من هنا وهناك

ما بعد الهيمنة الغربية: لماذا التوجه شرقاً؟ أحمد حسن*  


 
«سقوط الشرق سبق صعود الغرب»، جادلت جانيت أبو لغد في عملها الأهم «قبل الهيمنة الغربية: النظام العالمي ١٢٥٠-١٣٥٠» (1). عبارة واحدة من خمس كلمات، فقط، جاءت كاستنتاج في نهاية الفصل الأخير من الكتاب القَيِّمْ جداً، بصفحاته التي قاربت الـ٤٥٠، كانت محور الجدل الكبير، والنقاش العميق، الذي استتبع صدور الكتاب، تحديداً حول «السقوط» و«الصعود» كمفهومين، وأيضاً كحدثين، بسبب التبعات الكبرى لذلك. ومع صدور كتاب أندريه غندر فرانك «عودة الشرق: الاقتصاد الكوني في العصر الآسيوي» (2)، الذي بنى على كتاب أبو لغد وأكمل من حيث انتهت ( أي ما بعد عام ١٣٥٠)، عاد وتركّز الجدل على طبيعة «السقوط» و«الصعود» كمفهومين، وأيضاً كحدثين: أي إمّا حدثان منفصلان، حيث شَكَّلَ الثاني حالة قطع مع الأول، وفي الوقت ذاته مَثَّلا معاً سقوط وصعود نظامين مختلفين، أم أنهما مفهومان وحدثان مترابطان، مَثَّلا مرحلتين متمايزتين في تاريخ نظام عالمي واحد وتاريخ مستمر بلا انقطاع ـــ أي هل كان النظام العالمي الذي تأسّس وهيمنت عليه أوروبا منذ القرن السادس عشر جديداً، خصوصاً بكونه عالمياً، كما كان سائداً ومقبولاً لدى المؤرّخين وعلماء الاجتماع، أو أنّ ما حدث كان مجرّد إعادة بناء للنظام العالمي الموجود أصلاً، مع انتقال مركزه من الشرق إلى الغرب.
إلّا أنّ ما غاب كثيراً عن النقاش، في زحمة الجدل وانشغال أقطاب نظرية «النظام العالمي» بالدفاع عن أعمالهم الأولى التي شكّكت فيها أبو لغد وفرانك، هو النقلة التاريخية، التي أعقبت إعادة تشكيل النظام العالمي، والأهم هو إمكانية أن نشهد نقلة مشابهة تستتبع أو تترافق مع تراجع وأفول الهيمنة الغربية على النظام العالمي القائم الآن، خصوصاً أنّ سياق الصراع العالمي (الطبقي بجوهره بامتياز) هو صراع الجنوب ـــ الشمال (3). ما فتح آفاق النقاش حول هذه القضية، ربما أكثر من غيره، هو كتاب فرانك المذكور أعلاه. فمع انتقال مركز النظام الشرقي المركزية، الذي أرَّخَتْ له أبو لغد ولاحقاً فرانك، إلى أوروبا (أو مع ظهور نظام عالمي جديد في أوروبا، إذا كنت تتّفق مع والرشتين وتختلف مع فرانك وأبو لغد) استتبع (أو وترافق مع) ذلك نقلة شاملة على كل الصعد، ربما يكون من أهمّها تأثيراً ودوراً في صناعة واستدامة الهيمنة الغربية الهيمنة الأيديولوجية الأوروبية، ومن ضمنها ما يتعلق بإدراك وتخيّل وسرد تاريخ العالم الحديث ذاته، وأيضاً التفكير في الحاضر والمستقبل، وإدراك وتخيّل وسرد دور أوروبا والغرب في العالم وتاريخ العالم. لهذا السبب، كما يبدو، أفردَ كل منهما، قسماً أساسياً لنقد الأوروبية المركزية.
قبل الهيمنة الغربية
تُجادل أبو لغد، باختصار شديد، أنّ النظام العالمي القائم، حينها، وصل ذروة الصعود والنمو بين أعوام ١٢٥٠ ـــ ١٣٥٠ ميلادية، وأعقب ذلك حالة طويلة من الكساد الطويل أدّت إلى تراجع ثم اندثار هذا النظام، وولادة نظام عالمي جديد في القرن السادس عشر، انطلاقاً من جنوب وغرب أوروبا (4). قبل ذلك، وحتى عام ١٣٥٠ تقريباً، تُجادل أبو لغد، أنّ النظام العالمي السائد كان يتشكل من ترابط ثماني مناطق (مركزها المدن)، ويتضمّن تقسيماً عالمياً للعمل، وبالتالي تبادل وتجارة دولية/ عالمية (أي أنّه كان نظاماً عالمياً بامتياز). حينها، لم تشكّل أوروبا في هذا النظام الشرقي المركزي أكثر من مجرد