الأرشيفوقفة عز

الشهيد جيفارا موعد (محمد عبد القادر موعد) – نضال حمد

الشهيد جيفارا موعد (محمد عبد القادر موعد) – نضال حمد

ليس من السهل على أي كان الكتابة عن شهداء سوف يخلدهم التاريخ الفلسطيني. من هؤلاء الشهيد البطل محمد عبد القادر الموعد المشهور والمعروف بإسمه الحركي “جيفارا موعد”. الذي أطلقه على نفسه تحبباً بالثائر الأممي الكبير أرنستو تشي جيفارا. فمثلما وهب جيفارا أمريكا اللاتينية حياته لأجل قضايا الثورة والتحرر في ميادين النضال وساحات القتال، وهب جيفارا مخيمنا عين الحلوة وبلدته صفورية ومعسكر أشبال الثورة وحركة فتح، حياته منذ الطفولة وحتى الاستشهاد، وهبهم ذلك لأجل تحرير فلسطين كل فلسطين. فكيف لا يفعل ذلك وهو شقيق لشهيد سبقه روحاً واستشهادا نحو صفورية وفلسطين، إنه الشهيد عبد العزيز عبد القادر موعد الذي استشهد عام 1969 في معركة الحمة الشهيرة في فلسطين المحتلة.

لا يمكن الحديث عن معسكر الأشبال في مخيم عين الحلوة دون الحديث عن جيفارا موعد ولا يمكن الحديث عنه دون الحديث عن الأشبال والزهرات والمعسكر. فقد كان واحداً من المدربين المحبوبين في المعسكر منذ بداياته الأولى. فكل من عاش في تلك الفترة من الزمن في مخيم عين الحلوة يتذكر الشهيد جيفارا موعد ويتذكر شهداء آخرين كثيرين تخرجوا فدائيين ومناضلين ومقاتلين من المعسكر المذكور، الذي كان يقع قرب حي التعمير اللبناني الفقير، على تخوم مخيم عين الحلوة. وبالقرب منه كانت سكة الحديد التي تربط لبنان بفلسطين المحتلة، وعلى الجانب الآخر منه كان ملعب كرة القدم والكينيات وبساتين الحمضيات. بمناسبة الحديث عن حي التعمير والمعسكر فقد شاء القدر أن يسقط هناك شهيداً في الثالث عشر من شباط 1982 أحد أشرس القادة الميدانيين والعسكريين الفلسطينيين، الشهيد أو كفاح فهد – نادر قدري فزع- القائد العسكري للقطاع الأوسط  ووحدة المدفعية والصواريخ في جبهة التحرير الفلسطينية بزعامة الشهيد الأمين طلعت يعقوب. استشهد أبو كفاح وهو يحاول تفكيك عبوة ناسفة وضعها عملاء الاحتلال في سيارة قرب المعسكر في الحيّ المذكور.

يقول أحد الأشبال الذين تتلمذوا وتدربوا على يدي جيفارا في المعسكر المذكور:

(نشأنا نطلق لقب الأخ على مدربينا في المعسكر وما أكثرهم حسب الذاكرة : الأخ هواري وكان هو قائد المعسكر ومن قبله كان الأخ عاصم والأخ جيفارا والأخ عيسى والأخ وليم والأخ بهاء والأخ عبد الغفور والأخ بديع والأخ سليمان السسيفة والأخ أبو رعد ألخ …)

ويتابع هذا الشبل الذي أصبح الآن رجلاً في الخمسينيات من عمره:

(الأخ جيفارا كان أقربهم لنا كأشبال وزهرات …. فقد كان شخصية مميزه ولا يمكن أن تطلق عليه صفة وتكتفي …كان حازما جدا اثناء التدريب ولا يتوانى عن أي شي في حال كان هناك تقاعس أو تقصير… ولكن في نفس الوقت كان حريصا جداً علينا جميعاً، أشبالا وزهرات (بعقلية الرجل الصفوري) وكان حرصه يصل الى أنه بعد انتهاء يوم المعسكر، كان يرافق كل منا الى منزله في حال تأخرنا في المعسكر لما بعد المغرب، حتى يطمئن الأهل، لا سيما أنه كان يوجد بيننا زهرات. أتذكر كيف كنا نلف المخيم معه والمجموعة تتناقص الى أن نصل الى بيت آخر شبل أو زهرة… وغالباً ما كان بيتي آخر البيوت بحكم أننا في نفس الحيّ (حيّ صفورية).

