الأرشيفثقافة وفن

 درس جغرافية على ظهر الجبل – قصة صغيرة: رشاد أبوشاور

فرد ذراعيه ومطّ بدنه القصير واقفا على رؤوس أصابعه، وأعلن وهو يبتسم ابتسامة كبيرة بدت كأنها ضحكة:

-اليوم درس الجغرافية على ظهر الجبل.

صمت، ثم أشار للجبل الرابض غرب المدرسة، والذي يفصله الإسفلت، وأرض مغطاة بالحجارة.

بالمؤشر الذي يستعين به لشرح الخرائط أشار للجبل، ثم لنا بأن ننهض فنهضنا:

-سنعبر الإسفلت بانتظام، بدون فوضى، فلسنا في سباق..ثم نلتف على الجبل من خاصرته المطلة على الوادي، ونسلك المسربة التي تمكننا من بلوغ ظهره العريض.

مضى أمامنا، وأومأ برأسه أن نقف فوقفنا متزاحمين، ثم عبر إلى الطرف الآخر من الطريق فتبعناه. تراكض بعضنا بصخب فوقف ورفع صوته:

-لن نصعد الجبل إذا لم تسيروا بهدوء وانضباط وبدون ركض، فنحن لسنا في سباق.

هدأنا، وتحلقنا حوله، وبيده لوّح بالمؤشّر إلى الجهة التي يريدنا أن نصعد الجبل منها.

بدأت أجسادنا تنحني مع الصعود، والحصى يتدحرج تحت أقدامنا. تنبهنا إلى صعود الأستاذ سلمان بنشاط ومؤشره يتأرجح بجوار ساقه اليمنى. توقف ومرر نظره علينا جميعا ليطمئن، ثم استدار وواصل الصعود ونحن حوله.

توقف عند منبسط تلة صغيرة، وأخذ نفسا عميقا. تلاصقنا حوله منتظرين أن يقول شيئا، ولكنه وجّه رأس المؤشر فسلكنا مسربة مضت بنا فوق تلال صغيرة متصلة ببعضها تصعد وتصعد كلما مشينا، وبلغنا بداية سطح الجبل فتوقف وتأملنا وأومأ برأسه أن استمروا.

انفتحت مساحة واسعة على ظهر الجبل، كنّا نعرفها من قبل، فياما صعدنا ولعبنا عليها.

مخيمنا (النويعمة) تحت، وقبالتنا مخيّم عين السلطان، وبساتين أريحا تمتد خضراء وعبرها تنتشر بيوتها.

توقف أستاذنا ودار حول نفسه. شعره قصير وخفيف وشائب. يرتدي قميصا نصف كم لأن الطقس حّار رغم أننا في نيسان، وينتعل حذاء خفيفا.

 رغم أننا في الصف الخامس ب فإننا نبدو مساويين لطوله.

-هذا الجبل لا قمة له. تأملوا شكله عندما تهبطون: يبدو كأنه فيل رابض على الأرض، لا رأس له، والتلال التي صعدنا بعضها لنعلو ظهره تبدو كأنها ذيل ممتد متدرّج صعودا و..هبوطا.

وجّه المؤشّر جنوبا:

-أترون البحر الميّت؟ هناااااك…

ارتفعت الأصوات: 

نراه يا أستاذ

آ..هناك..شايفينه…

أديروا نظركم غربا:

-ماذا ترون؟

جبال جبال جبال  يا أستاذ

-مزبوط ..جبال، ولكن خلفها ماذا ترون؟

لبثنا صامتين.

-القدس..القدس..القدس هناك وراء الجبال، والجزء الغربي منها مُحتّل وهو ينتظركم.

لذنا بالصمت، فنحن صغار، ولا نعرف كيف سنحرر الجزء الغربي من القدس.

-ستكبرون، فأنتم لن تبقوا صغارا.. وستتعلمون، وستعرفون الكثير.

استدار ورفع المؤشّر عاليا وسدد رأسه غربا:

-هل ترون البحر الأبيض المتوسط؟

لا لا لا لا نراه

يجب أن تروه، إنه وراء تلك الجبال..إنه بحر حيفا..حيفا سيدة البحر.. الميناء العريق..تنتظركم، فهي مُحتلّة مثل الجزء الغربي من القدس.

أخذ يُحرّك رأس المؤشّر في الفضاء ببطء، ثم سألنا: 

-أتتابعون ما أرسم؟

كنا نعرف ما يرسم، فهو عوّدنا على رسم فلسطين في الفضاء لتكون قرب السماء.

ارتفعت أصواتنا:

ترسم فلسطين يا أستاذ

-ارسموها جميعا، ليرسمها كل واحد منكم، وليضع عليها المدن، وليبدأ بمدن البحر، من الشمال إلى الجنوب، من عكا وحيفا ويافا إلى ..غزة، يعني كل مدن الساحل الفلسطيني..يلاّ  تأشوف. من يغّش فلسطين لا تسامحه. أغمضوا عيونكم وارسموها..يلاّ شباب، وليضع كل واحد منكم قريته أو مدينته في موقعها..يلاّ..وقولوا لها شيئا.

ارتفع صوت:

-ماذا نقول لها يا أستاذ؟

-اهمسوا لها بوعد ..بعهد..بأنكم سترجعون إليها..وستحررونها.

أغمضنا عيوننا جميعا وانهمكنا في رسم فلسطين من نهرها لبحرها، ووضع كل واحد منا اسم مدينته أو قريته ، وهمس لها…

عدنا إلى المسربة التي صعدنا منها. تنقّل الأستاذ أمامنا بحذر، وعندما صرنا قبالة المدرسة أشار لنا فتوقفنا:

-اليوم صعدنا معا على ظهر الجبل، وهو منبسط، وجبال فلسطين ذات رؤوس مرتفعة ولا بُدّ ان تصعدوا لتبلغوها، ومن هناك..من هنااااك يا أحبتي سترون بحرها ومدنها..ولن ترضوا بأن تبقى محتلة.

سأل أحدنا وهو يُحدّق في عينيه:

-ماذا تريد أن تكون عندما تكبر؟

-طيّار يا استاذ…

-وأنت ؟

-أنا ضابط …

-جيّد، وأنت؟ 

حدّق في عيني:

-وأنت؟

-سأصعد الجبل يا أستاذ. 

-كلكم يجب أن تصعدوا جبال فلسطين..أيوه؟

وضع يده على كتفي وهزّ جسدي:

-كونوا أقوياء..وتعلموا ..واعرفوا..لتصعدوا وتروها ببحرها وجبالها وسهولها..و..ارسموها في قلوبكم.

عاد وسالني بحزم:

-ماذا في قلبك يا…

-رشاد يا أستاذ.

-أعرف اسمك..وأسماءكم جميعا. 

هزّ جسدي وهو يمسك بكتفي:

-ماذا في قلبك؟

-فلسطين يا أستاذ…

جميعا أجيبوا:

-ماذا في قلوبكم؟

دوّت أصواتنا رغم أنها نحيلة: 

فلسطييييين 

أغمض عينيه وتمتم، فسمعته لأنني أقف بقربه:

-لست خائفا أن تنسوا وعدكم لها. ربما لن أكون معكم، ولكنكم ستصعدون جبالها..ستصعدون…

 

 درس جغرافية على ظهر الجبل – قصة صغيرة: رشاد أبوشاور