ثقافة وفن

الجوكــــر …قصة قصيرة .. فيصل سليم التلاوي

الجوكــــر …قصة قصيرة .. فيصل سليم التلاوي

 

      كانت المرة الأولى التي تجتاز فيها قدماي عتبة مبنى المحافظة بغية التصديق على بعض الأوراق المتعلقة بتصريح زيارتي. فقد كانت سحنة هذا المبنى المهيب تبعث الرعب في نفوسنا عن بعد منذ كنا أطفالا صغارا، بأسواره العالية ونوافذه الضيقة، و موقعه الحصين الذي يسند ظهره إلى سفح الجبل في الطرف الشرقي من المدينة، إضافة إلى سمعته السيئة على مر الزمن.

   لقد عرفناه صغارا باسم ” القشلة ” كما كان يسميه آباؤنا وأجدادنا، حيث بدأ رحلته الأولى مع الأيام مقرا للحاكم العثماني، ومكانا لاحتجاز الجنود الذين يساقون إلى الحرب سوقًا، ليضحى بهم مجانا في حروب” القرم” “والبلقان” و ” ترعة السويس ” وغيرها من ميادين القتال في معارك لا ناقة لهم فيها و لا جمل .

  ثم صار هذا المبنى مقرا لممثل المندوب السامي البريطاني في المدينة، فمستقرا للحاكم الإداري الأردني (المتصرف)، ومن بعده تحول إلى مقر للحاكم العسكري الإسرائيلي إلى ما قبل شهور خلت. و ها هو اليوم يعود إلى أهله للمرة الأولى، و ترفرف فوقه راية فلسطينية، و يصبح مقرا للمحافظ. لقد شهد تعاقب خمسة أعصر و دول مرت عليه في فترة زمنية وجيزة.

     ألصقت نفسي في ذيل طابور طويل من المراجعين، و أخذت أتأمل هذا المبنى الرهيب. أنظر تارة إلى السلالم المؤدية إلى الأقبية والسراديب تحته، وتارة إلى الغرفات الضيقة المصطفة على جانبي ساحته الواسعة، وأتذكر آلاف المناضلين الذين قبعوا في هذه الزنازين الضيقة أيام الاحتلال، وألوان التعذيب الذي تعرضوا له. منهم من قضى نحبه ليعبد الطريق للآتين من بعده، ومنهم من يتسلم المسئولية الآن و يفاوض العدو لانتزاع ما تبقى من أرض الوطن .

      أرسلت نظري بعيدا إلى حيث يصب هذا الطابور في قاعة واسعة يتوسطها باب كبير، علقت فوقه لافتة بارزة ” عطوفة المحافظ : محمود سليمان “

– محمود سليمان؟ قلت مندهشا و بصوت مسموع، و غلبني الضحك فما استطعت أن أتمالك نفسي، رغم نظرات الناس من حولي واستغرابهم لسبب ضحكي منفردا. وقلت في نفسي:

– إذا كان الله يخلق من الشبه أربعين في الوجوه، فقد يخلق من الشبه في الأسماء أربعمئة.

  وعادت بي الذاكرة إلى أيام طفولتي الأولى، وإلى محمود سليمان ابن قريتنا وابن صفي والذي يمت لي بصلة قرابة بعيدة. لقد كان ولدا أنانيا عدوانيا، يتلذذ بالشكوى من زملائه للمدرسين بسبب وبغير سبب، و يختلق التهم التي يلصقها بهم حتى يتسبب لهم  بلسعات مؤلمة من عصي المدرسين أو المدير. و كان ذلك لا يعود عليه إلا بكراهية زملائه وإعراضهم عنه، و كانت أنانيته أكثر ما تتبدى في حصة الرياضة البدنية، عندما يصر على أن يكون قلب الهجوم في لعبة كرة القدم، مع أنه لا يحسن هجوما و لا دفاعا. وفي لعبة كرة الطائرة كان يستميت على استلام الإرسال، رغم أنه ما أرسل كرة إلا إلى عرض الشبكة. فقد كان دائما يتسبب  بخسارة فريقه .

     ويوم شببنا عن الطوق، ووصلنا إلى مرحلة الدراسة الجامعية، كان من سوء طالعي أن محمود سليمان كان الوحيد من أبناء قريتنا الذي ساقه الحظ ليكون زميلي في نفس الجامعة وفي نفس الكلية .

  كانت أيام دراستنا أيام فورات ثورية، ننخرط فيها نحن الطلبة بكل ما أوتينا من حماس، ولا نجد مجالا نفرغ فيه هذه الشحنات الثورية المتصادمة إلا في المعركة السنوية لانتخابات اتحاد الطلبة. في سنواتي الأربع التي أمضيتها في الجامعة، تعاقب على اتحادنا أربع هيئات إدارية، كل واحدة تصطبغ بلون سياسي مختلف عن أختها . وكانت وجوه أعضاء الهيئة الإدارية التسع تتغير جميعها مع كل انتخابات، إلا وجها واحدا كان قاسما مشتركا حافظ على مقعده في الهيئات الأربع، وجه محمود سليمان.

