الأرشيفعربي وعالمي

في كتابه: 13 أيلول أنيس صايغ: المُفكّر الذي رأى – رشاد أبوشاور

كان الكلام بالنسبة إلّي(وربما لقليلين غيري) قبل ذلك اليوم إضاعة للجهد والوقت والطاقة، وكان الصمت جرأة . أمّا بعد الثالث عشر فقد أصبح الكلام واجبا وأصبح الصمت هروبا، وأكاد أقول جبنا. (من مقدمة كتاب 13 أيلول) للدكتور المفكرا

الباحث أنيس صايغ.

والدكتور أنيس صايغ هو مدير مركز الأبحاث الفلسطيني الذي تعرّض لأربع محاولات اغتيال، وقد أدت المرّة الرابعة لفقدانه السمع إلى حد بعيد، وبعض النظر، وتشوّه أصابعه ووجهه، عقابا على السير بمركز الأبحاث الفلسطيني إلى امتلاك قدرات بحثية علميّة كبيرة في دراسة الفكر الصهيوني، وطبيعة علاقة وارتكاز المشروع الصهيوني غربيّا بريطانيا بداية ثم احتضانه أمريكيا، وتحويله إلى دولة زُرّعت في قلب الوطن العربي الكبير، وبذا تكرّس المشروع الصهيوني الغربي قاعدة متقدمة وظيفتها تثبيت تخلّف الأمة العربيّة، وحرمانها من النهوض والوحدة العربية، والتحكّم بثرواتها وموقعها الجغرافي الاستراتيجي في قلب العالم.

في حُقبة رئاسته للمركز، والتي ابتدأت مع بناء منظمة التحرير الفلسطينيّة برئاسة الأستاذ أحمد الشقيري، عمل الدكتور أنيس على احتضان عدد من الشباب الذين رآهم نابهين، فرعاهم وعني بتوجيههم ليكونوا باحثين يضيفون للمسيرة البحثية الفلسطينية على أسس علمية معرفيّة منتميّة، وقد نجح إلى حد بعيد رغم التدخلات السلبية في شؤون المركز بعد استقالة الأستاذ الشقيري الذي كان يثق بالدكتور أنيس صايغ، ويدعم ويرعى المركز ويحيطه باهتمامه.

يكتب الدكتور أنيس في مقدمة كتابه موضحا أسباب عودته للكتابة بعد سنوات الصمت والعزلة، عندما أُبرم اتفاق أوسلو في حدائق البيت الأبيض بتاريخ 13/أيلول/1993: فجأة عاد القلم إلى أصابعي بحركة عفوية وبدون سابق تعمد وتصميم، بعد سنوات الهجر والاعتكاف والاستمتاع بالجهل والأميّة، وأصبحت الكتابة هي الأمر الطبيعي، والسكوت هو الأمر الشاذ. (ص9)

يسأل المفكّر الدكتور أنيس صايغ: فلماذا نكتب لمن لا يقرأ ، وإذا قرأ لايفهم، وإذا فهم لا يتجاوب؟

يجيب على هذا السؤال، لنفسه ولغيره:..فعندما تتحوّل قيادات سياسية إلى سماسرة على الأرض والشعب والتراث والقضيّة، يتحمل الكاتب صاحب الضمير مسؤولية رسولية لا يكون نفسه إذا تخلّى عنها. (ص10)

يمّر الدكتور صايغ على نكبتي ال48 و 67 واللتين رغم هولهما لم تدمرا الشعب الفلسطيني، ويرى هول خطورة 13 أيلول: ..أمّا 1993 فقد اصطادت الثقة بالذات، وهزمت الآمال، وخططت لتدمير أي مسعى مستقبلي لاستئناف المسيرة لمواصلة النضال. وأطفأت الهزيمة الجديدة أنوارا ظلّت مشعة بالرغم من الهزائم السابقة.

في عتمة هذا الجو أعود للكتابة.

كتاب 13 أيلول الصادر في عام 1994 بطبعته الأولى عن مكتبة بيسان بيروت، يضّم مقالات، ومقابلات، ومداخلات كتبها الدكتور صايغ، ونشرتها سبع من الصحف اللبنانية والسوريّة حول موضوع (الاتفاق الفلسطيني- الإسرائيلي)، وما تفرّع عنه من موضوعات: خلفياته، أخطاره، مجابهته، مع تركيز على دور المثقفين العرب، سابقا ومستقبلاً، وذلك على مدى شهور من أواخر العام 1993 وأوائل العام 1994.

