كتب

سياسات خطيرة لمواجهة “كورونا”… هل تراجعت بريطانيا أخيراً؟

 

الإجراءات البريطانية لمواجهة فيروس كورونا بدت خطرة ومختلفة عن مثيلاتها من الدول، فهل تثبت الحكومة على خياراتها في ظل الانتقادات المتتالية والدراسات التي تظهر الآثار المفجعة لهذه الإجراءات؟

تتطلب المناعة الجماعية في المملكة المتحدة أن يصاب أكثر من 47 مليون مواطن 

بدا رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون بإعلانه الخميس الماضي أن “الكثير من العائلات، الكثير جداً من العائلات، ستفقد أحباءها قبل الموعد” غير آسف. إذ يظن وإدارته أن ذلك الخيار حتمي ولا بدّ من تقبله لكونه يضمن مستقبلاً أفضلاً لبريطانيا، التي ما إن كشفت عن خطتها للمواجهة حتى تتالت عليها الانتقادات، باعتبارها تقوم بمغامرة غير مسبوقة وبمواجهة تهديد غير معروف بشكل غريب.

لكن ما الذي يثير في هذه الخطة؟ أحقاً المملكة المتحدة متجهة للتضحية بقرابة نصف مليون مواطن على الأقل من أجل ضمان المستقبل؟ وما رأي علماء الأوبئة بهذه الاستراتيجية؟

تقوم فكرة الحكومة البريطانية على ضبط انتشار فيروس كورونا، أي السيطرة على انتشاره، لا وقف الانتشار بشكل شبه كامل كما فعلت الصين وكوريا الجنوبية، وذلك لهدف أساسي يتمثل باكتساب المجتمع البريطاني لما يعرف بـ”المناعة الجماعية” التي ستحمي المجتمع من موجةٍ أخرى من الفيروس، وتجنّبه من مغبة تعطيل حركة البلاد بشكل كامل لمدة غير معلومة.

ولأن نسبة معدل الوفاة بفيروس “كوفيد-19” تبلغ قرابة 2.3%، فإن الفرصة تبدو سانحة للحكومة البريطانية، للتخفيف من حدّة الإجراءات الوقائية، والاستعاضة عن ذلك بحماية الفئات المهددة بالوفاة نتيجة الوباء بعزلهم، ريثما يصل العالم إلى “العدوى صفر”، أي تشكيل مناعة جماعية تسمح بوقف انتقال الفيروس بين الناس.

هل فكرتم كيف يعمل جهاز المناعة؟ وماذا عن “مناعة القطيع”؟

 
أجسادنا تحارب الفيروسات من خلال جهاز المناعة، الذي ينتج أجساماً مضادة (antibodies) في استجابة لمحاربة الكائنات الدخيلة وإزالتها.

حينما ينجح الإنسان بمحاربة الفيروسات، يصبح قادراً على مواجهته بصورة أفضل وأسرع في المرة الثانية، لأن جهاز المناعة يشكّل ما يشبه “الذاكرة” عن هذا الكائن الدخيل سواء أكان فيروساً أو تهديداً آخر.

نظرياً، عندما يطوّر الإنسان مناعةً ضد فيروس، فإنه لا يحمله بعد ذلك.

أما نظرية المناعة الجماعية فتقول إنه حين تطوّر فئة واسعة من الناس مناعة ضد فيروس ما، فإنه في النهاية سيتوقف عن الانتشار بين الناس الذي لم يصابوا به بعد.

فحين ينتشر مرض معدٍ بين عدد كبير من السكّان، تكتسب فئة واسعة مهم مناعة تجاه هذا المرض، مما يخفّف من شدّة العدوى.
لكن يبقى الطريق الأفضل لتطوير مناعة جماعية هو التطعيم. فالطُعم يحتوي على كمية قليلة من الفيروس الذي يتم إدخاله إلى الجسم، حيث يتعلم جهاز المناعة كيفية محاربة الفيروس دون الإصابة بالمرض وعوارضه المؤلمة.

مثلاً، إذا كان هناك شخص مصاب بالحصبة وسط أشخاص قد حصلوا جميعاً على لقاح الحصبة، فإن المرض سيختفي سريعاً بسبب عدم وجود أي شخص ينتقل إليه.

