الأرشيفوقفة عز

الكلام المباح ليس مباحا

نضال حمد

كنا نتوقع من أبي مازن أن يزن كل كلمة سيقولها بعد خطابه المثير في قمة العقبة. لكن الأخير لم يفعل ذلك،على الرغم من أنه لازال في موضع الدفاع وليس الهجوم، وحتى الهجمات المرتدة (كهجمة اليوم في مؤتمره الصحافي في رام الله) لن تنفعه في هذه المباراة المصيرية. لأن القضية ليست كسب مباراة  للعاب واحد بقدر ما هي كسب فريق الشعب الفلسطيني للمعركة. فبدون هذا الشعب لا يستطيع لا أبو مازن ولا أي شخص آخر الاستمرار في منصبه القيادي.

من الواضح أن مهندس أوسلو لا يعير اهتماما كبيرا للمعارضة الفلسطينية الواسعة، ولا يوجد لديه نية لقبول مطالبها، وهذا ليس بالشيء الجديد، فقد علمتنا تجربة العمل الوطني الفلسطيني أن القيادة المتنتفذة لا تعير الآخرين أي اهتمام. وتهتم أكثر بمواقف الآخرين، ظنا منها بأن المعارضة الفلسطينية عاجزة عن الوقوف بوجهها لسبب أو آخر.

لذا فرئيس الحكومة الفلسطينية الحالية يتصرف بعنجيهة واضحة. فهو من نفس تلك الينابيع وليس غريبا عن تلك القيادة لأنه جزءا منها ومن سياستها المعتادة. ولا بد لنا عند التعامل معه ومع فريقه أن نأخذ ذلك بعين الاعتبار. وكذلك أن نتذكر التغييرات الجذرية التي عصفت بالمنطقة والعالم.

كان واضحا منذ البداية أن مجيء أبو مازن للحكم لم يكن بمشيئة ولا بإرادة الشعب الفلسطيني. بل بفضل السياسة الأمريكية التي اتخذت خطا مجابها، يتيح لها فرض الحكام والهيمنة على من تشاء. فبعد مأساة 11 أيلول وعاصفة الهجمات بالطائرات على نيويورك وواشنطن، تغيرت أمريكا وتغيرت سياستها نحو الأسوأ، مع أنها لم تكن في يوم من الأيام جيدة بالنسبة لنا. وتغير مسار العالم. وبدا واضحا حجم التدخل الأمريكي في الشأن الداخلي الفلسطيني. حيث تم عزل عرفات دوليا وعربيا، وتم فرض منصب رئيس وزراء وحتى اسم رئيس الوزراء على الفلسطينيين. فصار لهم حكومة، ورئيس للحكومة، لكنه ليس الممثل الأفضل لطموحات هذا الشعب، فوجوده في السلطة جاء تلبية للمطلبين (الإسرائيلي) والأمريكي. لذا فأن السياسة الفلسطينية، السلطوية في عهده ستكون سياسة لا تنسجم مع مطالب الشارع الفلسطيني. ولا مع الحقوق الوطنية العادلة. كما أنها ستكون سياسة تصادم وتنافر وصراع مع الانتفاضة، ورأس حربتها المتمثل بالمقاومة المسلحة. لأن لأبي مازن نهج سياسي متفق عليه، وله سقف أوسلوي. وبرنامجه الآني خطة الطريق، وهذه الخطة لا يمكن أن تكون حلا ولو مؤقتا لمآسي الشعب الفلسطيني. لأنها خطة وضعت لتدمير الانتفاضة الشعبية عبر وقفها تحت شعار منع عسكرتها. والتي تعني بما تعنيه وقفها وشطبها عبر القضاء على المقاومة. وقد أكد أبو مازن مرارا على تلك الشعارات، وظلل منذ فترة طويلة يردد نفس شعاراته المعادية للمقاومة، والمؤيدة لوقف الانتفاضة، ومواصلة العملية التفاوضية المعهودة. كما أنه حرص على إدانة العمليات ضد (الإسرائيليين)، فبدأ بإدانتها ضد المدنيين، ثم ضد العسكريين داخل الخط الأخضر، والآن ضد (الإسرائيليين) أينما كانوا، عسكر ومدنيين. وما إدانته لعملية معبر ايرز التي حصلت في قلب معسكر ومركز لجيش الاحتلال (الإسرائيلي)، إلا دليلا واضحا، على مسلكيته وخياراته ونهجه السياسي الزاحف منبطحا بلا توقف. ولم يكن أبو مازن يتحدث كشخص لكن كنهج سياسي، له بعض أنصاره من المستفيدين والذين استفادوا من عملية السلام، ومنهم كثيرون تورطوا بالفساد الذي نخر جسد السلطة، وهناك أقوال تتهمه نفسه ومقربين منه بممارسة الفساد. وهذا بحد ذاته يجعلنا نتساءل عن تجاهل بوش وشارون لتلك الوجوه الفاسدة، فهي نفسها موجودة في الحكومة الجديدة. لكن ولكي نبرد درجة الحرارة، نقول أن هذه الحكومة جاءت بطلب ومن ثم مباركة أمريكية (إسرائيلية)، لأن لها برنامج معادي للانتفاضة والمقاومة، وهذا فقط ما يهم أمريكا و(إسرائيل). من هنا لا يوجد أي داعٍ للعجب من أي كلام يقوله أركان تلك الحكومة وأولهم رئيسها محمود عباس. فهذا الأخير بدا اليوم الاثنين، في مؤتمره الصحفي، حريصا على التمسك بما قاله في خطاب العقبة، بالرغم من العاصفة القوية التي أحدثها في المجتمع الفلسطيني.

