الأرشيفمن هنا وهناك

بَرَامِج وخطط أمريكية للهيمنة على البلدان العربية – لبنان نموذجًا

  

الطاهر المُعِز
 

مرت منذ أيام قليلة الذكرى الواحدة والستون لاعتداء الإمبريالية الأمريكية على مدينتي “هيروشيما” (06/08/1945) و”ناغاساكي” (09/08/1945) بالسلاح النَّوَوِي لإجْبار دولة اليابان على التَّسْلِيم بالهزيمة (بعد اسْتِسْلام ألمانيا وإيطاليا)، ومُنْذُ ذَلِك الحين، بقيت الولايات المُتحدة الدولة الوحيدة التي استخدمت السلاح النَّوَوِي الذي استهدف ملاين المدنيين ولاتزال آثار هذا السِّلاح ظاهرة في اليابان حيث يولَدُ الأطفال بتشَوُّهات بدنية وذهنية، كما لا يزال شعب فيتنام (وكذلك كمبوديا ولاوس) يعاني من آثار قنابل “النابالم” والأسلِحة الكيمياوية الأخرى التي استهدفتهم قبل هزيمة أمريكا في نيسان 1975، فيما استخدمت القوات الأمريكية اليورانيوم المُنَضَّب والأسلحة الخطيرة الأخرى والمُحَرَّمَة دوليًّا في العراق (الفَلّوجة كمثال بارز)…

دَأَبَت الإمبريالية الأمريكية على إحصاء عدد جنودها القتلى وكذا فعلت في العراق، منذ الإحتلال (نيسان 2003) وأهملت عمْدًا عدد من قَتَلَتْهُم طائراتُها وأسْلِحَتُهَا في بلدانهم وفي منازلهم ومزارعهم وفي المصانع والساحات والمدارس، لذا يصعُبُ إحصاء عدد ضحايا الحروب الأمريكية (والإمبريالية بشكل عام)، وقتلت هذه الجُيُوش الغازية والمُعْتَدِيَة (أمريكا والحلف الأطلسي) ما لا يقل عن 1,3 مليون مواطن مَدَنِي خلال عقدٍ واحد (2001 – 2011) منهم 220 ألف في أفغانستان و80 ألف في باكستان وأكثر من مليون في العراق، باسم “مُكافحة الإرهاب” و”تحرير الشُّعُوب من حكم الدكتاتورية”، واعتادت الولايات المتحدة على ارتكاب مثل هذه الجرائم منذ إلقاء القنابل الذرية على سكان اليابان (آب/أغسطس 1945) ثم قَتْلِ ما لا يقل عن مليوني مَدَنِي غير مُسَلَّح خلال عدوانها على فيتنام وتجريف الأراضي الزراعية ورشِّها بالمُبيدات السَّامَّة وحرق المنازل، وقَدَّرَت مجلَّة “ذا لانست” الطبية البريطانية عدد القتلى في العراق نتيجة الإحتلال الأمريكي ب655 ألف خلال ثلاث سنوات فقط، بين 2003 و 2006 وحوالي 200 ألف خلال عدوان 1991 ضد الشعب العراقي ثم تسبَّبَ الحظر والعُقُوبات ضد البلاد في وفاة نحو 1,7 مليون عراقي، أو ما يقارب ثلاثة ملايين ضحية في العراق منذ 1991 ولا زالت الولايات المتحدة تُنَفِّذ الإغتيالات “خارج إطار القانون والقضاء” بواسطة الطائرات الآلية (درونز) خارج أراضيها وضد المدنيين في اليمن والعراق (3200 غارة خلال ثمانية أَشْهُرٍ، من آب/أغسطس 2014 إلى نهاية آذار/مارس 2015) وباكستان وكذلك في افريقيا، حيث تملك قاعدة للطائرات الآلية (بدون طيّار أو “درونز”) في النِّيجر، وكثَّفَت المخابرات الأمريكية من هذه الإغتيالات خلال حكم باراك أوباما الحائز على جائزة نوبل للسلام… (صدرت هذه الأرقام عن الجمعية الطِّبِّية الدولية للوقاية من الحُروب في نيسان/ابريل 2005)