كان الشهيد جيفارا موعد انسانا مثقفاً ومتعلماً وواعيا ومدركاً لضرورة الوعي والمعرفة والعلم في مسيرة النضال الفلسطيني، حيث كان هو نفسه يتابع دراسته خلال دوامه العسكري اليومي في المعسكر.  وفي هذا الصدد يقول أحد الأشبال الذين عاشوا التجربة مع الشهيد جيفارا في معسكر الأشبال:

“كان جيفارا هو والأخ هواري حريصين على علمنا وكانوا يسألون دوما عن علاماتنا المدرسية وحتى هو شخصيا (كما الأخ هواري)  كان يتابع دراسته الجامعيه خلال تلك الفتره. أتذكر كيف كان يذاكر في المعسكر تحت أشجار الكينيا “الكينيات” ماشيا ذهابا وإيابا.. كنت أحيانا أرافقه وأحيانا أعيد من وراءه جمل مما يدرس وأنا لا أفهم معناها… حيث كانت تربطني به علاقه خاصه وكنت أحيانا أناديه بإبن خالتي وهو فعلا هناك قرابه تربط والدتينا. شخصيته كانت لا تخلو من الطرافة خلال اللقاءات الخاصة. لقد زرع فينا هو والإخوة المدربين حب فلسطين والإنتماء لشعبنا وقضيتنا ومخيمنا … وأذكر أنه كان يبادر بأن نعمل حملات نظافة في المخيم، نحمل المكانس ونكنس الشوارع .”

في هذا المخيم كان جيفارا ورفاقه وإخوته وأخواته من المدربين والمدربات يدربون ويدربن الأشبال والزهرات على فك وتركيب السلاح واستخدامه. وعلى تمارين وتدريبات أخرى منوعة. في هذا الصدد قال لي أحد الأشبال في تلك المرحلة من العمر ومن مسيرة الثورة والنضال، أن جيفارا: ” في التدريب دربنا على كل ما يناسب عمرنا في تلك المرحلة. فقد دربنا على الزحف على الأرض وعلى الحبال وعلى الزحف تحت الأسلاك الشائكة وداخل أنفاق البراميل، والقفز على الحواجز … كما دربنا على جميع الأسلحة الخفيفة… وكان يحرص على سرعة الفك و التركيب، ومنه أول ما سمعنا الجملة الشهيرة: “أول ما يُفك آخر ما يُركب”… وكان يقيم مباريات في الفك والتركيب ونحن مضمدين الأعين . كما كان يشدد دائماً على تحية العلم. كل يوم نصطف في طابور لرفع العلم صباحا وإنزاله مساءا … وعَلّمنا أن لتحية العلم قدسيتها … وكان العقاب الشديد لمن يتهاون بذلك. ببساطة لقد خرج أشبالاً قاوموا الدبابات “الإسرائيلية” خلال الإجتياح سنة 1982.”.

في 12- 2012 كتب الأخ محمود خطاب وكان من أشبال ذلك الزمن الجميل، مستحضراً سيرة حيفار موعد: ” كان الاخ محمد الموعد من الذين يُحافظون على الصلوات في أوقاتها.. وكان يصوم شهر رمضان ويصوم أيام الاثنين والخميس.. وكان يساعد الفقراء وعندما كان يعلم أنّ إمرأة جاءت من الجنوب، كان يعطيها كل مايلزم من المأكل والمشرب والمسكن والمال.. وكان أحياناً يستلف من الناس فلوس حتى يُساعد العائلات الفقيرة. وكان يصل رحمه أينما كانوا..

في يومٍ من الأيام كنا عند دار خاله في مخيم نهر البارد وعند عودتنا الى البقاع خاف أن يفوت عليه صلاه العصر، دخلنا موقع الغربي فأخذ إبريق الماء كي يتوضأ فتبين أن الابريق مازوت فتوضأ بهِ وكانت تلك لحظات أضحكتنا كثيراً”.

