الأرشيفثقافة وفن

عن فُخارة الخليل – مازن مصطفى

عن فُخارة الخليل
عن مُتع اللُّقمة في حنايا الجسد
عن ارتحالاتٍ في طهي اللحم من طنجة إلى أبو ظبي
وجواب “وين الملايين؟”: عند بو رديم
****************************************************
(ملاحظة: هذا نصٌّ مبسترٌ ومختصر جداً، تدل عليه النقاط، من فصل كتبته في أدب الرحلة بانتظار النشر، وخفت من ثقل حمولته العلمية عليكم اجتماعا وسياسة، راجياً أن يكون ما تبقى منه هنا ممتعاً)
______________________________________________________
مثل كل أوّلٍ، مثل الحبيب على وجه التخصيص، تحفظ الذاكرة تلك الذائقة الأولى، وذلك الطعم الأزليّ .
نأكل في مشرق الأرض ومغربها،ونسأل : لماذا لا يُستعاد ذلك الطعم الأول؟ لماذا وكأنا، وإن مرّ زمان، نتأدم بذكراها تُرطّب الفمَ، عالقةً في العقل، تنزُّ، هناك عند ضرس العقل؟!
أتذكر، في مطلع اليفاعة(1963) “فُخارة الخليل”، وإن كنتُ طوّفت في أكثر من مئة بلدٍ، وحرصت بوعي أن أتذوق اللحم تحديداً في أكلاتها التقليدية، تلك التي صارت هويةً، تتجوهر في مصهرالتاريخ الطويل والعلاقات الاجتماعية والعادات والتقاليد والدين ومحددات الجغرافيا، فما نسيت الخليل ولا نسيت الفُخارة.
……..
هي كما يعرفها جيلنا والجيل الذي سبقنا ، من اللحم فقط. أما”الموضة ” الجديدة ،وخصوصاً في المطاعم التجارية التي تتخفى وراء الأكلات التراثية، فتضاف الخضروات، وهذه للإكثارمن المكونات (الهامشية) لحشو المعدة والأمعاء، وهي كذلك عند العائلات كثيرة العدد.
…في جرة فخار صغيرة تضع نصف كيلو من لحم (الخاروف) بدون عظم، مقتطع من القسم السفلي للفخذ،والقطع الكبرى من الكتف. يضاف إليها كمية وازنة من الثوم والفلفل الأسود وقليل من كبش قرنفل ،وحب الهال مطحوناً، وقليل من الملح ، وملعقة من السمن البلدي، فقط لا غير،ثم يحاط باب الجرّة الصغيرة بالعجين أو الطين(وهو الأسهل لاحقا لفتح الجرة)، ولا يضاف لها الماء، فهي تتكفل بإساحة مرقها، وهو الأهم في معنى الطعم. توضع الجرة في فرن البيت (للأفران القديمة شرط ان تكون النار نحو الإنطفاء) وعلى درجة حرارة 200 لساعتين أو أكثر فالمبدأ هو الطبخ البطيء . في التقديم لا يرافقها شيء سوى الخبز وشراب اللبن وربما السلطات أو الحمُّص وقد دُمّس تدميسا.
……في مراكش، والتي اسميها “خليل” المغرب لتشابهٍ كبيرٍ في تكوينها الاجتماعي والاقتصادي وعلاقتها بالمحيط مع “خليل” الرحمن …هناك وفي ساحة (لِفْنا) كما يلفظونها، والمقصود فناء الجامع الكبير،بمساحة ملعب كرة قدم، ينعقد كل ليلة مهرجان للمأكولات. تمتليْ الساحة بالموائد، وتتفرد كل واحدة بأكلة تراثية، وكل أكلة هوية، وكل هوية قصة في الاجتماع والسياسة.
