الأخبارالأرشيف

بلفور: قراءة جديدة .. لوعد قديم مشؤوم – د. فايز رشيد

لا أريد في مقالتي هذه تكرار كلام روتيني في  ذكرى وعد بلفور . قبل هذا الوعد بزمن طويل جرى الحديث أوروبيا عن ضرورة إنشاء وطن قومي لليهود في فلسطين, كخيار من عدة خيارات في دول أخرى : صحراء سيناء المصرية وفي العريش تحديدا ( اقتراح رئيس الوزراء البريطاني تشمبرلن ) , لكن “لجنة الخبراء الصهيونيون ” رفضته . كان أحد الخيارات : أوغندا ( اقترحه بلفور نفسه ) , رفض المؤتمر الصهيوني السادس هذا المقترح , لأن أوغندا لن تشكل مصدر جاذبية لهجرة اليهود . ثم كانت الخيارات في : كندا , الإرجنتين  ,جنوب أفريقيا , وغيرها , وكلها جوبهت بالرفض الصهيوني لها .. هذا يعني : أكذوبة الإرتباط اليهودي بفلسطين .

الثاني من تشرين الثاني كل عام .. تتجدد ذكرى وعد بلفور, الذي جرى اطلاقه في عام 1917.  قبل بلفور , كان نابليون بونابارت أول من اقترح إقامة دولة ( حكما ذاتيا ) لليهود في فلسطين تحت الولاية الفرنسية لها . كان يريد استخدام اليهود لخدمة المصالح الفرنسية في المنطقة .في عام 1862 نشر الزعيم الصهيوني موشيه هيس كتابه ” روما والقدس ” وفيه تحدث عن رعاية فرنسية لدولة اليهود في فلسطين , هذا دليل على صحة ما ذهبنا إليه . في عام 1830 اتفق اللورد بالمرستون وزير الخارجية البريطاني مع اللورد شافستري على تكثيف الهجرة اليهودية إلى فلسطين, وذلك لخدمة المصالح البريطانية في المنطقة . في عام 1838 تم افتتاح  أول قنصلية بريطانية في القدس : لخدمة المصالح البريطانية ولتكثيف هجرة اليهود .ساعد القنصل ديكسون منذ بداية عام 1839 اليهود , في شراء الأراضي في فلسطين, وإقامة المستعمرات, وقد كان عددهم آنذاك 10 آلاف. في عام 1865 أنشأ الصهيونيون البريطانيون ” صندوق استكشاف فلسطين ” كان يقدم مساعدات مادية لكل من يريد الهجرة إلى فلسطين من اليهود . بعد ذلك توالت موجات الهجرة , كان أضخمها فترتان : الهجرة الأولى من عام 1882 – 1904. الثانية من عام 1914 – 1915 .

بريطانيا كما كل الدول الإستعمارية هدفت إلى : استعمال اليهود ودولتهم الموعودة لخدمة مصالحها في المنطقة العربية , وللتخلص من موجات الهجرة اليهودية إليها من دول أوروبا الشرقية , ( في بريطانا تشكلت اللجنة الملكية للحد من هجرة الغرباء – يقصدون : هجرة اليهود –  , واستدعي هرتزل للإدلاء بشهادته أمام اللجنة.  قدمت الحكومة مشروع قرار لمجلس العموم في عام 1904لوقف الهجرة , واضطرت إلى سحبه تحت ضغوطات المعارضة , ثم عادت وقدمته مرة أخرى في عام 1905 ونجح ) , كما هدفت بريطانيا إلى تأمين خطوط مواصلاتها إلى الهند. خمسة وتسعون عاماً مرّت على هذا الوعد المشؤوم من وزير خارجية بريطانيا العظمى للحركة الصهيونية، والذي جعل من فلسطين مكاناً لإقامة الوطن القومي لليهود فيه, ظلما وزورا وبهتانا، بما يمثله ذلك من انصياع وتآمر بريطاني  مع قرار المؤتمر الصهيوني الأول ,الذي انعقد في مدينة بازل السويسرية في عام 1897،والذي جعل من فلسطين “أرضاً للميعاد”.  

