الأرشيفثقافة وفن

غسان كنفاني: المثقف النقدي الرائد وثاقب الرؤية – المؤلف: د. ماهر الشريف

لن أتوقف في هذا المقال عند سيرة الشهيد غسان كنفاني بصفته قائداً سياسياً بارزاً في المقاومة الفلسطينية، ولا عند كونه أديباً وفناناً متعدد المواهب، وإنما سأتوقف عند المثقف النقدي الرائد وثاقب الرؤية الذي كانه، وذلك عبر إبراز مواقفه من أربع قضايا أصبحت، من بعده، مثار اهتمام العديد من المثقفين الفلسطينيين والعرب.
السبّاق إلى استخدام تعبير “أدب المقاومة” ودراسته
بينما كانت النظرة في العالم العربي إلى الفلسطينيين، الذين بقوا في وطنهم فوق الأراضي التي أقامت عليها الحركة الصهيونية دولتها في أيار/مايو 1948، سلبية ومتوجسة، كان غسان كنفاني سباقاً إلى استخدام تعبير “أدب المقاومة” لوصف نتاجات الأدباء الفلسطينيين في تلك الأراضي، ورائداً في إبراز نتاجاتهم في دراسة مطولة صدرت في كتابين، الأول بعنوان “أدب المقاومة في فلسطين المحتلة 1948-1966” (بيروت: دار الآداب، من دون تاريخ)، والثاني بعنوان: “الأدب الفلسطيني المقاوم تحت الاحتلال 1948-1968” (بيروت: مؤسسة الدراسات الفلسطينية، 1968).
لقد ربط غسان كنفاني ما بين نتاجات الأدباء الفلسطينيين في مناطق 1948 ونتاجات أدباء ما قبل النكبة الفلسطينية، إذ أشار إلى أن عوامل كثيرة ساعدت فلسطين على أن تكون، قبل نكبتها في سنة 1948، “مركزاً ثقافياً عربياً مهماً”، من أبرزها الحركة الدائبة للمثقفين المهاجرين من وإلى فلسطين، وكذلك إنشاء الجمعيات والنوادي الأدبية الذي بدأ منذ مطلع العشرينيات، وهو ما مكّن المثقفين من الاضطلاع بدور “أكبر حجماً من الدور الذي تلعبه هذه الفئة، خصوصاً حين لا تكون حزبية، في أمكنة أخرى تعيش الشروط الكلاسيكية لمعركة التحرر الوطني”. ففضلاً عن الدور البارز الذي اضطلع به الشعر والشعر الشعبي، وقيام عبد الرحيم محمود وعبد الكريم الكرمي وإبراهيم طوقان بـ “إرساء دعائم الشعر الفلسطيني المقاوم”، لعبت الصحف والمقالات الأدبية والقصص وحركة الترجمة مجتمعة “دوراً طليعياً لافتاً للنظر”، وبرز كُتّاب مثل عارف العارف، وخليل السكاكيني، وإسعاف النشاشيبي، وعارف العزوني، ومحمود سيف الدين الإيراني، ونجاتي صدقي، وعبد الله مخلص، ورجا الحوراني، وعبد الله البندك، وخليل البديري، ومحمد عزة دروزة، وعيسى السفري، وغيرهم.