وجه أبو مازن بخطابه في العقبة لطمة قوية للفلسطينيين، بكل انتماءاتهم واتجاهاتهم السياسية، لأنه تكلم بلسان ليس لساننا، وتحدث بلغة ليست فلسطينية، وتحدى الشعب الفلسطيني، بسلاح الشرعية الأمريكية، والقوة (الإسرائيلية)، وبدعم الحكومات العربية التطبيعية. لكن كل هذا لن يمنحه شرعية أساسية، هي شرعية الشعب الفلسطيني. وكلنا نعرف أن الأسماك لا تعيش خارج المياه، وأبو مازن كالسمكة تماما، بحاجة للمياه كي يغيش في البحر الفلسطيني، وهذه المياه هي نفس الشعب الفلسطيني. فما نفعه بلا  الشعب ومياه الحياة الفلسطينية؟ ما نفعه حتى لو وقفت معه كل الشرعيات والقوى العالمية والإقليمية، التي بدورها  لا تساوي مجتمعة، موقف شعب فلسطين. من هذه النقطة بالذات يستطيع أبو مازن الالتفات لما يدور حوله، والتعمق في رؤية الواقع، والتبصر في اتخاذ القرارات والمواقف. حتى لو كان ما قاله اليوم في مؤتمره الصحفي،عن خطاب العقبة، وأنه يعبر عن موقف القيادة السياسية الفلسطينية، فهذا لا يقدم ولا يؤخر شيئا. لأن شعب فلسطين يرفض كلامه الذي قيل في العقبة، والذي أعيد تكراره اليوم في رام الله. فلا هو ولا القيادة السياسية الفلسطينية المتنفذة، يحق لهم التنازل عن الثوابت الفلسطينية، دون استشارة الشعب الفلسطيني. والاستشارة تكون بالاستفتاء الديمقراطي الصريح والحقيقي، وليس عبر مجلس تشريعي انتهت مدته الشرعية منذ سنوات. وليس عبر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية التي مر على انتخابها في مجلس غزة الوطني المسرحية سنوات طويلة. فالقرارات المصيرية تؤخذ بناء على قرارات الشعب ورأي الجماهير.

كلام أبو مازن فاق بخطورته كل التوقعات، وإعادة تكراره تعني إهانة جديدة للشعب الفلسطيني، ولا مبالاة بموقف هذا الشعب، وأكثر من ذلك تحديا لهذا الشعب في عقر داره. فإذا كان أبو مازن ومن معه يريدون أي حل مع الاحتلال وبأي ثمن، فليتركوا هذا الشعب وشأنه، لأنه قادر على المواجهة والصمود، وتحقيق إنجازات أفضل مما حققت تلك القيادة، منذ أوسلو وحتى يومنا هذا. أما إذا كان دورهم تعطيل الصوت الحقيقي للشارع الفلسطيني، وهو صوت المقاومة والانتفاضة، فهذا الدور سوف يتم إفشاله وإسقاطه، كما تم إفشال وإسقاط ما سبقه من أدوار مشبوهة كروابط القرى. ونقول لأبي مازن، ان كلامه المباح في العقبة، ليس مباحا ولا مقبولا ولا حتى مرغوبا عند جماهير الشعب الفلسطيني.

إن التنازلات المجانية الخطيرة التي أقدم عليها أبو مازن في قمة العقبة الأخيرة، جعلت القرارات الدولية التي تتعلق بالمسألة الفلسطينية في خطر شديد. مما زاد من التخوفات الفلسطينية الداخلية بشأن نوايا السلطة مواجهة المقاومة. فقمة العقبة أصبحت عقبة بوجه اللقاء الفلسطيني الفلسطيني، وأصبحت عائقا بوجه الوحدة والتلاحم والهدف المشترك. لأنه لا يمكن أن يكون هدف الحكومة الفلسطينية مثل هدف المقاومة، خاصة أن بداية تطبيق خريطة الطريق ستكون من قبل أجهزة الأمن الفلسطينية، التي بدورها ستقوم بسحب سلاح المقاومة، وبصد ومنع أية عمليات مسلحة تقوم بها المقاومة الشعبية الفلسطينية. مما يعزز من إمكانية تفجر مواجهات فلسطينية داخلية، ترضي شارون وبوش، ولا تحقق لفلسطين أي شيء ايجابي يذكر، سوى المزيد من الآلام و التشرذم والتفرقة والضعف.

اذا كان كل هذا واضحا مثل شمس الظهيرة، فلماذا يصر ويحرص أبو مازن على التمسك بما جاء به في خطاب العقبة؟

بصراحة لا يوجد ما يبرر موقف أبو مازن. وعلى الذين منحوه ويمنحونه الغطاء السياسي أن يعلنوا موقفا واضحا من كلامه المتكرر، ومن تمسكه بموقفه السيئ، والخطير في قمة العقبة. وهذا ينطبق على حركة فتح أولا، ثم على السلطة الفلسطينية ممثلة برئيسها الأخ أبو عمار، وكذلك على الجماهير الفلسطينية. لأن لهذه الجماهير دورا هاما وأساسيا يجب أن تلعبه الآن. ويجب أن تخرج الجماهير إلى الشوارع، لتقول لا لخطاب العقبة، ولا لتكرار التمسك به، وعلى أبي مازن ومن معه الالتزام بالثوابت الفلسطينية، والتراجع عن خطاب العقبة، أو الاختيار ما بين الاستقالة أو الإقالة.

 

الكلام المباح ليس مباحا

نضال حمد

10-06-2003