يُعدّ سيفا فيدهياناثان أحد أبرز المتخصصين في منصات التواصل الاجتماعي وأبرز منتقديها بذات الوقت. وكتابه الشهير Anti Social Media يُعدّ عنواناً في هذا المضمار. فالكتاب يُعتبر إنجيلاً في نقد منصّات التواصل الاجتماعي، وإبراز مساوئها على المستخدمين خصوصاً فيما يتعلق بالجوانب النفسية والاجتماعية.

بعيداً عن كتابه المذكور آنفا، نشر فيدهياناثان مقالاً في صحيفة الجارديان مؤخراً يحاول فيه الإجابة عن تساؤل: لماذا نجحت فرانسيس هوغن، مديرة فريق النزاهة السابقة في فيسبوك، في إثارة الرأي العام الأمريكي ضد فيسبوك من خلال تسريبها وثائق داخلية تفضح تلكّؤ المديرين التنفيذيين في الشركة من اتخاذ إجراءات حاسمة لمعالجة الآثار الجانبية لتطبيقات فيسبوك؟ في حين فشلت زميلتها السابقة صوفي تشانغ، وهي متخصصة في التشفير، والتي انشقت بدورها عن “فيسبوك” في شهر أبريل/نيسان المنصرم.

تكمن إجابة فيدهياناثان عن هذا التساؤل في المنحى المختلف الذي اتخذته كلٌّ من هوغن وتشانغ في حملتهما ضد “فيسبوك” من حيث الشّكل والمضمون. بعيداً عن الشكل، والذي استثمرت فيه هوغن بشكل جيد وفق مبادئ العلاقات العامة وجماعات الضغط، حيث مهّدت لحملتها جيداً قُبيل الكشف عن هويتها، فإنّ المضمون هو ما يهمّنا هنا، ويهمّ القارئ في العالم العربي وغيره من مناطق ما يُسمى بالعالم الثالث.

من حيث المضمون، ضربت هوغن على وترٍ لا تستطيع أيّ عائلة سواء في الولايات المتحدة أو خارجها التغاضي عنه، إنه وتر يمسّ بشكل أساس الصحّة النفسية لأبنائهم، وبناتهم على وجه الخصوص. فتطبيقات “فيسبوك”، وكما تظهر دراسات فريقها الداخلي المتخصص، تؤثر بشكل واضح على القدرات الذهنية للأطفال. وبعبارة فيدهياناثان فإنّ تأثير “إنستغرام على انتشار اضطرابات الأكل وإيذاء النفس والانتحار بين الفتيات المراهقات” قضية يفهمها الأمريكيون جيّداً ويقفون “ضدها على وجه الخصوص”. لقد جلب ما أفصحت عنه التسريبات، مِن أنّ غالبية الفتيات اللاتي شملتهن دراسة “فيسبوك” الداخلية قد أشرن إلى أنّ “إنستغرام” قد ساهم في جعل انطباعهن السيّئ عن أجسادهن أكثر سوءاً، الصدمة للكثير من الآباء حول العالم وبالأخصّ العالم الغربي.

لا شكّ أنّ هذه المعلومات، في حال تأكدت من خلال دراسات مستقبلية، ستُثير القلق لدى العوائل في شتى البقاع. فمن بين المليار مستخدم النّشط على “إنستغرام”، هناك 71 في المئة ممن تقلّ أعمارهم عن 35 عاماً. فهناك ما يشبه هجرة الأجيال، فمنصّة “فيسبوك” أصبحت للمستخدمين كبار السن، بينما باتت “إنستغرام” ملعب المراهقين والشباب، وهو ما يُكسِب “إنستغرام” أهمية خاصة تضعه في دائرة المراقبة والتمحيص.

ما أثارته هوغن كان في صلب دائرة اهتمام الرأي العام الغربي، وهو رأي متحيّز لقضاياه الطارئة بلا شك. هذا ما أثبتته تسريبات تشانغ، والتي ركّزت على شريحة أخرى بالأساس، أي “مصائر الناس خارج الولايات المتحدة”. جاء انشقاق تشانغ إثر ما نشرته على صفحتها في فيسبوك بما يشبه مذكّرة وداع طويلة انتقدت فيها الشركة لتجاهلها أو إنكارها لمدى سهولة ونجاح القادة والحكومات الاستبدادية في اختطاف خدمات “فيسبوك” لتقويض الديمقراطيات أو الإطاحة بها.