قرار الحركة الصهيونية في مؤتمر بازل عام 1897 ,وقرار وزير الخارجية البريطاني بلفور فيما بعد عام 1917,مثّلا ولا يزالان التقاء المصالح الاستعمارية ,والصهيونية, ومخططاتهما البعيدة المدى للوطن العربي والقاضية : بإقامة دولة غريبة عن المنطقة وعدوة لسكانها في الجزء الفاصل بين دول الوطن العربي في آسيا والأخرى في أفريقيا، هذه الدولة ستكون رأس جسرٍ للمصالح الاستعمارية في الشرق الأوسط، وحربة في ممارسة العدوان على دوله , وإبقاء شعوب المنطقة متأخرة , ومنع قيام أية مظاهر وحدوية بين دوله, لأن وحدتها تجعل منها, قوة مؤثرة على الساحة الدولية  , ” فهي شعب واحد تتوفر له وحدة التاريخ والدين واللسان ” . تم رسم هذا المخطط في مؤتمر كامبل- بنرمان الذي امتدت جلساته المتباعدة من عام 1905 – عام 1907.  بين الدول الاستعمارية: بريطانيا , فرنسا , بلجيكا , هولندا , اسبانيا , إيطاليا.  

إن الصهيونية كمفهوم ديني, جرت مزاولتها من قبل المتصوفين اليهود على مر الأجيال, نتيجة لارتباطها بالأمل الكبير في اليهودية , القائم على عودة المسيح في نهاية الزمان , وكانت هذه تعرف ب ” الصهيونية الدينية”  .عملت الحركة الصهيونية  كجماعة سياسية منذ إنشاءها كصهيونية سياسية مع تواجد هرتزل , الذي وبالمعنى العملي أوجد النظرية ومنهجها في كتابه ” الدولة اليهودية ” في عام 1896 وشرع في تطبيقها في المؤتمر الصهيوني الأول, إذ بدأت في تعريف نفسها ك ” عقيدة سياسية ” و ” عقيدة قومية ” ,  ثم بدأ ظهور مصطلحات جديدة عن ” الشعب  اليهودي ” , و ” الأمة اليهودية ” . إن إضفاء الطابع السياسي والقومي على الصهيونية لم يكن بمعزل عن تطورات أوروبا آنذاك, وانتقالها من مرحلة الإقطاع إلى الرأسمالية ,وبدء ظهور مرحلة القوميات, لذا فما دام قد جرى طرح اليهودية ك ” قومية ” كان لا بد من وطن قومي لها , وما دامت لم تمتلك وطنا عبر التاريخ , كما أن لا وطن لها , فبالضرورة من أجل ذلك لا بد وأن تحتل وطنا وتقتلع شعبه من أرضه , وبذلك تحولت فعليا إلى ” عقيدة استعمارية ” . الحل الماركسي للمسألة اليهودية تمثل في : أن يعيشوا في المجتمعات التي يتواجدون بين ظهرانيها, لأن فكرة ” القومية اليهودية ” هي “فكرة رجعية المحتوى ” هذا ما طرحه ماركس ” اليهودي الديانة ” والذي اعتبر في كتابه المعنون ب ” حول المسألة اليهودية ” : أن  ” تحرير اليهود يعني : أن تتحرر المجتمعات من اليهودية ” , ولينين جاء فيما بعد ليؤكد ما دعا إليه من حل.  

مع بداية الإنتداب ( فعليا الاحتلال ) البريطاني على فلسطين , ودخول القوات البريطانية إليها , بدأت مرحلة جديدة من التعاون بين الجانبين في : تهجير أعداد أكبر من اليهود إلى فلسطين , إنشاء المستعمرات, مساعدة المنظمات الإرهابية الصهيونية على شن العدوان واقتراف المذابح بحق الفلسطينيين العرب , والتضييق الشديد عليهم . كما مصادرة الأراضي الفلسطينية وتمليكها للمستوطنين الجدد. كما تم إصدار الأحكام القضائية القاسية على الفلسطينيين والعرب المقاومين .   تشجيع الهجرة بأساليب  ووسائل مختلفة للفلسطينيين من وطنهم, وفي معظم الحالات وقبيل إنشاء الكيان الصهيوني : إجبارهم بالقوة على الترحيل من فلسطين . جرت مساعدة المنظمات الإرهابية الصهيونية على تشكيل الجيش (الإسرائيلي)، ودعما لهذا الجيش ,تركت بريطانيا مختلف أنواع أسلحتها وطائراتها له قبيل رحيل قواتها من فلسطين . المساعدة في إنشاء (إسرائيل). كل هذه الاهداف والتسهيلات موثقة بوثائق كثيرة , كما هما معروفتان الاتفاقياتان اللتين عقدتهما الحركة الصهيونية مع النازية, ونظرا لأن هذه مقالة صحفية وليس بحثا : لا يتسع المجال لإيراد المزيد من الحقائق والوثائق , وهي معروفة لكل من يهتم بالقضية الفلسطينية ,وحقيقة (إسرائيل) والصهيونية .

