الأرشيفثقافة وفن

عن غسان كنفاني (بعض الذكريات عنه بعد 51عاما على تفجير جسده) – رشاد أبوشاور

 انتقلت إلى مدرسة معهد فلسطين في حي الأمين لأدرس الصف التاسع. تأملت رسومات على الخشب معلقة على مداخل الصفوف، صغيرة بحجم الكف. أحد الزملاء في صفي أخبرني: هذه رسومات لأستاذ كان هنا في مدرستنا ولكنه سافر إلى الكويت ليعمل هناك..اسمه غسان كنفاني.

حديث عابر لم أتوقف عنده مطولاً، ولكنني استعدته في ذاكرتي مراراً في ما بعد. 

قرأت (رجال في الشمس) ثمّ ( ما تبقى لكم)، وكنت قد أدمنت القراءة، والتهمت الروايات والقصص التهاما. 

وصلت إلى دمشق قبل سنتين تقريبا للالتحاق بأبي اللاجئ السياسي في سورية منذ عام 1957، وفي سنتين قرأت الكثير، وقررت أنني سأكون كاتبا، وأن حياتي المستقبلية قد تحددت بهذا الخيار.

قرأت قصصا للقاصة سميرة عزام، وانبهرت بقصتها(فلسطيني)، وحكيت عنها لكثيرين، ونسختها وعممتها.

انتقلت إلى مدرسة (دار الفكر) لأن مدارس الوكالة كانت تعلّم حتى الصف التاسع، وفي الصف العاشر تعرّفت على أصدقاء جددا، وسررت لأن بعضهم كانت لديهم ميول أدبيّة، عرضوا محاولاتهم القصصية عليّ، وأنا فعلت نفس الأمر، ولكننا لم نحاول أن ننشر شيئا من محاولاتنا.

دخل غسان كنفاني في حياتنا، وبات المثل والقدوة، وقرأنا قصصه القصيرة، ورواياته، ومع الوقت بتنا أمام التحدي لأننا نريد أن نكتب مثله، وأن تكون قصصنا رفيعة المستوى، وجديده بتقنياتها.

إنها سنوات دمشق التي امتدت من عام 1957حتى 1965، وبعدها عدت مع والدي إلى الضفة الفلسطينية، تحديدا إلى مخيم النويعمة جار أريحا.

زرت القدس، والخليل، وعشت أوقاتا صعبة، ولكنني حوّلت الصعوبة إلى تجربة تعرّفني أكثر بواقع شعبنا الفلسطيني في الضفة، وبدأت أهجس بكتابة روايةتُجسّد حياة البؤس والشقاء والغربة في الوطن!.

قبل عودتي من دمشق بسنوات، تحديدا عام 1962 انتظمت في صفوف فصيل فلسطيني، وخضعت لعدة دورات تدريبيّة، وتفتح وعيي الوطني ، وبتُّ أفكر طيلة الوقت بقضيتي الفلسطينيّة، ولم تخطر ببالي الكتابة إلاّ عن قضيتي الفلسطينيّة والصراع مع العدو الصهيوني.

قرأت (ما تبقّى لكم) وكتبت عنها مقالة أرسلتها إلى مجلة ( الآداب) التي كانت قبل سنوات قد نشرت لي مقالة عن مجموعة صديقي الشاعر فواز عيد ( في شمسي دوار) و..لكن المقالة لم تنشر.

ربما لم تصل، ووضعت جهات أمنيّة اليد عليها، ولكنني حزنت لعدم وصول المقالة ونشرها.

كنّا نكتب باليد، ولم تكن لدي نسخة ثانية.

عام 67 توظفت في بنك( الأردن)، وبعد مرور شهرين وقعت الهزيمة، واضطررنا للرحيل، وبدأت مرحلة جديدة في حياة شعبنا، وأمتنا. 