جيفارا موعد الذي ولد في الشتات في مخيم عين الحلوة هو ابن بلدة صفورية في فلسطين المحتلة. كما أنه ابن عائلة فلسطينية عريقة لها دور كبير في النضال الوطني الفلسطيني. كان همه تحرير فلسطين وبناء جيل مقاوم من الأشبال والزهرات وأبناء وبنات المخيمات. جيل يحمل السلاح بيد والقلم والدفتر والكتاب باليد الأخرى. فمعركتنا هي معركة مع عدو صهيوني قوي ومجرم ومتطور ويملك وسائل وتقينات هي الأحدث في العالم. لذا مواجهته تكون بالعلم والتطور والتثقف والمعرفة والوعي وبالسلاح والكفاح. فالبندقية التي لا تخضع للسياسة الثورية سرعان ما تفقد هدفها وتتحول الى بندقية للاستعراض أو للايجار. فتحيد عن الهدف الأسمى وتفقد معاني وجودها. لذا كان الفدائي جيفارا يحمل البندقية بيد والكتاب بيده الأخرى. ولذا درس العلوم السياسية في جامعة بيروت العربية. ثم تخرج من الكلية الحربية في اليمن الجنوبي الديمقراطي أكبر وأهم حلفاء فلسطين وثورتها في ذلك الزمن.

كتب الأخ أمين علي موعد في ٥-١٢-٢٠١٢ :

” كانت حياته مليئة بالانجازات الميدانية و المواقف الصلبة و لم يتردد في انتقاد قيادة الثورة و كان شغله الشاغل تأمين متطلبات الصمود لأهل المخيمات ورعاية جيل قادر على حمل لواء التحرير.

قبل عام 1982 كان جيفارا مسؤولا عن معسكر الأشبال وتخرج على يده مئات الأشبال و الزهرات .. واليوم أصبحوا كوادر ومهندسين وأطباء وسفراء لفلسطين في أنحاء العالم”.

لم يخلد جيفارا للراحة وواصل مسيرته مع رفاقه واخوته ايمانا منه بضرورة استعادة مكانة الثورة والبندقية المقاتلة، وتحرير ما كانت الثورة فقدته نتيجة الغزو الصهيوني للبنان سنة 1982. وكان مخيم عين الحلوة الذي أصبح في ذلك الوقت تحت الاحتلال الصهيوني باقٍ دائماً في مخيلته وأمام مرآه. وكان جيفارا يحلم بالعودة الى المخيم وتحريره من الغزاة. لذا واصل المقاومة والنضال الى أن استشهد في عام 1983 حيث كان من قادة المجموعات الأولى لحركة فتح في جبل لبنان. استشهد من جراء القصف المدفعي على الجبل. لقد شهدت تلك المعارك مشاركة فلسطينية واسعة من كل الفصائل الفلسطينية وسقط خلالها مئات الشهداء وهم يدافعون عن عروبة الجبل ومن أجل الوصول الى بيروت. وفي مواجهة عملاء الكيان الصهيوني والأساطيل الأمريكية التي كانت تساندهم بالقصف المدفعي والصاروخي من البحر أمام شواطئ العاصمة بيروت. .

يقول أخي عبد اللطيف حمد وهو أحد الذين كانوا أشبالا في معسكر جيفارا موعد:

(الأخ الشهيد جيفارا هو كعلم بلادي، قلبه أبيض لكل من أحبه… كانت بدلته خضراء وكان يعتز بها وكان دمه الأحمر القاني فلسطيني حتى النخاع، أما السواد في العلم كان يمثل لقائدي الشهيد حقدا على من سلب حقه وحق شعبه… هكذا علمنا وربانا على هذه الثقافة…  كان يردد “إن مت يا أمي ما تبكيش ده كله عشان بلدي تعيش وإن طالت يما السنين خلي أخواتي الصغيرين يكونوا مثلي فدائيين).