وبحسب غسان كنفاني، فإن المثقفين الفلسطينيين في مناطق 1948 تابعوا مسيرة أسلافهم، وقدموا، في الفترة التي امتدت بين 1948 و 1968، وفي ظل أقسى ظروف القمع، “نموذجاً تاريخياً للثقافة المقاومة، بكل ما فيها من وعي وصمود وصلابة، وأهم من ذلك، بكل ما فيها من استمرار وتصاعد وعمق”. إذ هم خاضوا نضالاً ثقافياً “للدفاع عن لغتهم وثقافتهم وتراثهم”، في مواجهة سياسة “التجهيل المتعمد” التي مارستها السلطات الإسرائيلية. وأدت التحديات اليومية، التي فرضت عليهم، إلى “اختصار فترة من طفولة العمل الفني في الأرض المحتلة صرفتها حركة الأدب العربي المعاصرة في مناقشة طويلة حول مدى التزام الفن، وعما إذا كان الفن الملتزم فناً خلاقاً”، بحيث لم تكن قضية الأدب الملتزم بين الغالبية الساحقة من أدباء فلسطين “موضع جدل، كان الجدل فيها –أمام التحديات اليومية الخطيرة- يشكّل رفاهاً لم يقبله أحد”. فالغالبية الساحقة من أدباء المقاومة مدوا التزامهم “إلى ما هو أبعد من الحدود الفنية، إنهم منتسبون فعلاً إلى الحركة الوطنية بصورة أو بأخرى، ويناضلون من خلال تنظيماتها، ويذوقون في سبيلها نتائج سياسة القمع الإسرائيلية”، علماً بأن سياسة القمع هذه “لم تؤدِ إلى أية نتيجة سلبية”، إذ إن “شاعراً مثل محمود درويش قد جدّد رؤياه وطوّر أداءه بصورة مذهلة خلال وجوده في السجن، وكذلك فعل سميح القاسم”. وهذا بالذات ما جعل أدب المقاومة “أدباً لا ينوح ولا يبكي، لا يستسلم ولا ييأس”،لأن رؤياه “لم تكن ارتجالاً عاطفياً، ولكن وعياً عميقاً مسؤولاً لأبعاد المعركة التي وجد نفسه في صميمها”.
وضمن إطار الالتزام “بقدسية الكلمة والإيمان الذي لا يتزعزع بدورها وقيمتها والتمسك بمسؤولياتها كسلاح أساسي في حركة المقاومة”، مدّ هؤلاء المثقفون التزامهم –كما تابع كنفاني-إلى ما هو أبعد من الالتزام الوطني، بحيث انطوى أدبهم على “بعد اجتماعي تقدمي”، وارتبط “ببعده العربي ارتباطاً عضوياً راسخاً، دون أن يفقد وضوح نظرته الاجتماعية في هذا الارتباط، ومع إدراك عميق لمعناه وضروراته وأصالته”، ذلك إن طبيعة القضية الفلسطينية “تضعها في مركز الوسط من التفاعلات العربية”، وبالتالي اضطلع أدب المقاومة، وخصوصاً في تعبيره الشعري، بدور “الناطق بلسان تلك التفاعلات والمؤرخ لها”، بحيث لم يعد في الإمكان “مرور أي حدث عربي دون أن يؤرخ في ذلك الشعر، بل إن عدوان 1956 على مصر كان نقطة تحول أساسية في تاريخ ذلك الشعر، وكذلك كانت ثورة الجزائر، وثورة اليمن، وبناء السد العالي”.
كما عبّر أدب المقاومة عن التزامه بحركة الثورة في العالم، التي “هي في نهاية المطاف المناخ الذي تنمو داخله الحركة الثورية المحلية، تؤثر به وتتأثر منه”، وهو ما عبّرت عنه قصيدة لمحمود درويش” اسمها: “أناشيد كوبية” وعدة قصائد لسميح القاسم عن باتريس لومومبا، وأفريقيا، وزنوج أميركا، وعن فيدل كاسترو وثوار الفيتكونغ.