ولأنه مفكّر مؤمن بعروبة فلسطين، وبعروبة الصراع مع الكيان الصهيوني، ورغم جو الإحباط والسواد فإنه لا ييأس، وهو يكتب حّاضا على التشبث بالمقاومة، والثبات على ما تركه لنا المخلصون الذين قاوموا رغم قسوة ظروفهم: لا يجوز أن تلتقط ذاكرة أبنائنا وأحفادنا هذه الموجة الكاسحة من أدبيات الانهزام ومقولات الانهزام ومقولات الاستسلام ولا تأخذ في الاعتبار وقوف جماعة من المثقفين، مهما كانوا أقليّة، في وجه الموجة يحاولون إفشال عمليات غسل الدماغ وفضحها ودحضها.(ص11)

يضع الدكتور صايغ المثقف العربي، والفلسطيني في المقدمة، أمام واجبه ودوره، وكانت مواقف نفر من المثقفين الفلسطينيين ، والباحثين الذين درّبهم وخرّجهم باحثين مرموقين قد باعوا خبراتهم ومعرفتهم وتخلّوا عن (دورهم) وواجبهم، فتألم لما آلت إليه مسيرتهم…

يضّم كتاب (13 أيلول) 11 مقالة ومقابلة وحديث، وإذ نعود لتأمّل ما طرحه الدكتور صايغ، وما حذّر منه، الآن في العام 2023 فإننا نقف أمام الخسائر التي لحقت بالقضية الفلسطينيّة والشعب العربي الفلسطيني، و..الأمة العربيّة بأسرها!

لم يكتب الدكتور أنيس صايغ كلاما إنشائيا حماسيا، ولكنه قدّم برنامج مواجهة لما جاء به أوسلو، ليس للحّد من مخاطره، ولكن لتجاوزه والعودة بالقضية إلى ملايين العرب بعيدا عن تخريب الأنظمة الإقليمية، ونشر الوعي بخطورة الدور الأمريكي البريطاني الغربي، وعدم الثقة بمن أيدوا اتفاقات أوسلو ورعاته في البيت الأبيض والذي تجلّى يوم 13 أيلول 1993 في حدائق البيت الأبيض.

ولأن المقالات والمقابلات والمشاركات التي قدمها الدكتور أنيس الصايغ لا يمكن تلخيصها بكّل ما حوته، فإنني سأضع بعض المقتطفات منها أمام القارئ الفلسطيني والعربي ليرى حجم التضليل لأوسلو ورعاته ومن روّجوا له، وليهتدي بالفكر الثاقب النيّر الذي ثبتت رؤيته، وكان التحذير المُبكّر من خطره ينّم عن عمق وبعد نظر المُفكّر الوطني الفلسطيني والقومي العربي الكبير أنيس صايغ.

جاء في مقابلة أجرتها جريدة السفير بتاريخ 16أيلول 93 أي بعد ثلاثة أيّام على التوقيع في واشنطن: سألتني المرأة التي تعمل عندنا في المنزل، وقد هالها ما سمعت عن تفسير مشروع (غزّة- أريحا)، وهي بالمناسبة شبه أميّة ولا تعرف أين تقع فلسطين: أمن أجل ذلك الهدف ضحيّت يا دكتور بسمعك وبصرك وقلبك وصحتك منذ عشرين سنة؟ قلت لها، ولا أحسب أنها فهمت كلامي: لا، إذا كان ما قدمته، أو فعلته تضحية بالفعل فهو من أجل أن تتوقف اليوم المؤامرة الراهنة. إذا كُنّا ضحينا وناضلنا حقيقة فلكي ينتبه الشعب عندما تدعو الحاجة (وقد دعت الحاجة الآن) إلى جوهر المسالة، فلا ينخدع بما يحاولون خداعه به ولا يركض وراء سراب فيقع في الهاوية. (ص 19)

تسأله جريدة السفير: الثالث عشر من أيلول، يوم توقيع الاتفاقية بين منظمة التحرير الفلسطينية و(دولة إسرائيل) الأُولى من نوعها منذ احتلال فلسطين، ماذا يعني هذا اليوم لك؟