تَسْتَخْدِمُ الولايات المتحدة السلاح بِكثافة ضد كل من تستهدفُهُم رغم الفارق الكبير في ميزان القُوى عسْكَرِيًّا، ولكنها تمتلك ترسانة من الأسلحة الأخرى، منها قُوة الإعلام من وكالات الأنباء إلى قنوات التلفزيون والإذاعات والصحف والكتب والأشرطة السينمائية والمُسَلْسَلات التلفزيونية، وقوة الشركات متعددة الجنسية التي تَغْزو العالم اقتصاديًّا، مدعومة بالقوة العسكرية والإعلامية الأمريكية…

أسَّسَت الولايات المتحدة عدة منظمات “غير حكومية” ومنظّمات دفاع عن بعض الشَّرائح (كالنساء والأطفال والمُثُلِيِّين…)، بهدف تقويض أُسُسِ النضال الوطني والقومي، أو النِّضال ضد  الإستعمار والإحتلال والإضطهاد القومي والإستغلال الطبقي، وتَجْزِئَة النِّضالات وتفتِيتِها وتقْسيم الشعوب والطَّبَقات الرازحة تحت الإحتلال والإستغلال والإضطهاد إلى فِئات لا رابط بينَها ومذاهب وطوائف دينية وعشائر تتحارب فيما بينها بينما تُحَرِّكُ الإمبريالية خطوط اللعبة خلف الأَضْوَاءِ الخ وبرز تطبيق هذه السياسة في العراق، ضمن تنْفِيذِ برنامج “الشرق الأوسط الكبير” (أو الجديد) حيث مَزَج الإحتلال الأمريكي بين القوة العسكرية والتقسيم الطائفي والعشائري، وخلق ميليشيات مَحَلِّية مُتَحَارِبَة في بلد يَجِبُ تَحْريرُهُ من احتلال أعتى قُوّةٍ امبريالية، ونَشرَتْ قوات الإحتلال عددًا قِيَاسِيًّا من المنظمات “غير الحكومية” واستقطبت هذه المُنَظَّمَات مُناضلي اليسار العراقي (من خارج الحزب “الشيوعي” الذي تَوَرَّطَ مع الإحتلال ومع مليشيات الأكراد منذ بدايات العدوان والإحتلال) فأصْبَحَ المُناضِلُون اليسارِيُّون يحاربون المقاومة المناهضة لوجود الإحتلال، وينَظِّرون ويَدْعُون إخوانهم في الوطن المُحْتل عسكريًّا إلى “انتهاج أساليب سِلْمِيَّة وحضارية، والإهتمام بالصِّراع الطَّبَقِي بدل النضال ضد الإمبريالية والإحتلال” (تيّار أتْباع “منصور حكمت” بِشِقَّيْه، على سبيل المِثال لا الحَصْر)، وساعدَتْهُم أمريكا (بواسطة منظمات خَيْرِية وإنسانية ونقابية يابانية وأسترالية وأمريكية وكندِية…) على تأسيس نقابات وامتلاك صُحُف ومحطات إذاعة وتلفزيون، لترويج الدعوة إلى “النِّضال السِّلْمِي” ضد الطائرات والدّبّابات والأسلحة الكيمياوية والصَّواريخ، ونجحت أمريكا في بلوغ هدف تفتيت الشعب العراقي وصَرْفِ جزء هام من قُواه عن الإحتلال، ونجحت في تقْسِيم البلاد، بَدْءًا بعشائر الأكراد ووصولاً إلى عشائر “السُّنَّة” (والأكراد سُنّة أيضًا لكن أمريكا لا تُصَنِّفُهُم كذلك)، قبل الإنتقال إلى ليبيا ثم سوريا واليمن، بعد أن قَسَّمَت السوادان، وتَسْتَهْدِفُ حاليا الجزائر ومصر وبعض البلدان العربية الأخرى…

