بساط الريح

لنعد بالصراع إلى مربعه الأول – عبداللطيف مهنا

 

البداية كانت عندما تكرَّمت القمه العربية الشهيرة في الرباط فخلعت على منظمة التحرير الفلسطينية صفة الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني. في حينه كان ذاك يبدو محمودا لمحسني الظن. وهو يكون كذلك لو كانت نوايا اغلب المؤتمرين، ولا نقول كلهم، تهدف فقط لأمرين لا ثالث لهما: تكريس الهوية الوطنية للشعب العربي الفلسطيني، واستحضارها حيث كانت تعاني تغييباً أعقب نكبةً وضعت له حداً للتو انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة وبدء الكفاح المسلح في الساعات الأول من العام 1965، باعتبار المنظمة في حينه منجزاً وطنياً ووطناً معنوياً للشعب الفلسطيني وطناً وشتاتاً، ولكونها أُسست منظمةً للتحرير، ونضع تحت كلمة التحرير هذه خطين، ولكامل فلسطين من نهرها إلى بحرها، وفق ميثاقها الوطني المجمع عليه وطنياً، قبل أن يتم العبث به لاحقاً.

ثم أن هذا الاعتراف هو بداية لتجنيد كافة الجهود والطاقات والسياسات العربية لدعم المنظمة باعتبارها مجرَّد حاضنة للكفاح الوطني الفلسطيني، الذي هو مجرَّد رأس حربة وحالة مواجهة واشتباك دائم مع عدو الأمة، بحكم تواجدها في الخطوط الأمامية من جبهة الصراع الوجودي مع هذا العدو. أي بما لا يزد عن كونها مفرزة متقدمة في سياق مستوجب نضال قومي لتحرير فلسطين العربية، الأمر الذي هو مسؤولية أمة بأسرها وليس الشعب الفلسطيني وحده، ولا هو بمقدوره. ثم باعتبارهم ازاء قضية قضاياهم، أو المركزية، وفقما ظلوا يطلقونه عليها ثم لم يلبثوا وأن كفّْوا عن ذكره لاحقاً.

كل ما تأتى لاحقاَ هو تحوُّل هذا المنشود من وحدانية التمثيل إلى ما هو خلافه. بات درقة وتعلة لمن أراد نفض اليد من القضية القومية والتملُّص من التزاماته حيالها، أو اشاحة الوجه عن كل ما تتطلبه مستوجبات النضال القومي المفترض لتحرير فلسطين العربية…كانت المقدمة لإذهب وربك فقاتلا إنَّا هاهنا لقاعدون، وما يقبله الفلسطينيون نقبله، وإن هم قبلوا ما لايُقبل فنحن لسنا فلسطينيين أكثر من الفلسطينيين، أو ملكييين أكثر من الملك، وسائر مثل هذه المقولات التي راجت في عقود الانحدار العربي، وكان ختامها أن اصبح الصراع العربي الصهيوني “النزاع الفلسطيني الإسرائيلي” لدى أغلب الأنظمة وغالب النخب، وصولاً إلى أنه حتى الأسلويون الفلسطينيين الذين حظوا برعاية التسووين العرب وتشجيعهم، والذين وضعوا انفسهم في موقع المتعرِّض الدائم للضغوط الغربية، أو ما يعرف ب”المجتمع الدولي”، لحلب المزيد من تنازلاتهم لتصفية القضية، يشتكون من أن الضغوط العربية هي الأشد وقعاً عليهم والأكثر خطرا على القضية وتهافتاً على سرعة دفنها ولو أدى ذلك لدفنهم قبلها.

لقد لعبت الساداتية، التي وضعت 99% من أوراق الحل في يد العدو الأول للأمة العربية، أي الولايات المتحدة الأميركية، واخرجت مصر من ساحة الصراع العربي الصهيوني، وادارت ظهرها لدوائر عبد الناصر الثلاث، العربية والإفريقية والإسلامية، دوراً حاسماً في نحر الإرادة السياسية العربية، ومن ثم خلق البيئة الحاضنة لتفاقم هذا الانحدار العربي المفقِّس الآن لمختلف رزايا الفتن والتطييف والتشرذم الذي يتسم بها راهننا المزري. كما أن الانهزامية الرسمية الفلسطينية بجنوحها التسووي التصفوي، المتذرعة بشعار القرار الوطني المستقل عن الأمة وليس الأنظمة، والمتلطية وراء مقولة “يا وحدنا”، قد عبًّدت الطريق لعرب التحلل من حمل مستحقات مسؤوليتهم اتجاه القضية المركزية للأمة. وبالتالي، ما بذره برنامجها المرحلي كان حصاده ما اوصلتنا اليه الكارثة الأوسلوية، أي قتاد مسيرتها التفريطية المدمِّرة لما قارب الربع قرن. هوِّدت الأرض تحت اقدامهم فهربوا إلى وهم “العدالة الدولية” واضعين ما تبقى من بيضهم في سلتها البلا قعر. حاولوا ايهامنا بأن هروبهم قد اسهم في عزل الكيان الصهيوني  والوقائع تقول بغيره. صوتت الأمم المتحدة لصالح تنصيب صهيوني رئيساً للجنة قوانينها، وصوَّت عرب مع من صوَّت لتنصيبه. وانحازت الرباعية الدولية للاحتلال وساوت بين الضحية وجلاَّدها. وفتوحات نتنياهو الإفريقية اسفرت فيما اسفرت عن اقتراحاً كينياً اوغندياً لضم الكيان للاتحاد الإفريفي عضواً مراقباً. لكنما الأدهى هو أن الاختراق الصهيوني للمناعة العربية قد بدأ يؤتي ثماره بذريعة مكافحة الإرهاب ومواجهة الخطر االإيراني. الكلام عن تعديل المبادرة العربية، تبعه آخر ذو صلة عن مؤتمر إقليمي في شرم الشيخ بديلاً عن دولي فرنسا، وإذ لم يعد مستغرباً أن يتوسط العرب بين عدوهم واهلهم، قد لا نستغرب أن دعا داع منهم لضمه عضواً مراقباً في الجامعة العربية…نتنياهو يتحدث عن “انقلاب في علاقتنا مع دول عربية” يقول أنها “سارت تفهم أن إسرائيل ليست عدواً وإنما حليف وسند”!!!

خلاصته أنه بات الآن للعرب صهاينتهم، وبتنا وجهاً لوجه أمام نظرية ليبرمان الداعية لسلام مع العرب كمقدمة له مع الفلسطينيين، وفي مواجهة استراتيجية نتنياهو المسماة ب”الحل الإقليمي”…وصولاً لما بشَّرت به صحيفة “إسرائيل اليوم” من تطبيع مجاني مع العرب ومفاوضات إلى الأبد مع الفسطينيين.

…مشكلتهم أن هذه القضية عصية على التصفية، ومشكلتنا التلكوء في القيام بما هو المُلِّح والضرورة الوجودية والخيار الذي لامن خيار لنا سواه، وهو إعادة الصراع إلى مربعه الأول…إما كل فلسطين أو كل فلسطين، والمقاومة، بكل اشكالها، وعلى رأسها الكفاح المسلح، سبيلنا الوحيد إليها…حينها فحسب لن تكون الأمة إلا مع من لا تتوحد هذه الأمة إلا عليه، مع فلسطينها.

اترك تعليقاً