من هنا وهناك

الحالة الثقافية ضحية فوضى (الربيع العربي)

أ-د/إبراهيم ابراش

الثقافة والمثقفون مسألة إشكالية ،سواء من حيث التعريف أو من حيث الدور والوظيفة في النسق الاجتماعي ، هكذا كانت في البدء وهكذا تفاقمت في ظل التحولات المتسارعة للفضاء السبيرنيتي . وإن كان من الممكن تعريف الثقافة حتى في ظل تعدد المقاربات والمداخل الابستمولوجية ، أو على الاقل حصر العناصر الدالة عليها سواء على مستوى الثقافة الوطنية – العالِمة والشعبية –  أو الثقافة الإنسانية العالمية  ،إلا أن تعريف المثقف بات أكثر صعوبة مما كان عليه سابقا  ،في ظل تداخل الصناعات الثقافية ،والاعتمادية المتبادلة بين كل صنوفها ، وفي فضاء سبيرنيتي مفتوح للجميع ليعرض بضاعته دون ضوابط تُميز بين الغث والسمين ،إلا ثقافة المتلقي ذاته ومنظومته المعرفية للحكم على الأشياء .

في الحالة العربية يمكن رصد ظاهرة بمثابة المفارقة ، فبالرغم من كثرة عدد الأشياء والأشخاص الذين يمكن إدراجها / إدراجهم في الإطار العام لـ (الثقافة والمثقفون) ، وبالرغم مما يوفره الفضاء السبيرنيتي من فرص وإمكانيات للتواصل والتفاعل بين البشر ، إلا أن ذلك لم يُنتج  حالة ثقافية ذات حضور وتأثير في الحياة الاجتماعية والسياسية وحتى الثقافية ،بل نلمس تراجعا عما كان عليه الحال في النصف الثاني من القرن العشرين ،بل عما كان عليه الحال في بدايته حيث تشكلت حالة تم تسميتها بعصر النهضة العربية .

اليوم حَلَ مُفتّون ودعاة ورجال دين محل المثقفين والمفكرين والمبدعين الحقيقيين ،وحل الإتباع محل الإبداع  في كل المجالات ،بحيث بات الأولون يُفتَون في كل شيء من الوضوء ومُبطلاته والنكاح وأنواعه ، إلى الاقتصاد والذرة وعلوم الطبيعة ، مرورا بالفن والفكر ، هذا ناهيك عن الحلول محل الله في التحريم والتحليل وفي العقاب والثواب ، ومحل الدولة وقوانينها ودساتيرها في إدارة شؤون الامة ، بل باتوا يُكَفِرون ويُرهِبون كل من يخالف فتواهم وأحكامهم . كما أن ضغط الحياة اليومية والمتطلبات المرتفعة للمعيشة دفعت كثيرا من المثقفين لتأجير أو بيع نتاجهم وفكرهم لفضائيات ومراكز أبحاث رسمية ، أو الدخول في منافسة أو صراع غير متوازن من أجل البقاء مع أشباه مثقفين مدعومين ماليا ومحميين رسميا .

كان من المُفترض أن يُنتج ما تم تسميته زورا وبهتانا بـ (الربيع العربي ) المثقف العضوي الذي يتفاعل مع الثورة ويدافع عنها وعن حقوق الشعب بفكره المتميز ، بل كان من المفترض أن هذا الصنف من المثقفين هم مفجرو الثورة وفي طليعتها ، إلا أن الملاحظ أن هذا النوع من المثقفين وإن برز البعض منهم في بداية الحراك الشعبي إلا أنهم أخلوا مكانهم ، أو أُجبِروا على ذلك ، لرجال دين وطلاب سلطة ومغامرين ،ملئوا كل الفضاءات مدعومين بالفضاء السبيرنيتي من فضائيات وانترنيت الخ ، وبمال سياسي بعض مصادره معروفه وأخرى مجهولة للعامة حتى الآن. لم تقتصر ظاهرة تراجع الحالة الثقافية وغياب المثقفين العضويين على دول (الربيع العربي) بل امتدت للدول الأخرى ،حيث كل فئات المجتمع باتت مشدودة ومستنفرة خوفا من الانفلات الأمني والإرهاب .