مارك زوكربيرغ مؤسس ورئيس شركة فيسبوك (AFP)

كتبت تشانغ (بتصرف): “في السنوات التي قضيتها في فيسبوك، وجدت عدّة محاولات واضحة من كيانات سياسية أجنبية لإساءة استخدام منصتنا على نطاق واسع لتضليل مواطنيها، وقد غُطّيت على مستوى العالم في مناسبات عدة”. واستشهدت تشانغ بمشاكل في أذربيجان وهندوراس والهند وأوكرانيا وإسبانيا والبرازيل وبوليفيا والإكوادور. وقد أظهر تشانغ كيف أنّ دولاً مثل أذربيجان وهندوراس، والتي تُعتبر مهمّة بما يكفي لفيسبوك من أجل زيادة عدد مستخدميها وتنمية معدلات التفاعل، ليست مهمّة بما يكفي لفيسبوك للحدّ من انتشار الحسابات المزيفة المتلاعب بها، التي تدعم رواية القادة الاستبداديين. بعبارة أخرى، وحسب فيدهياناثان، فإنّ ما “يهمّ فيسبوك من هذه الدول هي نقراتهم، ولا تقيم الكثير من القيمة لحياة الشعوب في تلك البلاد ولا لحرياتهم”.

لم يكترث المديرون التنفيذيون في “فيسبوك” لحملات التضليل والأخبار المزيفة في دول العالم الثالث كما لم يكترث الرأي العام الغربي لهم، فقضايا الحريات والديمقراطية لم يعد لها ذلك البريق مع تصاعد سياسة الهوية التي عززت النزعات القومية وصعود التيارات اليمينية والمحافظة التي ترى في الآخر عدواً محتملاً، ولذلك فأقدارهم ومصائرهم لم تعد تشكّل هذه الأهمية.

في الحقيقية، أُكّد هذا التوجّه أيضاً من خلال تسريبات هوغن إلى صحيفة “وول ستريت جورنال”، وهو ما يُعرف بـ”ملفات فيسبوك” حيث أشارت إلى أنّ إدارة “فيسبوك” لم تقم بما يلزم لمكافحة حملات التضليل والأخبار الكاذبة خارج الولايات المتحدة كما فعلت داخلها، وهذا يلصِق بشركة “فيسبوك” تهمة العمل بازدواجية والكيل بمكيالين، وهو تصرّف يتنافى مع أبسط الأخلاقيات التي لطالما تغنّت فيها “فيسبوك”.

وهذا لا يشمل فقط دول العالم الثالث وحسب، بل حتى العديد من الدول التي تنتمي إلى العالم الغربي. فعلى سبيل المثال، كشفت دراسة أنّ غالبية محتوى المعلومات حول كوفيد-19 لا يُتحقق منه بنسبة 56٪ في حين تُعتبر النسبة لنفس المحتوى في اللغة الإنجليزية 26٪. وهذا يعني أنّ الأوروبيين هم الأقل حماية من المعلومات المضللة المتعلقة بوباء فيروس كورونا مقارنة بالأمريكيين. كما كشفت الدراسة أن الإيطاليين هم الأقل حماية من المعلومات المضللة مع نقص في تدابير الوقاية المعلوماتية بنسبة 69٪، يليهم البرتغاليون بنسبة 58٪ في حين جاء الفرنسيون في المرتبة الثالثة بنسبة 50٪.

إذا كانت لامبالاة “فيسبوك” في مكافحة حملات التضليل واضحة إلى هذا الحدّ في اللغات الغربية، فلنا أن نتخيّل كيف يمكن أن يكون عليه الأمر فيما يتعلّق باللغات الشرقية والآسيوية. وإذا كان هذا الأمر يأتي في ظلّ موضوع يحتلّ سلّم أولويات العالم حالياً ألا وهو وباء كورونا، فلنا أن نتخيّل كيف يكون الأمر مع بعض القضايا الأكثر جدلية على الإطلاق مثل القضية الفلسطينية والصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. فقد اعتادت “فيسبوك” أن تتعامل بازدواجية واضحة مع المحتوى الفلسطيني حتى بات يُنظر إلى “فيسبوك” بأنها كمن يشنّ حرباً رقمية على هذا المحتوى تحت ادعاءات ليس لها أي سند أخلاقي من قبيل أن المحتوى الفلسطيني يحرّض على الإرهاب والكراهية، وكأن المحتوى الإسرائيلي يحرّض على الحبّ والسّلام والوئام.

يبدو أنّ مشاكل “فيسبوك” أصبحت أكبر وأوسع من “فيسبوك” نفسها وتتخطى قدراتها، وهو ما يفرض على صنّاع القرار التدخل لفرض آليات جديدة لإدارة مثل هذه المنصات العملاقة ومراقبتها، والبحث في طرق للحدّ من تأثيراتها الجانبية، والوقاية منها. ومن نافلة القول التأكيد أنّ مثل هذه الآليات يجب أن تكون وفق صيغة المؤسسات “الفوق-دولة” على غرار الأمم المتحدة وغيرها بحيث تشترك فيها العديد من الجهات الرسمية وغير الرسمية.

جميع المقالات المنشورة تعبّر عن رأي كُتّابها ولا تعبّر بالضرورة عن TRT عربي.

TRT عربي