“قاتلت الحركة الصهيونية بسلاح الأدب قتالاً لا يوازيه إلا قتالها بالسلاح السياسي”
انطلاقاً من هذا الافتراض، ولكونه مثقفاً أقام صلة جدلية ما بين الثقافة والسياسة، وأدرك التفاعل المتبادل بينهما، تصدى غسان كنفاني لدراسة الأدب الصهيوني في كتاب بعنوان: “في الأدب الصهيوني” (بيروت: منظمة التحرير الفلسطينية-مركز الأبحاث، 1967)، وكان أيضاً من السباقين إلى ذلك. إذ قدّر أن ولادة الصهيونية السياسية كانت “نتيجة لإرهاصات أدبية صهيونية مبكرة ما لبثت أن اندفعت، بعد ولادة الصهيونية السياسية، لتصير جزءاً أساسياً منها”، وأنه إذا كانت الصهيونية السياسية هي “نتاج للتعصب وللعرقية”، فإن الصهيونية الأدبية برزت بصفتها “أولى إرهاصات ذلك التعصب وتلك العرقية”، معتبراً أن فكرة “التفوق والتميّز” التي تبنتها الصهيونية السياسية حالت دائماً دون عملية امتزاج اليهود بالشعوب التي يعيشون بين ظهرانيها، وأن الأدب الصهيوني لعب “دوراً بارزاً في خدمة هذا الغرض” ومنحه “الدعاة العنصريون قيمة أعمق بالإصرار عليه ونشره بصورة دؤوبة”. فالأدب الصهيوني، الذي ضبط خطواته مع السياسة، قفز، كما تابع، “إلى مهمته المباشرة في مطلع القرن العشرين مدفوعاً من قبل حركة سياسية منظمة لم تهيء له التشجيع والحث والحماية فقط، ولكنها أيضاً هيأت له فرصة للرواج لم يشهدها تاريخ العمل الفني الموجّه على الإطلاق”، وقام، بدأب لا مثيل له، “بمهمة مزدوجة: من ناحية المشاركة في تعبئة اليهود عبر العمل على خلق جو عالمي للعطف على قضيتهم، ومن ناحية أخرى طمس كل ما من شأنه عرقلة هذا الاندماج الصهيوني الدعاوي الذي كان يضبط خطواته على جميع الجبهات”.
وتوقف غسان كنفاني، في هذا السياق، عند رواية تيودور هرتزل “الأرض القديمة الجديدة”، التي استبقت، كما قدّر، الصهيونية السياسية، وكانت “حافزاً لقلب هرتزل “الفنان” إلى هرتزل “السياسي””، وخصوصاً بعد اعتراف هذا الأخير بأن هدف روايته “لم يكن فنياً، ولكنه كان هدفاً دعاوياً”. وفي تلك الرواية، صوّر هرتزل أرض فلسطين بالأرض “المضاعة”، التي “كانت تستلقي بانتظار اليهود ليعودوا ويصلحوها ويسكنوها”، وأن اليهود في توجههم نحو فلسطين إنما كانوا ينقلون إليها “المؤسسات المتحضرة التي كانت موجودة في البلاد المتحضرة في أواخر القرن التاسع عشر”. بيد أن بطل “الأرض القديمة الجديدة” لم يكن مجرد “داعية”، بل شرع في العمل، وصار مع مؤلف الرواية “جزءاً من حركة سياسية فعلية ذات بنيان فكري واضح وأهداف مطروحة في ميدان التنفيذ”.
وخلافاً لما تزعمه الصهيونية، أكد غسان كنفاني أن “معادة السامية” ليست ظاهرة “أبدية”، بل هي ظاهرة تاريخية، ونفى أن يكون اضطهاد اليهود “هو السبب الذي دفعهم إلى الشعور بالتميّز، وبالتالي إلى اكتشاف أرض الميعاد اكتشافاً سياسياً أخذ طابع الشعور بالاكتفاء والخلاص واسترداد الكرامة”؛ فالإنتاج الأدبي الصهيوني بلغ ذروته، كما لاحظ، “في الفترات التي تحسنت فيها أحوال اليهود نسبياً، أي في الفترات التي أُعطي اليهود فيها حقوق المواطنة”، كما إن الإنتاج الأدبي اليهودي “الأكثر رقياً –وتطرفاً- قد تحقق في فترات يمكن اعتبارها، بالنسبة لتاريخ التيه اليهودي، فترات انفراج”.
