الأخبارالأرشيف

الخروج من مربع الرئيس – معين الطاهر

يُقدّر للرئيس الفلسطيني، محمود عباس، موقفه الرافض صفقة القرن، ويُقدّر له ثباته على ذلك الموقف منذ رفضه نقل السفارة اﻷميركية إلى القدس، وهي الخطوة التي شكّلت تباشير الصفقة، ولحظات ولادتها اﻷولى. وقد أعاد التأكيد على هذا الموقف مرارًا وتكرارًا، في مناسبات عدة، جديدها بعد احتفال واشنطن بإعلان الصفقة، وفي اجتماع القيادة الفلسطينية الذي حضره ممثلون عن حركتَي حماس والجهاد الإسلامي، وفي الاجتماع الوزاري في جامعة الدول العربية، حيث أحرج الموقف الفلسطيني الرافض الصفقة الموقف العربي الرسمي، فاضطر مرغمًا إلى رفض الصفقة بإجماعٍ مريب، ضم الذين حضروا العرس في واشنطن، وأولئك الذين هلّلوا لرؤية الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وطالبوا السلطة الفلسطينية بأن تبدأ فورًا مفاوضات مباشرة مع الجانب الصهيوني برعاية أميركية.

يُقدّر للرئيس عباس أيضًا إعلانه أخيرا في المجلس المركزي الفلسطيني أنّ السلطة الوطنية الفلسطينية ستعيد النظر في دورها الوظيفي، وهو ما تجاوزه في اجتماع وزراء الخارجية العرب، عندما أعلن أنه أرسل رسالتين إلى الإدارة اﻷميركية ورئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو، يعلمهما قراره قطع العلاقات مع الجانب الإسرائيلي، وفي مقدّمتها التنسيق اﻷمني. وندعو الله أن يُثبّت الرئيس على هذا الموقف الذي تكرّر في أروقة السلطة الفلسطينية، ومؤسساتها، واجتماعات لجانها التنفيذية والمركزية 59 مرة، على أن يُمزج هذا الموقف والقرار، ودعوة جميع الحريصين على وحدة الشعب الفلسطيني في مواجهة صفعة القرن، بقليل من القطران، حتى تتوقف قرارات السلطة الفلسطينية عن التماثل مع المقرّرات العربية الرسمية التي تحاول أن تمتص غضب الشعوب كلامًا، ثم تهرول نحو العدو فعلًا.

وجميلة هي الدعوة إلى موقف فلسطيني موحّد، فعلى صخرتها تنكسر سهام الصفقة التي تغدو لا قيمة لها ما لم تجد طرفًا فلسطينيًا يوافق عليها، ويسعى في ركابها. وقد أجاد الرئيس، حين ردّ على دعوة رئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنية، إلى اللقاء في القاهرة التي كانت أول من هلّل لإعلان ترامب، بالإعلان عن عزمه زيارة غزة، لكنّ زيارة الرئيس الموعودة إلى غزة تحوّلت إلى زيارة وفد من حركة فتح يمهّد للزيارة بعد مباحثات مع حركة حماس، فإن أفلحت المباحثات ذهب الرئيس إلى غزة. وعلى الرغم من الإعلان عن أسماء الوفد، فإنّ ذهابه إلى غزة تأجّل، في إشارة إلى تعثّر مهمته قبل أن تبدأ.

على الرغم من حاجتنا إلى أن ننظر إلى نصف الكوب الملآن في خطابات الرئيس محمود عباس، وأن نمنّي النفس بموقف فلسطيني موحّد بعد سنوات الانقسام المريرة، فإنّ الجزء الفارغ من الكوب يثير من اﻷسئلة ما يستوجب قلقًا كبيرًا حول الرسائل التي أراد توجيهها الرئيس الذي ما زال مصرًّا على البقاء في المربع ذاته الذي وضع نفسه فيه، وأحكم إغلاق ضلوعه على المسار الفلسطيني كله منذ نحو ثلاثة عقود.

يعلن أنه ما زال متمسكًا بالسلام، ويدعو إلى مفاوضات مباشرة مع الحكومة الإسرائيلية مشترطًا ألّا تنفرد الولايات المتحدة برعايتها، ويقول إنه بصدد تقديم رؤيته للسلام أمام مجلس اﻷمن في 11 فبراير/ شباط الحالي، معلنًا قبوله مقدمًا بقرار المجلس أيًا كان، وهو يعلم علم اليقين استحالة صدور مثل هذا القرار لوجود الفيتو اﻷميركي، والنتيجة المعروفة سلفًا هي قرار مكرّر ومعاد باللجوء إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، على أساس الفصل السادس، وتحت بند الاتحاد من أجل السلام، وهو تهديد يتكرّر في كل عام مع اجتماع الجمعية العامة، ولم يُنفّذ في أي عام. لا شك في أهمية جميع المنابر الدولية، في ظل محاولات الإدارة الأميركية استبدال الشرعية الدولية بشرعية الأمر الواقع، لكنّ الأهم هو العمل على الأرض لمقاومة هذا الواقع الذي يتم فرضه.