في حزيران 67 غادرنا أريحا بعد النكبة الثانية لفلسطين وشعبها، و..لم يطل عملي البنكي، فاستقلت.

التقينا في العاصمة الأردنية عمان، عند (بسطة) حسن أبوعلي بائع الصحف والمجلات في شارع فيصل، وبتنا من زبائنه اليوميين، نجلس على كراسي القش القصيرة، ونتصفح الجرائد والمجلات، و..بيننا نشأت صداقة: الشاعر محمد القيسي، الشاعر أحمد دحبور، الشاعر خالد أبوخالد،الشاعر موسى صرداوي، وغيرهم ممن وفدوا من أقطار عربية عاشوا فيها ولم يكن متاحا لهم من قبل أن يلتقوا في عمان، على مقربة من فلسطين، ولكن انطلاقة المقاومة يسّرت لهم الأمر.

بدأت مجلّة ( الهدف) تصل إلى عمّان، وتحمسنا لها، وأُجريت معنا حوارات وندوات لها، ويوم وصول نسخها إلى عمان، وهو يوم السبت مساء كما أتذكر، بتنا نلتقي لنتلقف نسخها التي كان يحضرها حسن أبوعلي من شركة التوزيع.

 لقد كانت الهدف تجمعنا، وكان غسان كنفاني حاضرا معنا، ونتصرف كأنه صديقنا ورفيقنا، رغم أننا من فصائل مختلفة، ولم نكن قد التقينا به بعد.

كانت الثقافة تُقرّب بيننا، ورواياته وقصصه القصيرة، وكتاباته الصحفية محور حديثنا..وكانت تلهمنا.

تلك أيّام هبّت فيها رياح المقاومة على الوطن العربي، وبدأت مذلة ومهانة هزيمة حزيران تتبدد، وكبرت الآمال بحرب التحرير الشعبية، وتسيّد الزمن الفدائي والمقاومة، وباتت فلسطين في مرمى فوهة البندقيّة وخطوات الفدائي الفلسطيني بخاصة، والعربي بعامة.

آنذاك بدأنا نكتب قصصا وقصائد مشتركة. محمد القيسي وموسى صرداوي كتبا عدّة قصائد، وأنا شاركت في الترويج، وما زلت أتذكر مقطعا من قصيدة للقيسي وصرداوي: 

أيتها الرصاصة القناصة

أيتها الخلاصة 

يا والدتي

وقد نشرتها في مجلة ( الجبهة) التي كانت تصدر في دمشق وقدّمت لها.

ذات يوم توجهت إلى بيروت، وضعت حقيبتي في مقّر مجلة ( إلى الأمام) وكان صاحبها، نسيب نمر، قد تنازل عن إصدارها وترأس تحريرها المرحوم فضل شرورو عضو قيادة الجبهة القيادة العامة، وكنت أنا ضمن صفوف الجبهة التي هي جبهة التحرير ولكنها خرجت من الوحدة التي جمعتها مع (شباب الثأر) و( أبطال العودة)، وحملت اسم (الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين).. وتوجهت فورا إلى مقر الهدف الواقع قبالة البناية التي تضم مكتب منظمة التحرير الفلسطينية وكان يترأسه الصحفي الكبير والمناضل المعروف الأستاذ شفيق الحوت.

و..التقيت بغسان كنفاني وجها لوجه.

كان مكتبه يقع في غرفة واسعة مفتوحة الباب، وهكذا اعتدت أن أجده ، حييته وعرّفته بنفسي: أنا رشاد أبوشاور فوقف وسلّم بحراره. أشّر لي أن أجلس وخرج ، وعاد بعد قليل وهو يحمل غلاية قهوة وفنجانين صب فيهما، وقدم لي أحدهما، ثم أخذ يمرر سيكارة تحت أنفه احترت لأنه لم يشعلها.( فيما بعد عرفت أنه مصاب بمرض السكري).

