الأخبارالأرشيف

الخلية الفرد…والانتفاضة الفدائية – عبد اللطيف مهنا

إنه ” ليس ابني وحدي، بل ابن فلسطين وفخر للجميع، وزلزل الكيان كله، الحمد لله”…بهذه الكلمات المعبّرة لخَّصت زوجة الشهيد الفدائي نصر جرَّار، ووالدة الشهيد الفدائي احمد نصر جرَّار، كل ما اعتمل في عمق وجدان الشعب الفلسطيني لحظة ورود نبأ الاستشهاد البطولي لأبنها المقاوم، بعد معركة خاضها ببندقيته وبمفرده مع ارتال حاصرته من المحتلين المدججين بالأسلحة ووسائل القتل المتطورة. وإذ هي بدأت منتصف الليل في مكمنه الأخير في اطراف بلدة اليامون قرب جنين، فهي لم تنتهِ إلا في الساعة الثامنة صباحاً.

ربما ما قالته أم احمد لم يزد على ما اعتدنا سماعه من كل أمهات الشهداء والشهيدات الفلسطينيات، كما وإن الاستشهاد بذاته قد بات طقساً نضالياً شبه يومي بالنسبة للفلسطيني المواجه لقهر الاحتلال على مدى الصراع، لاسيما في مثل هذه المرحلة التي هو  فيها ليس المستفرد به ومن ظهره إلى الحائط فحسب، وإنما العرضة لتكاتف بغيض ومشين من العجز العربي، ليس الراعي للأوسلوستانية الانهزامية المساومة والداعم لها فقط، بل والمتواطىء مع جبهة أعداء شعبنا وأمتنا وعلى رأسهم، ودائماً، الولايات المتحدة وصهاينتها واسرائيلها وما يتبع.

لكننا هنا أمام حالة استشهادية لها خصوصيتها الفذة لمناضل مميز قاد عملية فدائية نوعية لجهة توقيتها الاستنهاضي ودقة واحترافية تنفيذها ذي التطور الأدائي المبهر، فالانسحاب المدروس بسلام بعد إنجازها الناجح. وبالمقابل الفشل الذريع الذي كان من نصيب المحتلين في كشف منفّذيها أو تتبعهم، لولا بلوى “التنسيق الأمني” الدايتوني، وكاميرات أجهزة السلطة التي ساعدت في اكتشاف وتتبع قائدها. وما اعقب من تجنيد المحتلين لكافة صنوف اجهزتهم ومختلف قواهم الأمنية، بما في ذلك قوات النخبة ومستعربي فرقة “يمام”، لمطاردته، حيث اشتبك معهم ثلاث مرات خلال 24 ساعة فقط ولم يتمكنوا منه، وفي واحدة منهن اوقعهم في كمين ملحقاً بهم الخسائر وفيها سقط ابن عمه شهيداً، وأخيراً إذ ارتقى شهيداً، وبعد شهر من المطاردات، بدا وكأنما كيانهم بكامله يشارك بها، قالت روايتهم أنه في لحظته الأخيرة قد خرج لملاقاتهم مقاتلاً حتى استشهد.
إن ما اقلق المحتلين بحق هو تحوّله بعد العملية، وإبَّان المطاردات، وإثر الاستشهاد، إلى أيقونة بطولية نضاليه في نظر شعبه، بل ومثَّل حالة فدائية خاصة وملهمة، لاسيما وأن ما لا يزيد عن الشهر هو الفاصل بين عملية نابلس التي قادها وأودت بواحد من غلاة التهويد واعمدة نشر المستعمرات المسماة “عشوائية” ولا تلبث وأن تكرَّس لاحقاً رسمية، حاخام مستعمره “حفات جلعاد” رزيئيل شيبح، وبين العملية اللاحقة عليها والشبيهة بها والتي أودت بمتطرف من شاكلته على بوابة كتلة “اريئيل”، هذه التي باتت ثاني مدينة تهويدية في الضفة، وهو حاخام مستعمرة “هار براخا” ايتمار بن غال، إذ وقعت الأخيرة قبيل ساعات من استشهاده، ولا زالوا يطاردون من يتهمونه بتنفيذها وهو المناضل المطارد عبدالكريم عاصي، وحالت حارات نابلس بحجارة ودماء شبابها دون ظفرهم به، أما الثالثة، فعمليه مستعمرة “كرمي تسور” شمالي مدينة الخليل التي نفذها الشهيد الفدائي حمزة زماعرة، بعيد استشهاده بيوم واحد.

بدمه الزكي الطهور خط الشهيد البطل احمد جرَّار على ثرى اليامون قرب جنين اعلاناً نضالياً مرعباً للمحتلين والمتعاونين معهم، يقول: إن انتفاضة القدس مستمرة، وإن فدائية الإرادة المقاومة في تطوُّر، وإن الضفة الغربية هي ساحة الاشتباك الرئيسة مع المحتلين وخط تماس المواجهة المستمرة معهم حتى دحرهم…لقد دشَّن الشهيد قبل رحيله ابتكاراً نضالياً ذا جدة، في مواجهة تغوُّل سطوة الاحتلال الفاجرة، المردوفة بالتعاون الأمني الأوسلوي المشين مع المحتلين، أي يأتي جديده هذا في سياق محاولات الإرادة المُقاوِمة لدى الشعب المقاوم التغلب على جسامة المعيقات الناجمة عن هذه الثنائية الاحتلالية الأوسلوستانية القائمة، ومن هذه المحاولات اعتماد الخلية الفرد، لكنما دونما يحول دون مسعي مثابر لتجسُّد عملياتي ينحو باتجاه نوع من تأسيس تراكمي لانتفاضة فدائية مسلحة…وهذا بالضبط ما يخشاه المحتلون،  وتحدثت عنه صحيفة “يدعوت احرونوت” واصفةً إياه بالمؤشر على عودة العمليات المنظّمة التي خرجت من اطارها الفردي نحو العمليات الجمعية المخطط لها”، وزادت فقالت، إن هناك ” ما يدلل على وجود بنية تحتية صلبة للمقاومين. وإن تلك الخلية تمتلك جيشاً من الفدائيين الذين يستعدون لتنفيذ عمليات مشابهة لعملية قتل الحاخام قرب نابلس”.

اثر استشهاده عمت الكيان الاحتلالي بكافة مستوياته السياسية والأمنية ومستعمريه نوع من الاحتفالية، والتي هي إن دلت على شيء فإنما على مدى هشاشة هذا الكيان القاتلة…قال وزير الحرب لبرمان شامتاً مطمئناً مستعمريه: “لقد أُغلق الحساب مع من كان يلعب في الوقت الضائع”، لكنما تسرُّعه لإغلاقه هذا الحساب هو ما لا يتفق معه عليه الكثيرون في كيانه الاحتلالي، ومن بينهم زوجة الحاخام القتيل التي اعتبرت الإغلاق اللبرماني “لم يحل المشكلة بعد”، وتساءلت “وماذا عن البقية؟”…وهنا هي إنما تشير بقصد أو من دونه إلى كون هذا الحساب بالنسبة للشعب الفلسطيني يظل المفتوح والذي لن يغلق إلا بدحر الاحتلال…بتحرير كامل فلسطين والعودة لكاملها.