والد الشهيد الحاج المرحوم عبد القادر موعد حرص قبل وفاته على أن يقول للناس

“نعم.. هدفي من كثرة الانجاب مقارعة “اسرائيل” التي احتلت أرضي وطردتني من منزلي، لقد أثبتت السنوات أنها (اسرائيل) لا تفهم لغة المفاوضات والسلام، بل لغة القوة والمقاومة، والأولاد هم عصب المقاومة ووقودها، وقد قدمت ولدي عبد العزيز ومحمد الملقب جيفارا شهيدين على درب تحرير فلسطين، كان جيفارا قائدا للتدريب العسكري للاشبال، استشهد عام 1983 إبان فترة الاجتياح (الاسرائيلي) للبنان، قبل أن يضيف “فليسقط شاب أو اثنان أو ثلاثة وحتى أربعة فداء لفلسطين، المهم أن نعيش بكرامة ونواصل المقاومة والانتفاضة حتى نعود الى أرضنا محررين مرفوعي الرأس. وأكمل حديثه مستذكراً : ” ولده “جيفارا”، فقال “لن أنسى اليوم الذي زفوه لي شهيدا، صحيح أنني بكيته ولكنني أعتز بشهادته، فالدماء التي سالت هي شرف لي وكل الشباب والصبايا يعرفون ذلك جيدا، لقد كان مناضلا ومدربا على السلاح والعتاد”..

في 17-3-2010  كتبت مقالة عن الشهيدين جيفارا موعد ودلال المغربي. جاء فيها :

“السلام عليك يا دلال المغربي وعلى اخوانك الشهداء والأحياء من مناضلي شعب فلسطين الذي لا يتعب ولا يستكين .. السلام عليك في قبرك يا جيفارا موعد، يا أيها البطل الفدائي الفتحاوي، الذي تذكره أزقة وشوارع ومعسكر الأشبال في مخيم عين الحلوة .. والسلام أيضاً على الذين حملوا البنادق وقاتلوا وواجهوا في كل الميادين … وعندما كبروا وهرموا وشاخوا أوصوا الأبناء والأحفاد بتكملة درب الآلام حتى تحرير كل فلسطين ..

السلام عليكما وعلى كل الشهداء، المجد للفدائي الأول، والعزة والعنفوان للذين انطلقوا بالفتح حتى تكون فتحاً مبيناً .. السلام عليك وأنتما تعريان الذين باعوا الفتح والمبادئ وتاريخ الثورة ودخلوا في العملية السلمية ليصبحوا حطباً للنار الصهيونية الأمريكية” ..

وكنت كتبت أيضاً لكن قبل ذلك بسنوات في ذكرى استشهاده:

“كان جيفارا قائدا ميدانيا منذ صغره ولد في مخيم عين الحلوة و استشهد في حبل لبنان ودفن في مخيم نهر البارد..

استشهد جيفارا ومثله آلاف الشهداء لأجل تحرير فلسطين كل فلسطين ودفاعاً عن الثورة الفلسطينية وعروبة لبنان وحماية للمخيمات الفلسطينية هناك، التي تعرضت لأبشع المجازر والحصارات، لكنها صمدت بالرغم من التكلفة المرتفعة جداً، ضريبة الصمود والثبات. صانت الوجود الفلسطيني والقرار الفلسطيني والقضية الفلسطينية والمخيمات. لكن القيادة الفلسطينية الرسمية المتنفذة لم تصن شيء ولم تحترم تلك التضحيات بل تاجرت بها. ثم وصلت الى مرحلة رفعت فيها الراية البيضاء وتنازلت عن الثبات والقرار المستقل والثورة المستمرة والكفاح المسلح وحرب التحرير الشعبية الطويلة الأمد. وألتحقت بالساقطين من حكام العرب المستسلمين كالسادات وأشباهه. وجلبت لشعبنا ويلات جديدة تمثلت باتفاقيات اوسلو وما تبعها من سقوط وتنازلات بالجملة عن حقوق وثوابت شعبنا. أنا متأكد لو أن الشهيد جيفارا موعد عاش حتى أوسلو وحتى يومنا هذا كان سيقف ضد الأوسلو والمتأوسلين واتفاقاتهم مع العدو، وتحويلهم الفدائي الى وقائي وحارس لمستعمرات وأمن الاحتلال الصهيوني في فلسطين المحتلة. الحمد لله أن جيفارا استشهد قبل أن يرى ويشهد السقوط المدوي لبعض الفلسطينيين وتنازلهم عن فلسطين للمحتلين.

لو كان جيفارا مازال حياً لتبرأ من هلافيت أوسلو..

المجد والخلود لجيفارا ولكل الشهداء.

مخيم عين الحلوة يعتز بأبنائه الفدائيين الرواد أمثال الشهيد الفذ جيفارا موعد.

 

نضال حمد في 26-1-2021