يجيب المفكّر الكبير المقاوم الثابت الرؤية في الصراع مع المشروع الصهيوني: إنه التاريخ الأنسب لاتفاق مثل هذا. لا أعتقد أن هناك تاريخا (رقما) أصح وأدق من هذا التاريخ (الرقم). اتفاق الشؤم يوقّع في تاريخ الشؤم. إنك لا تجد في الفندق طبقة بالرقم 13، ولا تجد في الطائرة كرسيا بالرقم 13، ولعلنا ننزع من روزنامة تاريخ النضال الفلسطيني – العربي يوما ما هذه الوريقة فتزول هي وأصحابها وموقعوها، ولا يبقى في الذاكرة الوطنية إلا نقطة سوداء صغيرة توحي بالعبر الكبيرة. (ص19)

يوضّح المفكّر الكبير رؤيته: وبكلام آخر مارسنا التطبيع، وشجعناه، وفلسفناه، وعقّلناه، حتى قبل أن تنتهي الحرب. والتطبيع كما نعرف كارثة يفوق خطرها كارثة إنهاء الحرب والاعتراف المتبادل ومقايضة الأرض بالسلام، فالتطبيع إعصار يدوم ويتسع، ووباء لا ينحصر في مكان ولا في وزمان، يلّف الثقافة والحضارة والمنافع الاقتصادية، والخيرات الطبيعية، ومعنويات الناس وأخلاقهم ومُثلهم وطموحاتهم.وهو سلاح بيّد( إسرائيل) أقوى من سلاح الحرب الساخنة، إنه يحقق لها مكاسب أوسع بنفقات وخسائر ومخاطر اقّل.(21)

يُحذّر المُفكّر الرائي من نتائج التوقيع في حدائق البيت الأبيض بتاريخ 13أيلول: وإذا كانت حرب 1948 أكلت نصف فلسطين، وحرب 1967 وما تلاها أكلت باقي فلسطين وبعض سورية ولبنان، فإن التطبيع سيأكل الأخضر واليابس في مراعي الوطن العربي وصحاريه، فوق ترابه وتحته، من أقصى محيطه إلى أقصى خليجه، والأيام بيننا .( ص 22)

ألا تتحقق نبوءة المفكّر أنيس صايغ الرهيبة؟ انظروا إلى تسابق التطبيع والمطبعين، وعلى تنازلات الأنظمة والحكّام، وما يفعله المتسلطون ضد المقاومين! وانظروا لتهافت المثقفين الفلسطينيين والعرب، وأستاذنا أنيس صايغ أُصيب بخيبة أمل من المثقفين الذين رعا بعضهم وعلّمهم علمية البحث وصون المبادىء، فإذا بهم يهرولون وراء أوهام أُوسلو ومن وقعوا عليه في غفلة من الشعب الفلسطيني وجماهير الأمة الأمة العربيّة.

وعلينا أن نسأل: هل استفاد الكتاب والمثقفون والمفكرون والقادة من رؤية المفكّر الرائي الدكتور انيس صايغ، فرفعوا أصواتهم؟!

والمفكّر الكبير رأى مبكرا وأجاب مبكّرا، وهو ليس بصّارا ولكنه مفكر وباحث علمي وقومي عربي مؤمن بوحدة ونهوض أمته رُغم سوء الأحوال العربيّة.ا

أنا لا أتساءل إذا ما كان القادة الفلسطينيون في حركات المقاومة قد تنبهوا مبكّرا، أو متأخرين نسبيا، أو بعد فوات الأوان، فهناك من يراهنون على إنصاف ونزاهة أمريكا، وأحسب أنهم ما زالوا يراوحون، ويراقبون، ويتمنون وهم عاجزون!.

ولأنه مؤمن بالتربية الوطنية والقومية، فهو يكتب عن السلطات العربيّة الرسميّة وعدم قدرتها على تشويه وتخريب ثقافة الأمة في البيت وفي الأسرة: ..لكنها، أي السلطات العربيّة، لا تستطيع أن تمنعك أن تعظ ابنك ليل نهار أن (إسرائيل) عدو لا حقّ له في الوجود على أرضك. (ص23)

الثقافة الشعبية التي تُزرع في نفوس وعقول الأطفال منذ مطالع أعمارهم، والتي تحدد من هو العدو ومن هو الصديق، وأن فلسطين قلب الوطن العربي الكبير، تستطيع أن تنتصر على (ثقافة) الاستسلام والتبعية والعمالة ومسخ الوعي.