أردنا من هذه المقالة : إلقاء بعض الضوء التاريخي على إرهاصات الاحداث ما قبل وعد بلفور . كما للرد عل التفسيرات الخاطئة لبعض الباحثين والمؤرخين وأطروحاتهم , من نمط : أن بريطانيا ساعدت الحركة الصهيونية لان وايزمان ( الكيميائي ) ساعد بريطانيا في الحرب العالمية الثانية, باختراع غاز حارق وهو أحد مشتقات الآسيتون ! . كما التفسير, مثل  : أن بلفور كان يريد تحقيق الوعد الإلهي ” بعودة المسيح ” , ويتكؤون على كتابه في قراءة تنقصها الدقة , بعنوان ” العقيدة والإنسانية ” . لا ننكر ان بلفور من التيار الصهيو – مسيحي في المسيحية ( وهناك كتب كثيرة تبحث في هذا التيار وتفاصيله خاصة في امريكا وكندا ) . الدور البريطاني في مساعدة اليهود على اغتصاب فلسطين ,وإنشاء (إسرائيل) ,نبعا من التقاء مصالح مشتركة مع الحركة الصهيونية , وبالتالي كان وعد بلفور المشؤوم ترجمة لتلك الأهداف ( للعلم هناك أبحاث كثيرة تؤكد على كره بلفور الشديد لليهود كما العديدين من الساسة البريطانيين ). مع بروز الولايات المتحدة كقوة كبرى بعد الحرب العالمية الثانية , مارست وما تزال دورها الرئيسي في مساندة (إسرائيل) ( كما بريطانيا ) , وصولا الى اعتبار (إسرائيل) كولاية داخلية أمريكية . إنه ايضا التقاء مصالح مشتركة للحليفتين , وأهداف مشتركة في المنطقة … نعيش حاليا أحد فصولها !.

منذ ذلك الزمن وحتى الآن 2014 لم يتوقف التآمر (الاسرائيلي) بمساعدة بريطانيا ,وفيما بعد أيضا الولايات المتحدة  وفرنسا ودول أخرى غربية كثيرة , لا على شعبنا ولا على أمتنا. كل الذي حصل بعد ما يزيد عن الستة عقود ونصف على إنشاء الكيان : أن (إسرائيل) أصبحت أكثر عدوانية وصلفا وعنصرية عاما وراء عام . من جانب ثان : ازداد التآمر الأستعماري على الوطن العربي, وهو ما يؤكد حقيقة المؤامرة التي صيغت خيوطها في أوائل القرن الزمني الماضي .الآن نشهد فصولا جديدة من المؤامرة عنوانها : تفتيت الدول القطرية العربية , وتحويلها الى كيانات هزيلة ومتناحرة ومتحاربة . أفضل مثال على صحة ما نقول هو جنوب السودان الذي تم اقتطاعه من جسد الوطن الأم, ليمثل (إسرائيل) جديدة يتم زرعها في الخاصرة الأخرى للوطن العربي .

حتى الأن لم نستفد من دروس الماضي : العرب ما زالوا مفككين, والقطرية تتمازج مع العصبوية لتشكل ما يشبه الظاهرة الأبرز في العالم العربي ,على حساب شعارات الوحدة والتكامل والتنسيق البيني العربي . في ذكرى وعد بلفور المشؤوم: نود التأكيد على عدة مبادىء وأسس أبرزها :

الخطر الصهيوني لا يقتصر على الفلسطينيين بل يتعداهم الى كل العرب . من أجل هذا لا بد من تعزيز التلاحم بين الخاص الوطني  والعام القومي . (إسرائيل) لا تريد السلام لا مع الفلسطينيين أو العرب . تريد استسلامهم الكامل لها ولتسوياتها. لكل ذلك لا بد من بناء استراتيجية فلسطينية وعربية جديدة في كيفية التعامل مع هذا العدو وأطماعه في الوطن العربي . استراتيجية تقوم على مجابهة (إسرائيل) وكافة المؤامرات التي تحاك للعرب ولعموم المنطقة. ليجر تعزيز شعارات التضامن والتكامل العربي على طريق الوحدة العربية. بالطبع هذا ليس حلما ليليا, وانما ضرورات واقعية  ومتطلبات مرحلة ,وضمانة لبقاء الأمة العربية … والا سنكون أمام حلقات تآمرية جديدة  هي نسخ كربونية عن وعد بلفور, ووعود شبيهة أخرى  عديدة , واتفاقيات سايكس بيكوية كثيرة .

 

 

اترك تعليقاً