خطورة ما يجري في العالم العربي وخصوصا في دول فوضى الربيع العربي ، ليس فقط تدمير الدولة الوطنية ومقدَّراتها ،وتفكيك المجتمع والضمير الجمعي ،وإثارة كل النزعات الطائفية والعرقية والعشائرية حتى البشرية الهمجية ، بل أيضا تدمير الثقافة والهوية الوطنية دون القدرة على انتاج ثقافة وهوية بديلة محل إجماع أو توافق أغلبية المجتمع أو الشعب ، وكيف يتأتى ذلك والشعب أو المجتمع لم يعد مُعَرَّفا ومحددا ـفلكل فئة مقاتِلة تصورها الخاص للمجتمع أو الشعب أو الأمة ، فالعيش المشترك في حدود جغرافية لم يعد كافيا أو يتماهى مع مفهوم المجتمع .

في ظل أنظمة ما قبل (الربيع العربي) وبالرغم مِن كل ما قِيل عن استبداد الانظمة وفسادها إلا أنه كانت توجد حالة ثقافية واعدة متفاعلة مع مجتمع مدني حقيقي قيد التَشكُل ،يمكن المراهنة عليها ، حالة ثقافية انتجها العيش المشترك ،والصراع ضد الأنظمة الاستبدادية والتخلف والهيمنة الخارجية في نفس الوقت ، لأن الثقافة الوطنية لا تعني تماهي مكوناتها أو تماهيها مع النظام السياسي ،بل هي فضاء الاختلاف ولكن في إطار الوحدة الوطنية .

صحيح أيضا أن الحالة الثقافية كانت محل خلاف من فئات إثنية ومذهبية ،ولكن لم تكن تصل لهيمنة أو تَسّيِد نزعات إقصائية أو استحواذية ،كما أن الاستقرار النسبي للدولة والمجتمع والنضال من أجل المواطنة بالرغم من الثمن الباهظ الذي كانت تدفعه الفئات المظلومة والمناضلون من أجل الحرية ، كل ذلك كان يُبشِر بإرهاصات تحوُّل متدرج أو مخاض صعب للديمقراطية .

استباحة الدولة وتفكيك المجتمع وتذرر الثقافة والهوية ،يدفعنا للتساؤل إن كان الهدف من إثارة الفوضى في الدول العربية وعملية الإقصاء للثقافة والمثقفين التنويريين والديمقراطيين – خصوصا في مصر وتونس وسوريا – هو الانتقال نحو الديمقراطية والقضاء على أنظمة فاسدة ؟ أم كان الهدف قطع الطريق على حالة استقرار كانت تزعج مَن كانوا يخططون لتجزئة المنطقة واستنزاف خيراتها ؟ صحيح أن تلك الانظمة لم تكن ديمقراطية بمقاييس الغرب ، ولكن هل أنتج (الربيع العربي) حالة ديمقراطية أو كان مَن يقف وراء الفوضى يريدون الديمقراطية ؟ .

وأخيرا نقول ،إن مسؤولية وطنية وأخلاقية كبيرة تقع على عاتق المثقفين الوطنيين المتنورين ،سواء مثقفي ما قبل فوضى الربيع العربي أو المثقفين الجدد الذين شكلت الأحداث ثقافتهم ، مسؤولية تشكيل حالة ثقافية وطنية جامعة ،تواجه حالة الرداءة السياسية والأخلاقية التي تهيمن عليها التعصبات الحزبية والمعتقدات الإقصائية  ، وتواجه أشباه المثقفين من ،متأسلمين ،مُتَكَلِمة ،وكَتبَة رجال المال والسلطة ، والمثقفون يستطيعون ذلك .

إن كان الفضاء السبيرنيتي مفتوحا للفاسدين وأصحاب الأجندة المشبوهة ،فهو مفتوح أيضا للمثقفين والوطنيين الاحرار إن أحسنوا توظيفه ، وإن كانت فوضى الربيع العربي سمحت لشرائح وفئات ومعتقدات فاسدة أن تظهر وتحاول توجيه الأمور لصالحها ،فلماذا لا يحاول المثقفون انقاذ أكبر قدر من القيم والأخلاق والثقافة الوطنية وتشكيل حالة يمكن البناء عليها ، وخصوصا أن الشعب بدأ يستفيق من صدمة (الريع العربي) ويكتشف حقيقة ما يجري . إن سَقَط وتخاذل المثقفون فلا أمل باستنهاض الأمة.

Ibrahemibrach1@gmail.com

اترك تعليقاً