الرائد في دراسة ثورة 1936-1939 وتحليل أسباب هزيمتها
بينما استقطبت دراسة ثورة فلسطين الكبرى ما بين 1936 و1939 باهتمام متزايد من جانب المؤرخين الفلسطينيين والأجانب في السنوات الأخيرة، وخلُص بعضهم إلى أن هزيمتها مهدّ طريق وقوع النكبة الفلسطينية في سنة 1948، كان غسان كنفاني قد تصدى لدراسة تلك الثورة وتحليل أسباب هزيمتها منذ مطلع سبعينيات القرن العشرين.
ففي دراسة مطولة بعنوان: “ثورة 36-1939 في فلسطين: خلفيات وتفاصيل وتحليل” ( “شؤون فلسطينية”، العدد 6، كانون الثاني 1972، ص 45-77)، قدّر غسان كنفاني أن أحد الأسباب الرئيسة لهزيمة تلك الثورة تمثّل في طبيعة قياداتها التي وصفها بـ “شبه الإقطاعية-شبه الدينية”، معتبراً أن نجاح تلك القيادات في فرض هيمنتها على الحركة الوطنية الفلسطينية قبل النكبة يعود إلى سببين متداخلين: “وجود وفاعلية الحركة الصهيونية التي ضاعفت من ثقل وهيمنة التحدي القومي على جميع أشكال التحديات الأخرى، وعكس هذا التحدي نفسه على الطبقات الكادحة العربية التي كانت تعاني من الغزو الصهيوني المدعوم من الإمبريالية البريطانية معاناة يومية مباشرة”، من جهة، و “وجود حد من التناقض بين القيادات العائلية الإقطاعية الدينية العربية وبين الإمبريالية البريطانية، جعل دفع الثورة إلى مدى معيّن من مصلحة هذه الطبقات التي تجد عادة مصلحتها، في ظروف مغايرة مختلفة عن الاستثناء الفلسطيني الخاص، بالتحالف شبه الكامل مع الإمبريالية”، من جهة ثانية. وجراء هذين السببين، تمتع نضال شعب فلسطين بخصوصية “لم تكن في ذلك الحين تشبه تلك الخصائص التي كانت لنضالات الشعوب العربية المحيطة بفلسطين”. ولاحظ غسان كنفاني أن القيادات “الإقطاعية-الإكليركية” التي تربعت على رأس حركة الجماهير، وأحبطت النضال الوطني الفلسطيني، استفادت كذلك “من ضمور البرجوازية العربية المدينية، ومن الحد المعيّن من التناقض الذي كان يحتدم بينها وبين الإمبريالية البريطانية التي كانت ترسي نفوذها عبر حلفها مع الحركة الصهيونية، ومن صفاتها الدينية، ومن صغر حجم البروليتاريا العربية وضمور حزبها الشيوعي”.

ومن ناحية أخرى، وإذا كان الفلاح العربي قد عانى-كما تابع كنفاني- من فوائد الديون التي كان يقدمها “الأفندية” له، فإن هذا شكّل بالنسبة للفلاح “شراً أقل فتكاً من شر الصهيونية؛ فاستغلال الأفندية، الطبقة التي نمت حول الأرستقراطية الإقطاعية وكسبت حمايتها منذ الحكم العثماني، لم يكن يصل إلى حد الاقتلاع، وكانت المؤسسات التي نمت منذ عهود سحيقة حول هذه العلاقات (الحمولة، العائلة، العشيرة، الطائفة..إلخ) تجعل ذلك التناقض الفادح يبدو أقل خطراً قياساً على الخطر المباشر الذي كانت تمثله الصهيونية”. وفي واقع كهذا، “لم يكن من الممكن تغييب أولوية السمة القومية للنضال الفلسطيني”، كما لم يكن من الممكن، “أمام الحمى الدينية المهولة التي ارتكز عليها الغزو الصهيوني لفلسطين”، ألا “يتمترس الريف الفلسطيني المتخلف وراء التعصب الديني، كمظهر من مظاهر معاداة الغزو الإمبريالي والصهيوني”.