لفت انتباهي أن لون بشرة وجهه ليس أبيضا بل أميل للصفرة، وكان هذا مظهر من مظاهر السكري. 

تحدثنا كثيرا حديثا عاما، ثم أخبرته انني درست في معهد فلسطين( الإليانس) فسألني بانتباه:

-هل علمتك؟

ابتسمت وأجبته:

-في المدرسة..لا.

فابتسم.

في لقاء آخر أخبرته أنني كتبت عن رواية( ما تبقى لكم) فسألني باهتمام:

-أين ما كتبته؟

_كتبته وأنا في أريحا، قبل الهزيمة بأيام، وأرسلته للآداب..ولم ينشر. ولا أدري إذا كان قد وصل للدكتور سهيل..أم وُضعت عليه (اليّد) في بريد أريحا!.

قال:

-أنا لم أصدر الرواية عن الآداب، ألا توجد عندك نسخة من المقالة؟

أبدى اهتماما بالاطلاع على رأيي في (ما تبقى لكم)، وأسف لعدم توفر المقالة.

تيقنت أنه متواضع، وأنه لا يستعلي، وأنه معني بسماع آراء الكتاب حتى لو كانوا في بداياتهم وهو في أوج شهرته. 

ذات يوم طلب فضل شرورو مسؤول الإعلام في الجبهة القيادة العامة أن نتوجه معا، أنا والشاعر مؤيد الراوي –عراقي التزم بالجبهة وإعلامها- لزيارة غسان كنفاني لوضع أسس للتنسيق الإعلامي، فتوجهنا إلى مجلة الهدف، فابتسم غسان وهو يخبرنا : لندع التنسيق للسياسيين، أنا ساقرأ لكما الجزء الذي أنجزته من روايتي الجديدة.

بدأ يقرأ الفصول التي أنجزها من( برقوق نيسان) إلى أن فرغ فاعتدل وسألنا، ما رأيكما؟.

كان يبتدع أسلوبا جديدا غير مسبوق في القص، وأراد أن يسمع انطباعاتنا، هكذا بتواضع!.

أذكر أننا تحمسنا للتقنية الجديدة في روايته، وأنه وعدنا بعد أن شرح توجهه في العمل الجديد، بأنه سيقرأ لنا ما سينجزه حين يكمل الرواية.

كان غسان كاتبا متواضعا، وهذا يعود لأصالته، وإيمانه بدوره ككاتب ومثقف ثوري، ومنتم لقضيته وشعبه وأمته.

ذات يوم دخل عليه في الهدف صديقنا الشاعر موسى صرداوي، وهو قصير القامة، ونحيل الجسد، وعيناه جاحظتان، ووجنتاه بارزتان، ويحكي دائما بالفصحى، وبأسلوب مسرحي خاطبه فاردا ذراعيه:

_أبا فائز..أنقذني!

رد غسان( أبوفايز):

-ماذا هناك يا أستاذ موسى؟

_أريد أن أسافر إلى السويد هربا من الشرق الأوسط.. و..هناك فنّانة وعدتني بتذكرة سفر إذا ما كتبت عن معرضها الفني الحالي في بيروت، وأنا وعدتها عندما زرت معرضها..وهاهي المقالة معي.

نادى غسان على مدير التحرير، وطلب منه أن ينشر المقالة في العدد القادم دون أن يقرأها، وأن لا يريه عدد الهدف إلاّ بعد صدوره!.

عرف غسان أن المقال مكتوب مجاملة، وهو بنشره عزم على مساعدة موسى للسفر رغم أن هذا مخالف لقناعاته!.

كان غسان كنفاني صاحب مشروع ينجزه وهو يعيش حياة الخطر، ولذا كان يكتب ليل نهار رواياته، وقصصه، ويدير مجلة الهدف، ويشتبك في مواجهات فكرية، ويرسم، ويبدع خطوطا جميلة، و..كان يسابق الزمن.

