الأخبارالأرشيف

القرار المستقل والتمثيل الأوحد – منير شفيق

من بين الشعارات الأسوأ التي روّجتها قيادة فتح- قيادة م.ت.ف في سبعينيات القرن الماضي كان شعار استقلال القرار الفلسطيني. وذلك بالرغم من جاذبية الشعار لأن الاستقلال كان هدف حركات التحرير العربية والعالمية من الاستعمار. ولأن الاستقلال يفترض به أن يكون نقيضا للتبعية، ومعبرا عن الإرادة الحرة. ومن ثم التعبير عن المصالح العليا للوطن والشعب. 

بيد أن هذا الشعار في الساحة الفلسطينية وتطبيقاته العملية جاءا معاكسين لتلك المعاني التي تتضمنها كلمة “الإستقلال”، وما توحي به من نقيض للتبعية، ومن تعبير عن الإرادة الحرة، والتي من أولى إيجابياتها التعبير عن المصالح العليا للوطن وللشعب والقضية. كيف؟ 

منذ اللحظة الأولى التي رفع فيها شعار استقلال القرار الفلسطيني صحبه رفع الشعار التوأم له، وهو ليس اعتبار م.ت.ف بأن تكون ممثلا للشعب الفلسطيني، وإنما أصرت على عبارة الممثل الشرعي والوحيد. أي ما من أحد عداها يستطيع أن يدعي تمثيل الشعب الفلسطيني فقط، والأهم تمثيل القضية الفلسطينية. 

فالشعاران أريد لهما، أن يطبقا، أول ما يطبقان، بإقصاء الأردن عن تمثيل الضفة الغربية والقدس. بل عن تمثيل ذلك القطاع الواسع من اللاجئين الفلسطينيين في الأردن، والذين يحملون الجنسية الأردنية. فهنا دعوة صريحة لانفصال ما قام من وحدة بين الضفة الغربية والضفة الشرقية لنهر الأردن، كما إسقاط الاعتراف الدولي باحتلال صهيوني غير شرعي لأراض أردنية. الأمر الذي حمل مخاطر تحويلها، كما أراد العدو الصهيوني إلى أراضٍ متنازع عليها. 

هذا وقد استهدف هذان الشعاران التوأم: “استقلال القرار الفلسطيني” و”الممثل الشرعي والوحيد”، مواجهة خطر بروز قيادة فلسطينية في الداخل الفلسطيني، فيما م.ت.ف في الخارج الفلسطيني في دول الطوق وما أبعد من دول الطوق. وبالفعل استخدمت قيادة فتح وم.ت.ف هذين الشعارين في معركتين غير معلنتين: الأولى الخوف من الانتخابات البلدية التي أجراها العدو في العام 1952 من أن تخرج ممثلين منتخبين من الضفة والقطاع ينافسون على التمثيل، أما المعركة الثانية فكانت الخوف من الوفد الفلسطيني برئاسة حيدر عبد الشافي عندما أصبح مشاركا في مفاوضات مدريد ضمن الوفد الأردني. وكان هذا الخوف من دوافع الإسراع بعقد اتفاق أوسلو.

اعتبرت قيادة فتح وم.ت.ف، وهي واهمة ومحكومة بالهواجس والتخوفات بأن ثمة منافسين لها في الطريق نحو التشكل علما أن الذين خاضوا معركة الانتخابات البلدية عام 1952 لم يكن بواردهم، وما كانوا ليقبلوا، أن يتحولوا إلى ممثلين للشعب الفلسطيني بديلا من م.ت.ف. وكذلك كان الأمر بالنسبة إلى وفد مفاوضات مدريد. ولكن قيادة فتح لم يهدأ لها بال حتى بعد أن تأكدت مائة بالمائة بأن المعنيين لا يطمحون إلى منافستها تمثيل الشعب الفلسطيني. بل هم أوفياء مخلصون لها. وقد كان هذا الوهم- الخوف من دوافع عقد اتفاق أوسلو الذي اعترف بمنظمة التحرير. 

على أن شعار القرار الفلسطيني المستقل بدا في ظاهره، أيضا، موجها ضد التفريط العربي الرسمي في القضية الفلسطينيةكان ظاهر المقصودبالممثل الشرعي والوحيد. ولكن في التطبيق العملي، أو في باطنه، كان يستهدف التحرر من أي ضغط عربي، وخصوصا، السوري، إذا ما قرر الفلسطيني (قيادة فتح وم.ت.ف) الاتصال بأمريكا أو الدخول في لعبة التسوية السياسية. 

وإذا كان هنالك من إشكال من جهة التمثيل الفلسطيني مع الأردن أو مع قيادة فلسطينية من الداخل فثمة إشكال آخر مع سورية (حافظ الأسد) والعراق (صدام حسين وقبله البكر) في حالة إقامة علاقات من وراء الظهر، بداية، مع أمريكا وبعض الأطراف الصهيونية (“يسارية” أو “وسطية”). مما يوجب رفع الضغوط السورية والعراقية. طبعاً السورية أولا، والعراقية ثانياً (العراقية تم استيعابها بعد دخول العراق في الحرب ضد إيران ووقوف م.ت.ف مع العراق. بل لم تعد ثمة ضغوط عراقية على قيادة م.ت.ف فيما يتعلق بالاتصالات مع أمريكا أو بعض الأطراف (الإسرائيلية)، كما كان الحال بين 1969-1973. 