من أوائل محللي مسألة التطبيع الثقافي
على الرغم من أن مسألة التطبيع الثقافي لم تُطرح على جدول أعمال المثقفين العرب سوى بعد التوصل إلى “اتفاقيتًي كمب ديفيد” ما بين مصر و”إسرائيل” في أيلول/سبتمبر 1978، فإن غسان كنفاني كان من أوائل المثقفين الفلسطينيين والعرب النقديين الذين حللوا هذه المسألة، وذلك في مقال له بعنوان: “حول قضية أبو حميدو وقضايا التعامل الإعلامي والثقافي مع العدو” (“شؤون فلسطينية”، العدد 12، آب 1972، ص 8-18).
ففي ذلك المقال، حلّل غسان كنفاني مسألة “حدود وضوابط العلاقات الإعلامية والثقافية عموماً مع العدو(الإسرائيلي)”، متوقفاً عند ثلاثة أحداث تمثّلت في مشاركة طالبين فلسطينيين في برنامج تلفزيوني بريطاني من قبرص، قاما أثناءه بمناقشة مباشرة مع طالبين “إسرائيليين” حول قضية فلسطين، وفي تغاضي أستاذ أميركي يدعى فنلي في كلية بيروت للبنات عن وجود مقطع في كتاب دراسي مقرر يبرر السيطرة الصهيونية على فلسطين، وفي وجود مرجع طبي “إسرائيلي” في مكتبة الجامعة الأميركية في بيروت.
فبخصوص تحاور فلسطينيين مع “إسرائيليين” حول قضية فلسطين، أشار غسان كنفاني إلى أن الموقف العام الذي تعتنقه الغالبية الساحقة من العرب الذين يطلب منهم “التحاور” الإعلامي مع (إسرائيلي) هو الرفض، مقدراً أنه “من الصعب للغاية-أو بالأحرى مستحيل- الزعم أنه بالإمكان صياغة وصفة، أو قرار، ينطبق على كل الحالات، ومن الضروري اتباعه في كل زمان وفي كل مكان وعلى جميع المستويات”، ومقترحاً، كي لا تبقى الأمور “سائبة”، العمل على “إيجاد جهة مخوّلة بتقدير الموقف في كل حالة من هذه الحالات، وإصدار القرار الذي تراه مناسباً”، وهذه الجهة ممكن أن تكون، كما أضاف، “قيادة الإعلام الموحد في منظمة التحرير”.
بعد هذا التقديم للمسألة، أشار غسان كنفاني إلى أن إطار برنامج التلفزيون البريطاني، الذي قُدمت فيه المجادلة بين الطالبين الفلسطينيين والطالبين (الإسرائيليين(، كان “إطاراً يحمل على تأييد (إسرائيل)”، مؤكداً أن السبب الذي يحمله على الدعوة إلى “رفض هذا النوع من الترف” لم يكن “الخوف من نتيجة المبارزة الكلامية، أو الخشية من صلابة الفهلويات “الإسرائيلية” القابلة للكسر بسهولة”، وإنما كون الفلسطينيين “في حالة حرب مع هذا العدو”، ومقاطعتهم له “ليست نابعة من موقف وجداني، ولكنها نابعة من طبيعة المواجهة التي نعيشها ضده، وهذه المقاطعة هي في حد ذاتها وجهة نظر، وموقف[و] شكل من أشكال الصدام”، وخصوصاً أن “أجهزة الإعلام البرجوازية تستخدم مثل تلك المبارزات للإمعان في لعبتها التي تحقق لها في نهاية التحليل سطوة أشد على عقول جمهورها”. ومع ذلك، فإن هذا الشكل الإعلامي، أي “الحوار الكلامي مع العدو”، هو شكل واحد فقط –كما تابع- من بين عدد كبير من الأشكال الإعلامية التي يمكن لنا أن نستخدمها في الغرب، “شرط أن يظل هذا الاستخدام مشدوداً إلى الحقيقة الجوهرية التالية: إن تغيّر ميزان القوى الإعلامي في الغرب لا يحدث إلا في ميدان القتال”، إذ إن أي شبكة تلفزيونية “ليست مستعدة لإعطاء أي فلسطيني، في حال سكون الثورة، دقيقة واحدة ليعبّر فيها عن رأيه”، وشرط أن يستند النشاط الفلسطيني الإعلامي في الغرب إلى الأصدقاء، إلى “الحركة الثورية في البورجوازيات الغربية، ولا يمكن ان يتكوّن رأي عام عالمي يقف إلى جانبنا دون جهد هذه القوى اليسارية، وتبنيها للقضية”.