يبدو واضحًا أنّ ثمة اختلافًا في أولويات التحرّك وسبب تأجيله. تُرى هل يكون ذلك انتظارًا لنتائج الانتخابات الإسرائيلية؟ وهل يبني عليها أملًا بإمكان هزيمة نتنياهو فيها؟ وهل، إذا ما هُزم، سيتغيّر شيء في السياسة الصهيونية؟ علمًا أنّ منافسه بيني غانتس قد أعلن موافقته على رؤية ترامب، بل وكان أول من دعا إلى ضم اﻷغوار. وهل لهذا السبب استرسل محمود عباس في خطابه أمام جامعة الدول العربية في شرح مفاوضات اتفاق أوسلو التي جرت بإشرافه وإشراف شيمون بيريز، وبمعزل عن اﻷميركيين، ليصل إلى نتيجة أنّ الولايات المتحدة تعيق الحل، وأنها لو تركت الفلسطينيين والصهاينة وحدهم لتوصلوا إلى نتيجة، كما حدث في اتفاق أوسلو الذي نجح لغياب الولايات المتحدة عنه؟ وكيف نفسّر ما شهدناه في الخطاب من هجوم شديد على الولايات المتحدة، وتجاهل تام لدور إسرائيل في إعاقة التقدّم نحو حلّ متفق عليه؟ وإلى أين سيقودنا هذا المنطق؟
في الاجتماع ذاته، أعلن الرئيس محمود عباس أنه أبلغ الولايات المتحدة وإسرائيل وقف التنسيق اﻷمني بين السلطة الفلسطينية والكيان الصهيوني، مؤكّدًا أنهم بعد اليوم لن يحظوا بحماية، أو بمعلومات “أبو أبوهم ما بقدر يحصل عليها”! هنا لم يكشف الرئيس عن مستور، بقدر ما هو إعلان واضح عن حقيقة التنسيق اﻷمني الذي يضمن للإسرائيليين الحماية من هجماتٍ محتملة، ومعلوماتٍ لن يستطيعوا الحصول عليها من دون مساعدة اﻷجهزة اﻷمنية الفلسطينية. لكن هل توقّف ذلك فعلًا كما أعلن مرارًا وتكرارًا، أم كان تلويحًا به ليذكّرهم بالخدمات التي قامت بها أجهزة السلطة على مرّ اﻷعوام الماضية، ويحذّرهم من الآثار المحتملة لعدم تدفق المعلومات؟

 
ثمّة اعترافٌ بأنّ للسلطة الفلسطينية دورًا وظيفيًا مرسومًا في الاتفاقات، منذ اتفاق أوسلو. وثمّة تهديد بتغييره، بمعنى أنّ اﻷجهزة الفلسطينية ستتوقف عن تقديم الخدمات اﻷمنية للإسرائيليين، في ما يُعرف بالتنسيق اﻷمني، الذي لن يستطيع أحد اليوم أن ينكر وجوده وفاعليته وتأثيره، بعد أن أعلن عنه الرئيس عباس بهذا الوضوح، في خطابة الطويل في اجتماع وزراء الخارجية العرب. نعم يوجد تهديد جادٌّ بوقفه، ولكنه عندما يتوقف فعلًا، فإنّ الشعب الفلسطيني سيلمس ذلك مباشرة، وهو ما لم يحدث، إذ إنّ تغيير الدور الوظيفي للسلطة، ووقف التنسيق اﻷمني، ليس مجرّد قرار يُتخذ على الورق، بقدر ما يحتاج إلى استعداد، وتهيئة، وتجهيز، وإعادة نظر في بنية السلطة ووظائفها، فهو فَتْحٌ للمعركة على مصراعيها مع العدو الصهيوني، وانتقال بالمشروع الوطني من مرحلة إلى أخرى، وإعادة اعتبار منظمة التحرير الفلسطينية، وإلغاء الاتفاقات التي أُبرمت، وسحب الاعتراف بإسرائيل، وإطلاق مقاومة شعبية شاملة في جميع أرجاء الوطن المحتل، ودعم المقاومة في غزة، والنضال ضد نظام الأبارتايد والتمييز العنصري. إنه الخروج من مربع أوسلو، والانتقال إلى دائرة الفعل الثوري. وما دون ذلك لن يغيّر في المشهد شيئًا، وسيظل الرئيس حبيس مربعه، فاقدًا فرصةً أخيرةً لأن يتحرّر من هذا الماضي، في صحوة مرحبٍ بها، وإنْ متأخرة