لكن بما أننا لم نتوصّل حتى اليوم إلى لقاح ضد فيروس كورونا، فإن “مناعة القطيع” تبدو بحسب الحكومة البريطانية سبيلاً ممكناً للخروج من “حصار” كورونا.

تتطلب المناعة الجماعية في المملكة المتحدة أن يصاب أكثر من 47 مليون مواطن من سكان بريطانيا البالغ عددهم ما يقرب من 66.5 مليون نسمة، أي ما نسبته بين 60% و70% من مجمل السكان. وبمعدل قتل يبلغ الـ2.3% و19% من المرض الشديد، سيؤدي الفيروس إلى موت قررابة مليون شخص، وسيتطلب إخضاع 8 مليون للاهتمام الصحي العالي.

انتقادات للخطة البريطانية: هل من تغيير لهذه السياسة؟

تلقّت الخطة البريطانية العديد من الانتقادات اللاذعة، لكونها لا تبدو علميةً بما يكفي، ومخالفة لتعليمات منظمة الصحّة العالمية التي طالبت بتعزيز العزلة والتباعد الاجتماعي، كما تساءل البعض عن أخلاقية هذه السياسية، التي تؤدي إلى مقتل مئات الآلاف من أجل تجنب أخطار مستقبلية غير واضحة بعد.

واستغرب المدير السابق لمنظمة الصحة العالمية والمدير الحالي لمعهد الصحة العالمية بجامعة كولدج لندن، الدكتور أنثوني كوستيلو، إجراءات الحكومة البريطانية التي تقول “إنها ستمنع انتشار المرض مرة ثانية بعد عدة أشهر، ولكن الحكومة لا تتّبع بذلك توصيات منظمة الصحة العالمية. قامت الصين وكوريا وسنغافورة باتباعها وكبحت انتشار الوباء”.

وقال الأستاذ في السياسات الاجتماعية في جامعة “شفيلد” البريطانية ألان والكر، أن جونسون “يعاني من فراغ أخلاقي”، مضيفاً أنه “لا يجب أن نشكك في علمية مناعة القطيع، بل كذلك في مدى أخلاقيتها”.

من جهتها، أوضحت المتحدثة باسم منظمة الصحة العالمية مارجاريت هاريس، أن “ما نعرفه عن فيروس كورونا ليس كافياً” الأمر الذي يتطلب الابتعاد عن الكلام النظري، إذ أننا “نواجه في الوقت الحالي وضعاً يتطلب منا اتّخاذ إجراءات”.

بموازاة ذلك، غرد البريطانيون باستخدتم وسم #ToryGenocide على “تويتر”، منتقدين جونسون وحزبه المحافظ، ومتهمين الحكومة بالسماح للمرضى والمسنين بالموت.

وساهمت الدراسة التي أعدها بروفيسور علم الأحياء في كلية لندن الإمبراطورية نيل فيرغسون ونشر نتائجها يوم الاثنين، في إحداث بعض التبدلات في إجراءات الحكومة البريطانية، حيث خلص فيرغسون إلى أنه “إذا لم تفعل الحكومات والأفراد شيئاً حيال قوة الفيروس وسرعة انتشاره، وظل الوضع غير مضبوط بقوانين خاصة، فسوف يموت 510 آلاف في بريطانيا ونحو 2.2 مليون في الولايات المتحدة”.

إثر ذلك، أعلن جونسون أنه سيأخذ “إجراءات جذرية”، داعياً جميع من في المملكة المتحدة أن يتجنبوا السفر “غير الضروري” والاتصال بالآخرين لكبح انتشار فيروس كورونا.

وأضاف رئيس الحكومة البريطانية أن “الناس يجب أن يعملوا من المنزل إن أمكن ذلك”، وذلك ضمن مجموعة من الإجراءات الجديدة الصارمة.
من جهة أخرى، قال كبير المستشارين العلميين في المملكة المتحدة باتريك فالانس، إن “إجراءات أخرى قد تكون ضرورية، بما في ذلك إغلاق المدارس في مرحلة ما”.

يبدو أن الحكومة البريطانية ستخضع أخيراً للانتقادات المتواصلة تجاه سياساتها، لكن ألن تكون بذلك قد تأخرت كثيراً عن الإقدام على ما يلزم؟ 

المصدر : الميادين نت