الأرشيفوقفة عز

توفيق خريبي “بُرلي” المخيم يرحل بريئاً كما جاء – نضـال حمد

توفيق خريبي “بُرلي” المخيم يرحل بريئاً كما جاء
بقلم : نضـال حمد ـ اوسلـو
01-01-2005

مضى العام 2004 بعدما ترك بصمة أخرى جديدة من بصماته السوداء، فكانت هذه المرة في النرويج البيضاء، حيث الثلوج والصقيع والبرد والبعد عن المكان الطبيعي. حيث ولد وترعرع وتربى مُهَجَرُونا الجُدُد من جيل نكبة ما بعد 1982 وحصار بيروت وحروب المخيمات وتجويعها من قبل القريب والغريب.. وحيث البيت الأول والثاني وناسنا وخلاننا، في القرى والبلدات والمدن الفلسطينية التي احتلت سنة النكبة 1948 واستولى عليها الغزاة الصهاينة، ثم في البيت الثاني في الشتات وفي مخيمات اللجوء في الدول العربية المجاورة. فبعدما عز على الفلسطيني أن يموت حصاراً وجوعاً في مخيمه داخل محيطه العربي، هاجر إلى المنافي الاسكندنافية والأوروبية الأخرى، بحثاً عن الحياة وعن الطريق إلى فلسطين، فالطرق من بلاد العرب مغلقة ومحكمة الإقفال، فمن يدري قد تكون طرق اسكندنافيا أقرب الى المنزل الأول.. هناك صار للفلسطينيين تجمعات في الدنمارك والسويد والنرويج، تشبه لحدٍ ما المخيمات في لبنان، مثل صبرا وشاتيلا وعين الحلوة والجليل وبرج الشمالي والبراجنة … الخ.

في تلك التجمعات والمخيمات ولدت الأجيال الفلسطينية الجديدة، وغادرت أجيالا أخرى من العجزة وكبار السن وبعض الشباب والفتيات من الشبيبة صغار السن نسبياً. صار للفلسطينيين مقابر تمتد على رقعة اسكندينافية كبيرة، ففي مقبرة منطقة كليمسترود بالعاصمة اوسلو يوجد قبر الحاج أبو حسن وعرية ابن بلدة الكابري في فلسطين ومخيم برج البراجنة في لبنان. أما في مقبرة مدينة سارشبورغ فيوجد قبر العميد أبو يسري تمراز ابن أسدود المحتلة وابن غزة المحاصرة.. كما توجد مقابر فلسطينية أخرى في كل العالم.. كأن الفلسطيني يسير مثلما سار اليهودي في الألفيتين الماضيتين، لكن السنوات وقبل الألفية الثالثة ستكون سنوات حرية شعب فلسطين.
في آخر أيامه إختطف العام المنصرف من الجالية الفلسطينية في النرويج الأخ توفيق نايف خريبي، هذا الفلسطيني البسيط، الهادئ، المسالم، الذي شاءت أقداره أن يولد ذو عاهة نفسية، وبدلاً من الرحمة والمساعدة والمعاونة في تخفيف الوطأة عن إنسان مريض ابتلاه الله بمرضٍ جاء مع ولادته وبقي يلازمه حتى وفاته. استغل بعض الناس السُذُج والمتخلفين في مخيمنا مرض توفيق، جعلوه ملهاة لهم ولتخلفهم، وظل توفيق الملقب “البُرلي” يعاني من ظلم المجتمع المتخلف والمحيط المجنون إلى أن هاجر إلى النرويج منتصف التسعينات. حيث أقام هناك ونال عناية ورعاية وطبابة لا مثيل لهم، فقدمت له الخدمات الطبية والصحية والنفسية، ثم أعطي إقامة بعد انتظار، فكان له الحق في الحصول على الجنسية النرويجية لكنه مات قبل أن ينال الجنسية، مات فلسطينياً بالانتماء وبالهوية وباللجوء في العالمين العربي والغربي.
معلوم أن القانون النرويجي يولي رعاية خاصة لذوي العاهات النفسية،المرضى نفسياً، فقد نال توفيق حصته من تلك القوانين الإنسانية الرفيعة. فقدمت له السلطات منزلاً ومرتباً شهرياً دائماً، ومساعدون يقومون بخدمته والسهر على حالته وصحته… ولأن توفيق لا يجيد اللغة النرويجية فقد كان سبباً كافياً لتشغيل عشرات من الفلسطينيين والعرب الذين كانوا عاطلين عن العمل أو بلا وظائف. فكان معيلهم ومساعدهم على إيجاد عمل في بلاد يصعب فيها إيجاد فرص عمل.
في مخيم عين الحلوة كان البعض يحسد توفيق على ما ناله من رعاية وحياة مرفهة في النرويج، كانوا يتمنون لو أنهم كانوا مثله كي يستطيعوا السفر من جحيم المخيمات والحصار والاستعلاء الأخوي العربي إلى جنة النرويج البعيدة، حيث يقيمون ويحصلون على عطايا القوانين النرويجية، التي تحترم البشر وبالذات منهم المرضى نفسياً. بالمناسبة يظن البعض أنهم ليسوا مرضى نفسانيا لكن إذا قمنا بدراسة المرض ومن هم المرضى كما يفعلون في النرويج فسنجد أننا كلنا نعاني من أمراض نفسية مستعصية، مرض الأخوة القاتلة، مرض العروبة الزائفة، مرض التخلف والحرمان والفوضى، مرض الجهل والاستغلال والاستزلام وعبادة المال، مرض الحروب وانعدام السلام والأمان، مرض اللامساواة، مرض الهوية وجواز السفر، مرض المطارات والموانئ والحدود ودوائر الإقامة والهجرة، هذا بالإضافة لما ولد معنا من أمراض يوم ولدنا في بلادنا المريضة.
أصيب توفيق في الفترة الماضية بمرض “عضال” سرطان الظهر وساءت حالته وعانى من المرضين الجسدي والنفسي، معاناة إنسان كان يجهل حقيقة ما ينتظره من مصير في هذا المكان البعيد. ظل يعاني من مرضه حتى وافته المنية يوم الأربعاء الماضي في المستشفى.

عندما نتحدث عن المرحوم توفيق لا بد لنا أن نتذكر ونذكر قريبه صديقي أبو سهيل هذا الحارس الأمين والصديق الوفي، الذي لازم توفيق مسيرته مع المرض وقبل المرض. فظل حريصاً عليه يلازمه ويعاينه ويساعده حتى توفي توفيق بين يديه وهو يناوله الطعام.
لا بد أننا سنفتقد توفيق والأوقات الجميلة التي كنا نقضيها معه بعض الأحيان، فقد كان إنساناً بسيطاً وطيب المجلس، يستطيع المرء أن يتحدث معه عن الموسيقى والأغاني والناس، عن ذكريات المنزل الأول وناسه من كل الأجناس والأصناف وعن كل شيء.. كان مرحاً وبريئاً مثل طفل ظل طفلاً حتى مماته.

نضـال حمد ـ اوسلـو
01-01-2005