وبخصوص تغاضي الأستاذ “فنلي” عن وجود مقطع في كتاب دراسي مقرر “يبرر الاغتصاب الصهيوني”، رأى غسان كنفاني أن الأستاذ المذكور “قد ظُلم في هذه الحملة، إذ قيل منذ فترة طويلة إنه صديق للعرب، وإن المقطع “الصهيوني” الذي “ورد في كتاب قد اختاره كمقرر لصف من صفوف كلية بيروت للبنات، لم يكن مقصوداً”، مقدراً أن المسألة قد تكون “مفتعلة”، ليس لأن الأستاذ الأميركي المذكور “صديق للعرب أو ليس صديقاً لهم، ولكن لأن المقطع الذي أثار كل تلك الضجة هو مقطع سخيف، وأن تدريسه يجري في صفوف عليا”. وأضاف كنفاني أنه لا يرى سبباً “يمنع الصفوف العليا من الاطلاع على تفكير العدو”، بل لا يرى سبباً “يمنع من أن يكون هذا الاطلاع إجبارياً”، وتساءل: “هل كان البروفسور فنلي “يهرّب” مادة ممنوعة إلى عقول عزلاء؟ إنني لا أعتقد ذلك، ولم أقتنع بحجج الذين حاولوا الإيحاء بذلك. والشيء نفسه-تقريباً- يقال عن المرجع الطبي الموجود في مكتبة الجامعة الأميركية..لماذا نخاف من مثل هذه الأمور؟ وهل من المفترض أن نلغي حقنا (وواجبنا) في الاطلاع على الإنجازات الفكرية والعلمية لأفراد العدو، والاستفادة منها أيضاً؟”. وخلُص غسان كنفاني إلى أن ما يكمن وراء تساؤلاته هذه هو قناعته بأن مناهج التربية والتعليم في بلادنا “ليست في مستوى القدرة على معالجة هذا الموضوع جذرياً، ولو توفرت عندنا القناعة بأن التنشئة الوطنية في مدارسنا مبنية على أسس علمية وراسخة وصحية وعصرية، لما كان المقطع الساذج في برنامج “فنلي” يخيفنا، ولما كانت رؤيتنا لمرجع طبي من إنتاج عالم “إسرائيلي” في مكتبة الجامعة تهز ثقتنا بقدرة طلابنا الجامعيين على معرفة الفارق بين هذا المرجع، وبين استمرار معركة التحرر الوطني ضد العدو (الإسرائيلي)”.
لقد استشهد غسان كنفاني وهو في سن السادسة والثلاثين من عمره، بعد أن خلف وراءه ثلاث مجموعات قصصية، وأربع روايات، وثلاث مسرحيات، وثلاث دراسات تحليلية وعدداً من اللوحات الفنية؛ وأنا في ختام هذا المقال أتساءل كم كان هذا المثقف النقدي سيثري حقل الثقافة الفلسطينية لو كتُب له أن يعيش فترة أطول؟

غسان كنفاني: المثقف النقدي الرائد وثاقب الرؤية
التاريخ:
04/07/2022
المؤلف: د. ماهر الشريف
ملف خاص:
خمسون عاماً على استشهاد غسان كنفاني