فالقرار المستقل كان موجها ضد العلاقة السورية- الفلسطينية. وهو ما راح ياسر عرفات يعبر عنه بعد 1982-1983، في منفاه التونسي قائلا: “الآن تحررنا من الضغط السوري”. 

وبكلمة إن الإصرار على القرار الفلسطيني المستقل يقصد منه التحرر من أي قيود عربية تعرقل الدخول في مشاريع التسوية. وقد لعب دوره، وكشف ترجمته الواقعية بالمسار السياسي الذي أوصل إلى اتفاق أوسلو. فالاستقلالية هنا لم تكن مقصودة لذاتها ولا لتحرير الإرادة الفلسطينية في السير على طريق التحرير والكفاح المسلح. ولهذا صب شعارا استقلال القرار الفلسطيني والممثل الشرعي والوحيد في الوصول إلى اتفاق أوسلو الذي جرد م.ت.ف من الإستقلالية، وقد أصبحت تحت رحمة الاحتلال الصهيوني والرعاية الأمريكية للتسوية ثم لحل الدولتين التصفوي. 

وأكمل المهمة شعار الممثل الشرعي والوحيد لإطلاق اليد الفلسطينية للذهاب إلى أبعد مما ذهب إليه أي موقف عربي في موضوع التنازلات في القضية الفلسطينية والحقوق الفلسطينية. هذا من جهة أما من جهة ثانية فقد أعفى الأنظمة العربية من مسؤوليتها في القضية الفلسطينية إذ أصبحت م.ت.ف هي الممثل الشرعي والوحيد للقضية الفلسطينية، ليرفع شعار عربي رسمي مكملاً له هو “نرضى بما يرضى به الفلسطينيون”.

وبهذا لم تعد القضية الفلسطينية مسؤولية فلسطينية- عربية- إسلامية، وإنما مسؤولية فلسطينية فقط. 

وبهذا يكون القراران: القرار الفلسطيني المستقل، والممثل الشرعي والوحيد هما السم الهاري فلسطينيا وعربيا وإسلاميا وعالميا للنضال الفلسطيني والقضية الفلسطينية. 

طبعا كان من المفهوم والإيجابي لو استخدم القرار الفلسطيني المستقل ضد كل من يفرط في القضية الفلسطينية من الأنظمة العربية أوكان يُراد منه المضي بالمقاومة بلا مساومة وبالتحرير حتى التحرير الكامل من النهر إلى البحر. وطبعا كان من المفهوم والإيجابي لو استخدم الممثل الشرعي (“الوحيد” غير مفهوم بكل الأحوال) ضد أي مشاركة في التمثيل باتجاه التفريط بالقضية الفلسطينية، أو بأي جزء من الحق الفلسطيني-العربي-الإسلامي في فلسطين. 

أما المؤسف المضحك اليوم فكان البيان الذي صدر عن اللجنة المركزية لحركة فتح في 19/6/2017 في معرض الاحتجاج على التفاهمات بين مصر و”حماس” ونصت على قيام الحركة بحماية الحدود بين غزة ومصر وعدم السماح للجماعات المعادية بعبور الحدود فيما تعهدت مصر بتسهيل الحركة على معبر رفح. وذلك إلى جانب تزويد القطاع بالوقود لحل مشكلة الكهرباء. فضلاً عن الاحتجاج على حوارات تمت بين وفد من حماس مع محمد دحلان. 

جاء في البيان الاحتجاجي، ويهمنا الآن ما له علاقة بالقرار المستقل والتمثيل الأوحد ما يلي “ترفض اللجنة المركزية بعض التحركات المشبوهة، والمسّ بالمحرمات الوطنية وعلى رأسها، استقلالية إرادتنا وقرارنا وحقنا في صياغة النظام السياسي من خلال عملية ديمقراطية واحترام سياجنا الوطني وبوابته الشرعية منظمة التحرير الفلسطينية”. 

قيادة فتح ترفض “التحركات المشبوهة”: وهي فتح معبر رفح والتعهد بعدم مرور متطرفين ضد مصر من الحدود بين غزة ومصر. وترفض فرض الوصاية على قضيتنا وتقصد الوصاية المصرية. وهذا كلام لم يسبق أن قيل بحق العلاقات المصرية – الفلسطينية، ولا سيما الفتحاوية. ولكن ثالثة الأثافي: رفض “المسّ بالمحرمات الوطنية”. وما أدراك ما يقصدون: (1) استقلالية قرارنا وإرادتنا كيف؟ كما عُبر عنهما في اتفاق أوسلو ويعبر عنهما بالاتفاق الأمني والتنسيق الأمني. (2) حقنا في صياغة النظام السياسي أي كما هو حال سلطة رام الله اليوم وكما كانت أيام سلام فياض ومحمد دحلان. (3) احترام سياجنا الوطني وثوابته الشرعية م.ت.ف: ولعل نموذج احترام سياجنا الوطني هو ما يجري من استيطان في الضفة الغربية وتهويد القدس. 

أما ثوابت شرعية م.ت.ف طبعا الميثاق الوطني المعدل في اجتماع المجلس الوطني في قطاع غزة 1998 إلى جانب دورية اجتماعات المجلس الوطني وما تتمتع به مؤسساتها من تفعيل في الداخل والخارج، وصيانتها عبر عملية ديمقراطية أي انتخاب أعضاء المجلس الوطني. وهذا السياج لم يُخرَق حتى لو نام المجلس الوطني على جنب واحدة عشرين عاما.