ورد في شهادة “دَنيال بايمن”، مدير الابحاث في معهد “بروكينغز”، أمام مجلس الشيوخ الاميركي يوم 22/03/2016 “لقد تمكَّنَّا من إظْهار الحرب في سوريا كحرب أهلية مَذْهَبِيّة، وجَعَلْنا حزب الله في صفّ اقلية لا تتمتع بالشعبية في العالم العربي، ويجب ان تشجع الولايات المتحدة الرياض على اعادة دعمها لأشخاص ومُؤسَّسَات مُناوِئة لحزب الله في لبنان…”، وفي اليوم نفسه شَدَّدَ “ماثيو ليفيت” مدير برنامج “ستاين” للاستخبارات ومكافحة الإرهاب في “معهد واشنطن” (الذي أسَّسَتْهُ منظمة “آيباك”، أكبر مجموعة ضغط صهيونية في العالم، والذي دعا راشد الغنوشي ليقدم مداخلة أعلن فيها تَنَصُّلَهُ من قضية فلسطين) خلال شهادته أمام الكونغرس على الدور الهام لحكّام مَشْيَخَات الخليج في محاربة إيران وحزب الله وفي تصنيفه من قِبَلِ الجامعة العربية “منظمة إرهابية” بهدف زيادة “الاحتقان المذهبي” ليس في لبنان وحدَهُ بل في الوطن العربي… للتذكير: “ماثيو ليفيت” هو أحد معِدّي قانون العقوبات المصرفية ضد حزب الله، وأحد مهندسي الضغوطات على مؤسسات لبنان لِعَزْلِ “حزب الله”…

استخلص أحد قادة الاستخبارات الاميركية (في دراسة تعود إلى سنة 2008) وجوب عدم استهداف “حزب الله” مُبَاشَرَةً لأنه سيكون الرابح الاول من ذلك الإستهداف الأمريكي المُبَاشِر، لِذَا وجَبَ التَّرْكِيز على تَقْوِيض شَرْعِيَّة وُجُودِهِ وشرعية امتلاكِهِ السِّلاح في لبنان (هذا السِّلاح الذي مَكَّنَهُ من مُقَاوَمَةِ الإحتلال الصّهْيُوني)، وبدأت الولايات المتحدة تُطَبِّقُ هذه السِّيَاسة منذ 2010 وكان “جيفري فلتمان” أحد مُهَنْدِسي التكتيكات الأمريكية في لبنان وعددٍ من البلدان العربية الأخرى، واستخدَمت أمريكا القليل من المال من خلال تمويل الحملات الهادِفَة إلى منع حزب الله من استقطاب الشباب اللبناني (بحسب افادة السفير جيفري فيلتمان امام مجلس الشيوخ الاميركي يوم 8 حزيران 2010)، كما ساعدت المُخابرات الأمريكية ودَعَّمَتْ الحرب الإعلامية العربية (السعودية ومصر والأردن ولبنان) ضد “حزب الله”، واعترف “جيفري فلتمان” بإنفاق أكثر من 500 مليون دولار من خلال برامج يو اس آيد USAID وميدل ايست بارتنرشب إنيشياتيف (MEPI) في لبنان وحده لتحقيق هذه الأهداف… نُشِير أن “جيفري فلتمان” أصبح فيما بعد نائب وزيرة الخارجية الأمريكية مُكَلَّف بملف الوطن العربي (ما يُسَمَّى امبرياليًّا “الشرق الأوسط”) وأنجز إجهاض الإنتفاضات العربية في تونس ثم في مصر، وكان متواجِدًا في تونس يوم 14/01/2011 وشَكَّلَ أول حكومة بعد فِرار زين العابدين بن علي، وعلى رأسها “محمد الغَنُّوشي” آخر رئيس وزراء في حكومة بن علي، وأصْبَح بعد ذلك نائِبًا للأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، وهو عميل أمريكي من كوريا الجنوبية…

أَنْجَزَ ضابط الاستخبارات في وزارة الدفاع الاميركية “دوغلاس فيليبوني” دراسَةً هي اطروحة جامعية لنيله شهادة عليا في “التحليل الدفاعي” من جامعة مدرسة القُوات البحرية الأمريكية للدِّراسات، بعنوان: “حزب الله: الشبكة ونظام الدعم، هل يمكن ايقافهم؟”، واستخدم “فيليبوني” -الحائز أيضًا على شهادة جامعية في الرياضيات- التحليل الرقمي في تحديد استراتيجية الإمبريالية الأمريكية في مواجهة حزب الله من خلال قياس قيمة المنافع او الخسائر التي تجنيها الادارة الاميركية عبر الخطوات التي تقدم عليها في لبنان، كما استخدم “نظرية الألْعاب” وهي تحليل رياضي للتوصُّلِ إلى أفضل الخيارات الممكنة لاتخاذ قرارات في ظل الظروف المعطاة، تؤدي إلى الحصول على النتيجة المرغوبة، ويَقْتَرِحُ دعْمًا مالِيًّا أمريكيًّا للحكومة اللبنانية لمنع حزب الله من تكريس شرعيته وشعبيته محلياً، واستخدام منظمة الامم المتحدة والمنظمات “غير الحكومية” والأحزاب والقوى المحلية لمنع حزب الله من استقطاب الشباب، ومن جهة أخرى تأمين خدمات اجتماعية وتربوية ومهنية، بالتوازي مع تَسْعِير الصراع المذهبي اللبناني، وإظْهار حزب الله “مجرد عميل ارهابي لايران، مع العمل على اغتيال قادته العسكريين”…

