الأرشيفثقافة وفن

قصص قصيرة جداً – رشاد أبوشاور

قصص قصيرة جدا 

 رشاد أبوشاور

-1-

لست في صفحة الوفيات

في ترويسة الصفحة: كل نفس ذائقة الموت.

وهذه الترويسة ثابتة كما الموت ثابت ولا مهرب منه.. وليرحمنا الله.

استللت عددا من الصحيفة المشهورة بأنها الأكثر اهتماما وشهرة بنشر الوفيات، وأسماء الراحلين، والتعازي، سواء لشخصيات مشهورة، أو نكرات لا يسمع بهم سوى أقاربهم وجيرانهم، وربما زملاؤهم في الشغل..إن كانوا يشتغلون في دوائر رسمية، أو شركات..أو زبالين دورهم تنظيف بعض الزبالة التي تتراكم أمام البيوت، وعلى الأرصفة.

قلّبت الصفحات، وهي تأخذ قرابة ربع صفحات العدد اليومي البالغة 48 صفحة، ومررت نظري على الأسماء، فلفت انتباهي أنه لا يوجد اسم يبدأ بأول حرف من اسمي.

تنفست الصعداء – كما يقولون – وشعرت بشئ من السرور.. فاسمي ليس من بين أسماء الراحلين.

ألا يستحق هذا الأمر أن أشعر بشئ من الفرح؟!

منذ سنوات، بعد ما بلغت الستين وأحلت للتقاعد من عملي في شركة تصنع صناديق الكرتون، وأكياس الزبالة، وأشياء تطلبها الحكومة وتوصي بالسرعة في تجهيزها، وأنا أتبع هذه العادة: تقليب صفحات جريدة الوفيات – ليس هذا اسمها ولكن القراء تواطأوا على منحها هذا الإسم لأنها باتت الأكثر شهرة بنشرها للوفيات، وبالأجرة طبعا..وليس عن أرواح أموات أصحاب الجريدة – كل صباح، بعد أن بت متقاعدا، وتوطدت صداقتي مع صديقي بائع الجرائد اليومية المحليّة، وغيرها من الصحف والمجلات العربية التي تأتينا من مصر ولبنان بخاصة، وأحيانا من لندن حيث الصحف ( المهاجرة)!

بعد اطمئناني على أنني لم أمت بعد، وتصفحي  للصحف العربية المشهورة، وبخاصة الأهرام المصرية، وتأملي لأسماء الموتى المنعيين على صفحاتها، أحمل نفسي بتثاقل وأتجه لموقف الحافلات مبتهلا لله العلي القدير أن يكون الزحام قليلا بحيث أتمكن من الاندساس في أحد المكروات.

عندما أدفع بوابة بيتنا العتيق – ورثني إياه المرحوم والدي – يلاقيني صوت زوجتي الساخر:

  • ها، شو في في جرايد اليوم يا زلمه؟
  • الحمد لله ..كل شئ تمام..هيني رجعت لك بالسلامة.
  • طيب جيب لي جريدة أتسلى فيها!
  • مستعجلة تقري خبري في الجريدة..ها؟
  • وّل على هالفأل. لماذا أنت مستعجل على تركي وحدي يا زلمة؟!

أتأملها، واستغرب أننا عشنا معا كل هذه السنوات، وأننا أنجبنا أولادا وبناتا ..رحلوا وتركونا بعد زواجهم، وأكاد أنسى ملامحهم.

جاءني صوتها من المطبخ:

  • هل ستنزل غدا للبلد؟

لم أجبها. سأنزل غدا، كما في كل يوم، باستثناء يوم الجمعة..لأقرأ صفحات تلك الجريدة، وأطمئن أنني ما زلت حيّا..لأسباب لا أعرفها!

أنا فقط أقرأ صفحات الوفيات، ولا تعنيني صفحات السياسة والتلعيقات..ولماذا أقرأها وأضيّع وقتي فيها؟!

-2-

صحيفة مهاجرة

صديقي صاحب ( بسطة) بيع الصحف والمجلات كريم معي، فهو يسمح لي بتصفح الجرائد اليومية، وحتى المجلات، ولا يلزمني بشراء، أو دفع ثمن ما أتصفح، لأنه يعرف الحال..خاصة بعد التقاعد!

وهو من الكرم بحيث يطلب لي كاسة شاي ارتشفها بمتعة، خاصة ووقت الغداء يقترب، والجوع يبدا في تذكيري بضرورة ملء معدتي…

حضر شخص فهب صديقي واقفا وهنأه:

  • والله فرحت لك. دبرت نفسك ها؟!
  • بدنا نوكل خبز يا زلمه.
  • كيف الراتب؟
  • أفضل بكثير من جريدة الوفيات وأخواتها.
  • ربما يُسمح بدخول الصحيفة للبلد. لقد طمأنوني في الرقابة بصدور عدم ممانعة.

– يلا خلينا نزين بها بسطتنا. أقعد إشرب قهوة…

  • بدي أدور على البسطات أبشرهم بقرب مجئ جريدتنا العالمية.

ومضى سريعا.

ضحك صاحبي وهو يرمي جسده على الكرسي. أمال وجهه وهو يهز رأسه ويحدق في وجهي.

– قال جريدة مهاجرة قال!

سألته: شو الحكاية؟.

  • هذا صحفي كان يشتغل في صفحات الوفيات..وها هو قد دبّر حاله في العمل في صحيفة مهاجرة بدأت تصدر حديثا في لندن.

ثم فرقع ضحكة صاخبة:

– الصحيفة مهاجرة ..والمراسل مقيم!.

سألني:

– شو رأيك؟!