..في فندق المأمونية في مراكش، وكانت عاصمة البلاد قبل الرباط،… وكان من أرقى فنادق العالم (له قصة تروى) أكلت ” الطنجية”التراثية، ويا للمفارقة ، على أنغام موسيقى الجازالمنبعثة من البارالشهير عالميا بموسيقاه والمجاور للمطعم , “الطنجية” نسبة إلى مدينة طنجة، وهي من اللحم فقط، ويُطبخ في جرار الفخّار، مع بهارات مغربية أهمها (راس الحانوت) وأظن ذلك الأقرب الى (السبع بهارات) في المشرق العربي. بطعمٍ شهي بلا شك، غير أن ما يفرّقه عن فخارة الخليل أن الأخيرة من اللحم المشفّى من العظم، فيصْفوا طعم اللحم، في حين أن احتراق العظم في الطنجية ، يغير من المعنى، وهو ما نبهت إليه الطاهي وأخذ بنصيحتي بكل جديّة، ذلك أنه عاد إلي وفي يده قلم وورقة ليسجل شرحي لمكونات الفخارة الخليلية هازّاً برأسه ، واعداُ بأن يجرب،ولم أعد إليه.
. ..في طنجة لم أجد الطنجية ، يبدو أن تدويلها ، أو كثرة السواح فيها، من الأميركيين خصوصاً ومنهم الشعراء والأدباء المكرّسين، والجواسيس وسواح الاستيهامات الجنسية في افريقيا …، كان على حساب تراثها وهويتها.
.. طبعاً أكلتها في تونس ولكن للأسف في المطاعم السياحية والتجارية ، مثل رام الله أيضاً، فلا تعرف كيف طُبخ اللحم ، وتصير طقوس وضعه في جرة فخارية ساخنة، ضحك على ذقون من يجهل الأصل،ويصير المشهد أهم من الطعم ومن المعنى.
…أُطعمتُ الكثير من موائد اللحم باختلاف طرائق طهوه، وبغير معنى الفخارة الخليلية، ففي الجزائر لا أنس الخراف أو الجديان المشوية على الفحم، يخترقها سافود، ومن طرفيه تُعلق الذبيحة على ارتفاع 30 سم عن الفحم المُجَمّر ويتم تحريكها دائرياً، لأكثر من 3 ساعات ، وما كنت استغربه هو نضج اللحم على وزنه وكثافته، وكأنه شوي في فرن، فافادني في ذلك خبير، قال لي أن هذه انواع محددة من الخراف، وأن مرعاها هو الشيح، وتتملك رعيها قبائل توارثت المهنة، في الجبال الفاصلة بين البحر والصحراء.. وأن هذه الخراف صغيرة السن بما لا يزيد عن ثلاثة شهور بعد الفطام ……
غير أن شواء الخروف يتفاوت في طعمه من بلد إلى آخر ليس فقط في المرعى ونوع العشب، بل في انواع الحطب المستعمل، فكنت محظوظاً في أني جربت ، في أبو ظبي، لحم الذبيحة مشويةً على حطبٍ يسمى حطب السَمر، وهو حطبٌ معروف في المناطق الجنوبية من نجد وفي الإمارات وفي أطراف المدينة المنورة وهو أغلاها ثمناً. وهذا ما أدخلني في باب جديدٍ من أبواب الإثنوغرافيا، وفهم أنواع الحطب في الجزيرة العربية، وإلى أسمائها والفوارق في استعمالاتها، ودخانها، في السحر أحيناً وفي الاعتقاد بطرد الشياطين، أو علاج أمراض الرشوحات ،إلى ورودها في الشعر مثل الغضى عند مالك بن الريب. ليصل الأمر إلى احتكارات قبلية لأنواع تصلح لشواء الطير أو الجدي أو الخاروف أو القعود(صغير الإبل). ومن أشهرها إلى جانب السمر والغضى، السَلَمث والطلحُ والرَمث، والقرض.
