس على الوعي والمعرفة بعيدا عن الترويج الإعلامي الكاذب.

هذا الإهداء جدير بالتأمل، فالكاتب _ المفكّر مسعد عربيد قدّم فيه جوهر تفكيره، ورؤيته، وانتمائه، وما يشغل تفكيره، ولا بد من الانتباه أنه معني بدحض أكاذيب أمريكا الإمبريالية عن نفسها، فهناك أمريكا( الأُخرى) المتوحشة، والتي نشأت على الإبادة، والظلم، والعدوان على الشعوب، ونهب ثرواتها…

أمريكا ( هوليوود) وال( سي أن أن) تفضح وتعرّى أكاذيبها وأضاليلها، وتزويرها.

يطرح مسعد عربيد سؤالا ربما يخطر ببال بعض القرّاء: كيف يكتب عربي أتيح له أن يقيم في أميركا، ويحمل جنسيتها، ويحصل على عمل في واحد من أفضل مستشفياتها، بعد أن تشرّد في بلاد العرب التي ضاقت به؟!

يجيب على التساؤل في الفصل الثالث المعنون( المغترب العربي ونقد أميركا): قد يذهب البعض إلى التساؤل : من أين لعربي ينعم برخاء أميركا أن ينتقد أيقونة الحرية والديمقراطية ، وحقوق الإنسان، بعد أن غادر بلده، وأوضاع أمته، على ما فيها من تخلّف وفقر واستبداد اقتصادي واجتماعي؟

يجيب في شقين: الأول أن المغترب العربي بحكم معايشته للأوضاع الأمريكية يتحمل مسؤولية نقد أميركا  ونقل حقيقتها، وهي مسؤولية أخلاقية وإنسانية تجاه أبناء بلده الأصلي، ، وتجاه أميركا التي يقيم فيها.، والبشرية جمعاء…( ص63 )

أحسب أن هذا الشق من الجواب كاف، ومن يريد الاستزادة لا بد أن يقرأ هذا الفصل كاملاً، ليعرف مبررات مسعد عربيد لتأليف هذا الكتاب الشجاع.

كل مناضل ومقاوم لا بد أن يقرأ هذا الكتاب ليتسلح بالنظرة العلمية الثورية لأمريكا الإمبريالية.

ما كان لي أن ( أعرض ) هذا الكتاب كما تُعرض الكتب في الصحف والمجلات، فهو كتاب يقرأ كاملاً، وبتأن وتعمق، فهو كتاب يزود القارئ بالمعرفة العلمية، ويفتح عقله على ما يجهل، وهو وإن هجا، فهو يهجو ما توصل إليه بالتجربة في الحياة الأمريكية، وما يعنيه معرفته من مسيرة الإمبريالية الأمريكية المتوحشة.

هذا الطبيب المختص بالأطفال، والذي يحمل الجنسية الأمريكية، غير محتاج ماديا، ويمكنه أن يرتاح بعد تشرّد عن وطنه فلسطين، وترحله من الأردن إلى الكويت ثم الأردن..ليستقر بعد معاناة مرّة في أمريكا بلاد الأحلام والفرص!..ولكنه يختار واعيا الكتابة بجرأة وشرف خدمة لفلسطين_ وأمريكا والكيان الصهيوني عدوان لها ولشعبها_ ولتأصيل الوعي بأمريكا الإمبريالية عدوة الشعوب، وفي المقدمة أمتنا العربية، وانظروا ما فعلته بالعراق، وتفعله في اليمن، وليبيا، ومصر، ولبنان…

يختار مسعد عربيد أن يكتب بجرأة علمية لشعبه، وأمته، وحتى لكل من يصله( خطابه) الفكري هذا، فاتحا العيون والعقول، وهذا واجب المثقف الثوري، حيثما كان يعيش، وهو يكتب من قلب أميركا: ألا يدعو هذا للتساؤل والمقارنة بين هذا الكاتب _ المفكر المنتمي،والكتاب والمفكرين المُزورين الذين يؤجرون عقولهم ووعيهم في بلاد العرب لأنظمة الرجعية؟!

أدعو كل من تعنيه قضيته الفلسطينية، والقضايا العربية، والذهاب إلى جوهر ما يحدث في بلاد العرب من استخدام للمجموعات الإرهابية التي تدمر بلادنا ومجتمعاتنا، والتي تتحالف سرا وعلنا مع العدو الصهيوني، وتنفذ مخططات أميركا الهادفة إلى نصر الكيان الصهيوني على أمتنا، إلى قراءة هذا الكتاب.

هذا الكتاب سلاح في معركة المواجهة مع كل أعداء الأمة، وهو ينضاف على كتب المفكر والباحث العربي البروفيسور منير العكش، الذي يكتب  وهو في قلب أميركا، ويحمل جنسيتها، والذي أغنى المكتبة العربية بما قدمه من كتب عمّقت وعينا ومعرفتنا.

اترك تعليقاً