اخرجت صورة صغيرة من محفظتي التي لا تحوي سوى نصف دينار، والهوية، ومددت يدي بها لصديقي، فنظر مندهشا:

  • أريدك أن تقنع صاحبك الصحفي أن ينشر خبرا مع صورتي..يقول:  هذه صورة المواطن المتقاعد المدمن على تصفح جريدة (…)، وتأمل صور الموتى في صفحات الوفيات، وقد رجاني أن الفت انتباه القائمين على جريدتنا الماجرة أن تبادر إلى نشر وفيات موتانا في بلاد بّره..حتى نقرأ لأرواحهم الفاتحة، و..نعرف من مات منهم ..ومن بقي، وبهذا يُسدون لنا خدمة قومية في الصحافة المهاجرة، مع التمنيات بأن تعود يوما من بلاد الهجرة إلى الوطن..ويبقى صحفيوها للقيام بعمل المراسلين لها من تلك الديار..من يدري؟!

-3-

القيام بالواجب

صديقي ( م) يعرف الواجب،  فهو يحرص على المرور بنظره سريعا على صفحات الوفيات، وينتقي بعض من يعرفهم، ولو من بعيد..ليعزي ذويهم بهم.

لديه بدلة عتيقة سوداء، وربطة عنق سوداء نحيلة مثله، انتهى عمرها الافتراضي منذ سنوات.

ذات يوم سحب الجريدة من بين يدي، وسألني سؤالا غريبا:

  • أتحب اللحم..أم الكنافة؟

استغرت سؤاله، وبعد قليل من الوقت استفسرت منه:

  • لماذا تسألني؟
  • لمصلحتك..لأغذيك.
  • أُحب اللحم..والكنافة.

منذ ذلك اليوم تحسنت صحتي واحلوت ذائقتي، وبت أعود للبيت وأنا مبسوط، بعد أن عودني صديقي على مرافقته للعزيات بالمرحومين – هو يختارهم ذكورا – رغم تمنعي في البداية لأنني لا أعرف أحدا من معارفه، ولكنه فاجأني بالتساؤل مستغربا:

  • وهل أعرفهم أنا؟! أنا أعرف قلة قليلة منهم. في المآتم..والأعراس لا أحد يسأل أحدا يا رجل. أنت تأكل عن روح المرحوم. وتحلي فمك بالكنافة عن روح المرحوم الذي لا نعرف إن كانت نهايته في القبر بحلاوة ولذة الكنافة.

ويضيف: ربنا يرحم الجيع.

يرددها باستمرار بحكمة، وبوقار، وبتعاطف مع المرحومين الذين، غالبا لا يعرف أحدا منهم، ولكن، كما يردد: الرحمة تجوز على الجميع.

الحمد لله انني محظوظ بهذا الصديق، وبهذا العدد من المرحومين الذين نعجز عن القيام بواجب العزاء بهم لكثرتهم..وبفضلهم باتت صحتي في تحسن مضطرد!

  • 4-

ومددت له لساني:

دهش صديقي لتأخري في هذا الصباح عن الحضور كما هو دأبي في كل صباح، باستثناء يوم الجمعة، وهو يحضر دائما متأخرا ببدلته السوداء وربطة عنقه النحيلة الموحية بالحداد على المرحوم، أي مرحوم!.

فتح الصحيفة على أول صفحة من صفحات الوفيات ففوجئ بصورتي وأنا أفتح فمي على وسعه وكأنني أقهقه،أو أتثاءب، ووجم وهو يقرأ ما تحت الصورة: رحل مساء الأمس..وسيشيّع اليوم من بيته، ويصلى عليه في مسجد الفتح، ونظرا لخطورة الأحوال بسبب الكورونا فهو يرجو عدم حضور أحد للقيام بواجب لعزاء، وبخاصة صديقه( م) للقيام بواجب العزاء، ففي هذه الأيام لا لحم..ولا كنافة!

عرفت أن صاحبي سيهرول، ولو اضطر لاستئجار تاكسي للتاكد من صحة النبأ..وللقيام بتعزية أرملتي!.

ذهل عندما قرع جرس الباب، وفتح..فإذا بزوجتي ترتدي فستانا قاتما وتضع على رأسها منديلا أشد قتامة، وتباغته:

  • يسلم عليك صاحبك المرحوم، ويقول لك: ليست هناك ضرورة لتخاطر بالقدوم للقيام  بواجب العزاء في زمن الكورونا، خاصة وأننا لن نولم عن روحه، فلا مناسف..ولا كنافة!.

نكس رأسه واستدار، ثم مضى بطيئا وهو يهز راسه متسائلاً: ماذا يقصد هذا الرجل بفعلته؟ أنا توقعت أن أرحل قبله، ثُم من سيرافقني في تقديم العزاء للراحلين الأعزاء؟ سيقتقدنا المعزون النشطاء الذين تكاثروا في السنوات الأخيرة ونشطوا في المبادرة إلى القيام بواجباتهم في تقديم العزاء.

ووجد نفسه يفرقع ضحكة عالية صاخبة مستذكرا اقتراح الراحل: لماذا لا نشكّل نقابة للمبادرين للقيام بواجبات العزاء، وبخاصة لمن ليس لهم من يعزون بهم؟!

بوغت بربتة على كتفه، وبصوت صاحبه:

  • كيف شفت صورتي في الجريدة؟ ما رأيك ان نتوجه معا لتقديم العزاء بي؟!

سارا صامتين، ثم انفجرا بضحكة ممتدة حتى فاضت الدموع من عيونهما. ثم استلا كمامتين من جيبيهما وغطيا فميهما وأنفيهمان وبعض ذقنيهما..وتأسفا لأن الكورونا حرمتهما من اللحم والكنافة، بسبب حظر التجمعات تحت طائلة العقاب وفقا لقانون الطوارئ…!