  لقد كنا نسميه “الجوكر”، فإن له قدرة عجيبة على الانحياز لكل تيار صاعد، والانسلاخ عن كل تيار يأفل نجمه، مثل قدرة ” الجوكر ” على الاصطفاف مع أي لون من الأوراق في لعبة ” الهاند ” أو ” الكن كان ” .

    وعندما يحدث أن تشتعل مظاهرة طلابية في إحدى المناسبات الوطنية، فإن ذلك هو يوم محمود سليمان المشهود. لا تبصره إلا وقد اعتلى فوق كتفي أحد زملائه الغلاظ الشداد، وأطلق شدقيه بعالي الهتاف حتى يبح صوته .

  و عندما كانت مثل هذه المظاهرات تشعل الحماس في النفوس، و تختتم بحملة تطوعية للانخراط في العمل الفدائي، والالتحاق بقواعد المقاتلين في الأغوار أو في جنوب لبنان. عندها كنت تبحث عن محمود السليمان فلا تجد له أثرا، وكنا نعجب كيف ينسل في اللحظة الحاسمة كما تـسل الشعرة من العجين، ويتسرب من بيننا فلا نشعر به .

  كم مرة حاولنا أن ننصب له كمينا، فنتصيده في مثل هذا الموقف لنتندر عليه، لكنه كان يفلت في كل مرة من كمائننا.

  مضت سنوات تزيد على العشرين منذ أن افترقت عن صاحبي محمود السليمان، ما رأيته فيها قط، لكن ما فاتتني مناسبة أعود فيها من غربتي وعملي في الخارج إلا وسألت فيها عنه.

       قيل لي في أول عهد فراقنا:

– إنه قد تزوج ابنة مليونير، وأنه يحلم بالثراء عندما يحين اليوم الموعود، لكنه في صراع دائم مع صهره الذي يلح على ابنته لتتنازل عن نصيبها من الميراث لإخوتها الذكور، و صاحبنا يقف لها بالمرصاد و يهددها بالطلاق إن فعلت ذلك .

  لكن القدر يعاند صاحبي، فقد طال انتظاره – والأعمار بيد الله – و صهره الذي ذرف على التسعين لا يزال إلى يومنا هذا ينعم بتمام الصحة و العافية .

   و سمعت في مناسبات أخرى نتفًا من أخبار مشاريعه الكثيرة الفاشلة، محاولا أن يقلد صهره الثري وغيره من رجال الأعمال، لكنه لا يملك رأس المال أو الخبرة الكافية، فيتورط في مشروعات وهمية و تتضاعف ديونه مع كل مشروع . لكنه مع ذلك ما نسي بذرة الزعامة المغروسة في أعماقه. ما إن يسمع بانتخابات لمجلس الحي الذي يسكنه، أو لرابطة أبناء القرية في الخارج، إلا وجدته مرتديا بدلته الأنيقة السوداء، مصففا شعره الذي لم يخالطه بياض رغم ما انقضى عليه من سالف الأمد، منطلقا في حملته الانتخابية بحماسته المعهودة أيام الشباب، لكن النتائج وحدها هي التي تختلف هذه الأيام. فما عاد يفوز في أي انتخابات يرشح نفسه لها، لكن ذلك لا يثنيه عن تكرار المحاولة سنويا، ليحصد في كل مرة أصواتا أقل من أصواته في السنة السابقة.

  ويوم جاء اتفاق ” أوسلو ” وعادت جموع المقاتلين السابقين، لتكون قوات الشرطة و الأمن الوطني العائدة إلى أرض الوطن، و تدافع آخرون بحثا عن موطئ قدم يمكنهم من الانخراط في الصفوف العائدة، بالوقوف على أعتاب صديق قديم، أو بادعاء تاريخ نضالي مزعوم. يومها وجد محمود السليمان فرصته للنجاة بجلده، والفرار من ديونه  المتراكمة. ركب الموجة و تعلق ببعض ذوي النفوذ، وأعد بزته العسكرية، ولم ينس أن يُرَصِّعَ كتفيها برتبة رفيعة، وعاد مع العائدين وانقطعت أخباره عني .

     مع اشتداد الحرارة و طول الطابور منيت نفسي منذ البداية قائلا :

– لو كان المحافظ هو قريبي محمود السليمان، كنت سأرسل له ورقة أو إشارة مع عسكري، فيخرج بنفسه لاستقبالي واصطحابي إلى مكتبه، أو يرسل شرطيا لدعوتي للدخول فورا، فيريحني من عناء الانتظار في هذا الطابور الطويل .

  أفقت من رحلتي مع الذكريات على صوت باب مكتب المحافـظ ينفتح وينغلق، وهذا يعني أنني قد صرت قريبا من الباب.

         و أخيرا جاء دوري، وفتح الحاجب الباب، و خطوت داخلا .

     كان محمود السليمان ابن قريتنا بلحمه وشحمه يجلس على كرسي المحافظ، حييته بالسلام ووضعت أمامه أوراقي، فوقعها ودفعها إليّ دون أن يرفع رأسه عن أوراق يقلبها بيده. ما سمعت رده على تحيتي، ومضيت لا أدري هل نسي محمود السليمان اسمي ورسمي، أم تجاهلني خشية أن أنسى الرتب والألقاب إن كلمني فأبادره بالتحية المعهودة:

– أهلا بالجوكر .

 

اترك تعليقاً