ولكن ما تنشره السلطة الفلسطينية من ثقافة سياسية تصفها ب(سلام الشجعان)، ورغم 30سنة من الركض وراء الأوهام، والخسارات اليومية فإنها تطارد المقاومين المؤمنين بأنه لا مجال لاستعادة حقنا في فلسطين بدون المقاومة!.

ولأن المفكّر الدكتور أنيس صايغ حضّ على دور المثقف الفلسطيني بخاصة، والعربي بعامة، وصدم بالتقاعس والسير على خطى السياسي الذي لا يأبه برأي المثقفين الذين راهن عليهم، وتبناهم في فترة، وأعدهم ليكونوا أصحاب كفاءات ومواقف جذرية..فوجيء بهرولتهم وراء أوهام وارتجالات السياسي، فكتب: أي قوّة أو ظرف حوّل الرائد الموجه المُرشد إلى تابع ذليل أو عميل ماجر. هل هو التعب من النضال وقد طال؟ أو هي الحاجة المادية وصعوبة العيش اليومي، أو ضيق النفس وقصر النظر؟ أو هو صدق المثقفين وخداعهم لنا في الماضي حين أوهمونا أنهم مثقفون ملتزمون ولم يكونوا كذلك؟ (ص 55)

يكتب المفكّر الدكتور أنيس صايغ في مقالته (أسباب الهزيمة تكمن في نوعية الذين انهزموا وفي عقليتهم: ولقد عرفت الثقافة الفلسطينيّة المثقف المسؤول، وأعطت نماذجها العالية، إلى أن دخل العمل الوطني في نفق بيروقراطية تحتقر العقل لأنها تحتقر الإنسان، فترى في الشهيد ملصقا، وفي المثقف حاجبا يبرر ولا يسأل، ويُغدق عليه ارتزاقه طري العيش، بعد أن يفقد كرامته ومعنى الثقافة. ( ص61)

يكتب المفكر الدكتور أنيس برؤيته القومية مختتما مقالته( المشروع الصهيوني الجديد اكثر من إسرائيل الكبرى وأوسع من أحلام هيرتزل): ولا يقتل المشروع الصهيوني إلاّ مشروع قومي في جديّة المشروع الصهيوني، وفي قوته، وفي علميته، وفي مهارته وقدراته. عقل بعقل، وساعد بساعد، ومال بمال، وجرأة بجرأة، وإيمان بإيمان، وعلم بعلم، وجامعة بتربية بجامعة وتربية، ووحدة بوحدة، وحريّة بحريّة، وواجب بواجب، ونظام بنظام، وجيش بجيش، نعم: لن يقهر المشروع (الإسرائيلي) إلاّ مشروع قومي (ص99)

ترك المفكّر والباحث الكبير الدكتور أنيس صايغ كتابه الأخير بما ضمّه من مقالات ،ومقابلات، ومشاركات، ليكون دليل عمل، ونهج عمل، وبرنامج حياة لكل مثقف عربي، وفلسطيني بخاصة، ولكل مقاوم عربي وفلسطيني.

وها نحن نقف أمام التاريخ الشؤم 13 أيلول عام 1993 و 13 أيلول 2013 والمسيرة خسارة فادحة وفاضحة لأنها سير وراء السراب والخداع الأمريكي – الصهيوني المتغطي بالتخاذل (العربي الرسمي).

يضع المفكر الكبير التقدمي القومي المقاوم فكرا وثقافة أنيس صايغ ورؤية ودورا لا يمكن اختصاره أو اختزاله للمثقف الفلسطيني بخاصة والعربي بعامة، وهذا الدور مُكلف ومخسّر على الصعيد الشخصي ولكنه مربح وطنيا وأخلاقيا وفكريّا.

قراءة ما يضمه الكتاب يُعمّق وعي من ساروا على طريق ثقافة المقاومة، ووعيها، وخيارها الذي لا خيار غيره، لأنه وحده خيار تحرير فلسطين، والنهوض بوحدة الأمة وإزالة الكيان الصهيوني من طريقها.