.. هناك مقاربات مع ما نسميه في فلسطين والاردن ب(الزرب) فأكلت في اليمن ،ما يشبهه في طريقة الطهي وأعني به “المندي” وارتباط الأكلة بتراث عظيم وعادات ،فهذا مندي حضرموت وهذا مندي جيزان وهذا المُكلّا، وهذا للأفراح وذلك للأتراح، ولها كلها طعمٌ شهيّ يفتقده المندي المصنّع في المطاعم أو المجهّز لطلبات البيوت، مما أكلته في السعودية ، في جنوبها وفي الرياض باشكال تجارية وباختلافات في الطعم بسيطة، تكاد لا تبين.ولا بد من ذكر “الحنيد” وهو اللحم مشوياً على مداحٍ من الصخر يتم تسخينهاإلى درجة عالية وتلقى فوقها قطع اللحم.
أقرب ما أكلت إلى فخارة الخليل إضافة إلى الطنجية وما أتقنته هامة للمشاركة مع الأصدقاء(كما في الصورة، مع ملاحظة أن الفخارة تتسع لما يزيد عن رطلين من اللحم بدون عظم) كان في موقعين(إقرأ موقعتين)
الأول : في جزيرة هفار(Hvar) في الأدرياتيك وكانت ايامها تتبع يوغسلافيا قبل تفككها، والآن تتبع كرواتيا، هناك مع رفيقتي الدائمة في الرحلات وفي رحلة العمر، هامة، دخلنا ساعة المغيب ، والقمر في تمامه، بيتاً وحيداً يستفرد بالجبل ،وهو يطل على البحر من الجانبين، وتلك اصلاٍ ميزة تلك الجزيرة التي هي، تقريباً جبل بطول 90 كيلومتر فاكتشفنا ان البيت المضاء بكثافة تناديك، مطعمٌ يقدم الأكل كما كل المطاعم غير انه ينفرد باكلة تقارب الفخارة.
يتم تسخين ما يشبه طاولة من الطوب الناري بجمر الفحم لفترة طويلة يمتص فيها الطوب الحرارة، ويوسّع لصينية من اللحم والثوم وبهارات وأعشاب الجبل خصوصا إكليله،وتغطى بقبة حديدية تشبه صاج الخبز مقلوباً، وفوقه وحوله يضاف الجمر، لساعة ونصف تقريبا ، وأظن أن هذا بعض التطوير أو التحريف لأكلة بلقانية (اليونان ومكدونيا ورومانيا والجبل الأسود ومعظم يوغسلافيا سابقا) شهيرة هي “كليفتيكو” لكن هذه كانت من اقرب ما أكلت من فخارة الخليل. ومن الطريف أني حين طلبت من النادل إعادة الكرّة علينا، رفض صاحب المطعم، معتذراً بأن زبائنه يأتونه بسبب هذه الأكلة وليس من المنطق حرمانهم، يا زمان الأخلاق والقيم ….( كانت تلك أخلاقيات يوغسلافيا في اشتراكية المارشال تيتو)
الثاني كان قريباٍ من سرت في ليبيا، وكنت في صحبة الصديق الشاعر علي الكيلاني ، ناظم تلك الأغنية الثورية المعروفة والتي يعاد تدويرها لإثارة الحميّة الوطنية والقومية وهي “وين الملايين” ،وأرجو أن يكون في السلامة، وقد فتشت عنه ، زنقة زنقة ولم أصل إليه بعد الذي جرى في ليبيا حماها الله وأبعد عن ساحها انحلال صراع الأقاليم وهدى شعبها.
الأكله اسمها”بو رديم” وواضح أنها تطبخ بردم الرمل أو التراب على جرّة مليئة باللحم في حفرة مليئة بالجمر مضافٌ إليها بهارات محلية، وبدون الثوم،أو البصل أو الطماطم ، فالاعتماد الاساسي هو على البهارات المحلية والتي أتمنى الآن أن اعرفها.
.. ليبيا التي تعاني ما تعاني الآن ، كلما رأيتها على نشرات الأخبار أحزن، وأقول لمذا ينجح الاستعمار ومخابراته ، على جعلك تترحم على الماضي الذي كنت ثرت من أجل تغييره؟!
حسرة على العباد!
وهكذا، كلما سمعت اغنية ” وين الملايين” يجيب ذهني: في بو رديم