الجاليات والشتات

فلسطين عندي هي المُخيم – نجوى ضاهر

– ما هو الوطن يا ناجي؟ 
– فلسطين عندي هي المُخيم

إجابة مختزلة عبّر فيها الشهيد ناجي العلي عن المعنى العميق للوطن، حين يصبح رديفًا للمخيم ما دام تحت سوط الاحتلال وحين يجب أن يكون المخيم بوابة العودة، معيدًا صياغة ما يسمى بعاطفة المقاومة ودلالات التهجير قسرًا في سياق الوعي الصحيح، خوفًا من تعميم اللجوء كحالة، وبعيدًا عن نوستالجيا الحنين ومراثي البكائيات والمشاهد الدرامية التي رافقت رحلة التغريبة، حين سار الفلسطيني في دربه المجهول مرغمًا على النزوح متشبثًا بمفتاح عودته القريبة. 

هكذا كانت ملامح علاقة الشهيد بالمخيم، حيث لم يرَه يومًا شكلًا من أشكال الحزن والغربة والعزاء بالخيام وأكياس الخيش وبطاقات المؤن، وبيوت الصفيح وسقوف الزينكو التي تعتلي بيوته المتلاصقة في زواريبه الضيقة، التي ترشح جدرانها بماء المزاريب، التي لا تجلب إلّا المرض لأطفال ولدوا ليعيشوا تفاصيل الفرح كما غيرهم من الأطفال بعيدًا عن العبث الطفولي العفوي بوحل المخيم، مكان لهوهم الوحيد وقتها. وقد جسّد الشهيد ناجي العلي رؤيته للمخيم في كل تفاصيلها في أغلب رسوماته، وفي وثيقة الحوار مع الشهيد غسان كنفاني قائلًا ترافقًا مع حركة جسده النحيل الذي لا يهدأ “ما بيرجّع فلسطين غير هالحجر”، ملتقطًا إياه من أرض الخيمة المهترئة حيث كان يقيم معرضه، مؤكدًا “وما بيطلع هالحجر إلا من هالخيمة لا من قصور وعلالي وسلامة تسلمك”.. 

فالشهيد ناجي لم يبكِ يومًا على أطلال المخيم، ولم يتقمص معاناة ناسه كما يفعل مناضلو الترانزيت الذين قال عنهم الشهيد أنهم رغم مرورهم العابر يُصرون على المطالبة بأن يكونوا نجومًا أبدية، أو كما يكتب شعراء الحداثة الحالمين عن المخيم وأصل حكاياته بأسلوبهم الرومانسي البعيد عن قساوة الحياة في المخيم. فناجي العلي يختلف عن كل هؤلاء رؤية وممارسة، لأنه ببساطة من نسيج المخيم وطينة أهله، حيث بقيت جذور الانتماء لمن هم تحت رغم ترحاله في كل الأوطان. فهو لم ينسلخ يومًا عن وطنه الذي بنظره في المنفى المخيم الذي يعيش فيه الفقراء في الأزقة وعلى الأرصفة رهائن انتظار مستقبل مجهول، وكما قال بقي دومًا حنظلة الضمير المُنبه الواعي في كادر الرسم الكاريكاتيري بشكل يقظ حتى لو بصمت، “حضوره طاغٍ ورادع لي في كل المنافي في وجه كل الإغراءات كأنه يطالبني كل يوم بكشف حساب عن ثباتي، فحنظلة وفيّ لفلسطين، وهو لن يسمح لي أن أكون غير ذلك، إنه نقطة عرق على جبيني تلسعني إذا ما جال في خاطري للحظة أن أجبن وأتراجع خلال عملي في دول مترفة، إنه بمثابة أيقونة روحي من السقوط كلما شعرت بشيء من التكاسل، إنه كالبوصلة بالنسبة لي وهذه البوصلة تشير دومًا إلى فلسطين”.

ويكفي دلالة لعمق الإنتماء للمخيم وأهله إجابة الشهيد الحاسمة لمن سأله يومًا “لم لا ترتدي يومًا بدلة رسمية يا ناجي”، قائلًا: “نعم بدك ياني ألبس بدلة متل أبو باصم وأخنق حالي، أنا إبن مخيم يا زلمة”. هذا هو ناجي الذي لا يقبل المساومة على مبادئه والذي رفض كل العروض والإغراءات مقابل المشي عوجًا والصمت والتوقف عن تعرية الخيانة من المتكرشين والأنظمة العربية، في خطوطه الحادة التي تعمد حبرها بأطهر الدماء، ناجي الذي انتمى منذ البداية إلى جماعة سبارتاكوس وحمل صخرة سيزيف ولم ينحنِ يومًا، ورغم تقوّس ظهره صعد إلى أعلى مراتب السماء مطلقًا صرخة الحياة والرحيل اللائق “ممّ تخافون؟”.

لكن تبقى صفعة الحزن والإحساس بالظلم والقتامة والانكسار رغم كثافة إنتماء الشهيد للمخيم والمقهورين بعد استشهاد ناجي العلي في التاسع والعشرين من آب لعام 1987، حين تجمع عشاق ناجي وولده حنظلة أيقونة المخيم ووضعوا تمثال الشهيد ناجي العلي الذي نحته شربل فارس، لكن خذلتهم الأيادي السوداء الحاقدة على الحقيقة الناطقة حتى بعد محاولة اغتيال صوتها، حيث أطلق معروفون النار على التمثال وأُنزل وسُحل من موقعه لا من قلوب المنتمين لفكر وموقف الشهيد الذين حاولوا إعادة التمثال مجددًا لكنه ما لبث أن اختفى نهائيًا. 

ولأنّ الفكرة لا تموت، تبقى دومًا نافذة الأمل مُشرعة على الأجيال الجديدة التي لم تشهد زمن ناجي العلي لتكمل المسيرة. فمن مشهدية تحطيم تمثال ناجي العلي تبدأ حكاية رنا بشارة، الفنانة الحاصلة على ماجستير في الفنون التشكيلية، إبنة بلدة ترشيحا في الأراضي المُحتلة عام 1948، التي استهلت حديثها خلال الحوار معها بالقول إنّ ناجي بالنسبة لها هو “نبي الفقراء ورسول المقهورين ومؤذن الثورة وكاتب الميثاق الحقيقي لمعنى المقاومة بأسلوب بسيط، كان دومًا همه إيصال رسالته إلى الإنسان العادي الأمّي الذي لا يعرف القراءة والكتابة أولًا”، مستشهدةً بعبارته الخالدة “الصورة عندي هي عناصر الكادحين والمقهورين والمطحونين”، لأنهم هم الذين يدفعون كل شيء ثمنًا لحياتهم، غلاء الأسعار، الذود عن الوطن تحمل أخطاء ذوي السلطة، كل شيء لديهم صعب الحصول عليه، كل شيء قاسٍ يحاصرهم ويقهرهم لكنهم يناضلون من أجل حياتهم ويموتون في ريعان الشباب، في قبور بلا أكفان، هم دائمًا في موقع دفاع مستمر لكي تستمر بهم الحياة.

نجوى ضاهر – بيروت برس –