نَبْذَة عن سِجِل “دوغلاس فيليبوني“: لهذا الضابط في المخابرات العسكرية صِفَةٌ رَّسْمِيَّة، مُعْلَنَة، فهو مندوب وزارة الحرب الاميركية لدى شركة “بالانتير تكنولوجيز”، وهي مُصَنَّفَة “شركة أمريكية خاصّة”، لكنها تُعَدُّ أكبر مصدر لجمع المعلومات الاستخبارية في العالم، ولا يُمْكِنُ لشركة بهذه الأهَمِّية (في أي بلد في العالم) أن تكون مُسْتَقِلَّة عن المخابرات وعن وزارات الداخلية والخارجية والأمن والحرب (الدّفاع)، أمَّا مُهِمَّتُهُ الحقيقية فهي دراسة كافَّة الأشكال المُمْكِنة لتطوير أسالِيب الهيمنة الأمريكية ومُلاءَمَتِها مع التَّغَيُّرات التي تَحْصُلُ في العالم، وهو كذلك ضابط مَيْدَاني يُشْرِفُ على تَنْفِيذ البرامج والخطط وُمراقبة النتائج…

أشرف “فيليبوني” على تخطيط وتنفيذ مهمات استخبارية في باكستان والعراق وافغانستان، وقاد عمليات خاصّة للقوات المشتركة، وتولَّى سنة 2005 مهمات استخبارية على الحدود بين العراق وسوريا، وكان من المُخَطِّطِين والمُنَطِّمِين والمُشْرِفين على انتخابات سنة 2005 في العراق، ووصفَتْهُ التَّقَارِير الإستخبارية التي رُفِعَتْ عنها السِّرِّيّة بأنه “يدير العمليات الاستخبارية في كلّ مراحلها: يتعرّف على ابرز الارهابيين ويخطط لمهمات قتلهم او القبض عليهم، وينفذ المهمات بنفسه، ومن ثم يستثمر المعلومات الاستخبارية التي تمكن من جمعها ليستهدف من خلالها الشبكات الارهابية (اقرأ خصوم أو مُنافِسي أو أعداء أمريكا) وعمل مع هيئات محلية وبعض قادة العشائر في منطقة الرمادي في العراق وساهم في تأسيس المليشيات المحلية وما سُمِّيَ (الصَّحَوَات)، و”اشترى ولاء بعض العشائر في العراق من خلال تمويل أمريكا لبعض المدارس وبعض البعثات الطِّبِّيَّة”…

هذا مُلَخَّصٌ لبعض ما يُنْشَرُ عن العدو الإمبريالي، وعن خطَطِهِ التي أعَدَّها لاستعمارنا واستعبادنا عسكريا وثقافيا وإعلاميا… ومن واجبنا أن نَعدَّ لهم ما استطعنا من قُوّةٍ، وتوجيه كل البنادق نحو الإمبريالية الأمريكية (التي تَدْعَمُ وتُسَاعِد الأنْظِمَة العربية على البقاء فوق رِقابِنا) والإحتلال الصُّهْيُوني، وتوجيه كل بوصلاتنا نحو فلسطين، بشأن التَّحَرُّرِ من الإمبريالية ونحو الأنظمة الحاكمة بشأن التَّحَرُّر الطبقي والإجتماعي، وكلا الجبهتين مُرْتَبِطَتَيْنِ، ولا يُمْكِنُ الفَصْلُ بينَهُما…

اعتَمَدْتُ في إعداد هذه الورقة في الجُزْءِ الخاص بلبنان على ما نشَرَتْهُ صحيفة “الأخبار” اللبنانية بتاريخ 13/08/2016

اترك تعليقاً