إن حياته القصيرة قد أعطت الأدب العربي روائع أدبية روائية، وقصصية، ومسرحية، ونقدية، لأنه لم يكن يضيّع وقته، فحياته جديّة، ممتلئة، وهو يسابق الزمن مدركا أن أخطارا تحدق به، ليس أخطرها مضاعفات مرض السكر، ولكن ما يتوقعه من العدو الذي يستهدفه في كل لحظة.

مرارا التقيته، وتحدثت معه، وأصغيت إليه، وفي بعض المرات وقفت في مدخل غرفته المحتشدة بالصحفيين والمراسلين، وتابعته وهو يجيب على أسئلة بعضهم باللغة الإنقليزية، وفي نهاية اللقاء كان يسأل الحاضرين، وأنا منهم: ها..ما رأيكم؟

كنت أشعر وكأنه مع نهاية كل لقاء صحفي، أو مؤتمر صحفي، أنه يبدو وكأنه يخرج من معركة ويجلس ليتنفس بعمق، و..يستعد لاشتباك آخر!.

هل كنت صديقه؟ من جهتي نعم، ومن جهته كنت أراه صديقا لكل من يلتقي بهم ..فكرا، وانتماء..وكتابةً..وأنا منهم!.

لم يحدث أن دعاني للانضمام للجبهة الشعبية، حتى بعد أن غادرت موقعي التنظيمي وبتُّ (مستقلاً)…

وأنا أسير في جنازته كنت أحاول تجفيف دموعي لأرى نعشه بوضوح غير مصدّق، في جنازته الممتدة من (الهدف) في حي المزرعة حتى مقبرة الشهداء، في جنازته المهيبة الحاشدة..وأنا أردّد: يا للخسارة..يا للخسارة..يا للخسارة..يا غسان المعلّم الحبيب!.

أنا لم أنس غسان كنفاني المعلّم، ودائما أعود لقراءة رواياته وقصصه القصيرة، ومقالاته النقدية الساخرة والجادة(فارس فارس) في مجلة الصيّاد، والتي جُمعت بعد رحيله وصدرت في كتاب من منشورات( الآداب)، ومسرحياته..وأجد فيها جديدا، ورؤية جديرة بالتأمّل..والتعلّم.

رحل غسان كنفاني إثر تفجير سيارته صبيحة 8تموز 1972، ومعه رحلت ابنة أخته الشابة لميس، و..حتى اليوم تكتب الدراسات عن فنّه الروائي والقصصي، وعن حضوره الفكري، وعن حياته القصيرة الغنيّة المُلهمة لأجيال من المبدعين والمقاومين.

في تأبينه للقاصة والمترجمة والإعلامية والمناضلة سميرة عزام، اختتم كلمته: كانت معلمتي…

اليوم أخاطبه: غسّان كنفاني..أنت معلم على طريق فلسطين الواحدة الكاملة.أنت معلمنا نحن المؤمنين بتحريرها كاملة وإلحاق الهزيمة بالمشروع الصهيوني.

عمرا مديدا يا مُعلّم.. وحياة تتجدد بمقاومة شعبك العربي الفلسطيني البطل، وبأعمالك الروائية والقصصية والفكرية والفنيّة التي تُلهم وتنير درب فلسطين.

نحن لا نتذكّر غسان كنفاني في يوم اغتياله،لا، نحن نتذكره، وكل قارئ عربي يتذكره ونحن نقرأ قصصه ورواياته، ونتأمّل لوحاته، ونعود لكتاباته الصحفيّة والفكريّة التي تصدى بها مبكرّا لدعاة( التسوية)، وللمنحرفين فكريّا…

غسّان حي بإبداعاته، بحياته الجدية التي مكنته من كل إنجازاته رُغم عمره القصير، وهذا ما يجب أن يتعلمه الكتّاب والمثقفون والمقاومون الجادون الصادقون..فتعلّموا..وتعلّموا… 


8-7-2023

رشاد أبو شاور