منطقة «حديثة النعمة، وهامشية (أو محيطية) لعملية مستمرة (مركزها) في آسيا» (5)، واعتمدت (أي أوروبا) في نموّها، أساساً، على التجارة مع شرق المتوسط (لعبت الحملات الصليبية دوراً أساسياً فيها ــــــ ولولا غنى الشرق، لما كانت الحروب الصليبية، يقول فرانك، وكذلك، لولا موقع مدينتي جَنَوِة والبندقية الوسيط بين أوروبا والشرق، لما وصلت هذه المدن أصلاً إلى ما وصلت إليه من أهمية وثراء، ولربما ما كانت بدايات النظام العالمي الأوروبي المركزية لاحقاً في جنوب أوروبا). لكن، تضيف أبو لغد، في ما يمكن اعتباره المساهمة الأهم لعملها القيّم، أنّ الفشل «في بدء سرد القصة مبكراً بما فيه الكفاية، أدى إلى سيادة تفسير سببي مبتور ومشوّه لقصة صعود الغرب» (6)، وبالتالي، يمكن القول أيضاً، سيادة سردية مزوّرة ومبتورة لتاريخ العالم ودور الغرب فيه. فسرد قصة وتاريخ النظام العالمي، منذ عام ١٢٥٠، كما فعلت أبو لغد (وليس منذ بداية القرن السادس عشر مع صعود أوروبا كما فعل إيمانويل والرشتين، وكما هو سائد ومعتمد أكاديمياً)، لن يؤسّس لسردية بديلة للنظام العالمي ولتاريخ العالم الحديث فقط، ولن ينقض أسس السردية الغربية ومزاعم الاستثنائية الأوروبية أيضاً. بل ويمكن أن يؤسّس، اعتماداً على ذلك، للبدء باستشراف وتخيّل احتمالات مختلفة ومتعدّدة لمستقبل منطقتنا والعالم. الأهم، أنّ تاريخاً مختلفاً، ونظرة مختلفة للنظام العالمي، وللعالم، وللغرب ودوره عمّا هو سائد بفعل الهيمنة الغربية (أي البدء بسرد قصة النظام العالمي قبل ٢٥٠ عاماً من التقليد السائد، أو منذ عام ١٢٥٠ بدل ١٥٠٠)، كما فعلت أبو لغد، وإعادة النظر أيضاً في التأريخ السائد للنظام العالمي حتى بعد ذلك (أي بين أعوام ١٤٠٠ ـــ ١٨٠٠)، كما فعل فرانك، ستفتح أيضاً الأفق أمام إمكانية تخيّل التحوّلات التاريخية، والمنظومات المفاهيمية السائدة، وحتى التحوّلات في طريقة العيش التي يمكن أن يمهّد لها أفول الهيمنة الغربية الجاري.
تضع أبو لغد، في «ما قبل الهيمنة الغربية» الهدفين وترابطهما في فقرة شديدة البلاغة والتماسك، توجز فيها، في آن واحد، هدف دراستها وأيضاً تبعاتها المهمة: «لم يكن الاقتصاد العالمي في القرن الثالث عشر مدهشاً في حد ذاته فقط، بل، ولأنه لم يحتوي على قوة مهيمنة واحدة، فإنّ ذلك يوفّر أيضاً تبايناً مهمّاً (للمقارنة) مع النظام العالمي الذي نشأ منه لاحقاً، أي النظام الذي أعادت أوروبا تشكيله لتحقيق أهدافها، وسيطرت عليه لفترة طويلة. فهذا التباين (المقارنة) يشير إلى أنّ خصائص الأنظمة العالمية غير ثابتة، فلا توجد طريقة واحدة فريدة لتنظيم الأجزاء. علاوة على ذلك، إنّ الأنظمة العالمية أيضاً ليست راكدة (جامدة)، بل تتطوّر وتتغيّر باستمرار. وفي هذه اللحظة من الزمن، يعيش النظام العالمي الذي نشأ في القرن السادس عشر مخاض التغيير. لهذا، فإنّ فهم النظام الذي سبقه قد يساعدنا في فهم ما ينتظرنا في المستقبل بشكل أفضل» (7).

ما بعد الكيان الصهيوني
دعوة السيد حسن نصر الله في خطابه الأخير (١٦ حزيران/ يونيو) للتوجّه شرقاً، يتوجّب أن تفتح باب النقاش أمام قضية كبرى، ينبغي أن تكون محطّ اهتمام كلّ مثقّف عربي، خصوصاً أنّ السيد وضعها، كما يمكن فهمها من خطابه، في سياق استراتيجي أبعد وأعمق كثيراً من مجرّد حلّ أزمات آنية في لبنان فقط، وأبعد حتى من سياق تَغَيُّر وتَغْيير المنطقة أيضاً، بل تَغَيُّر وتَغْيير العالم كذلك، ويمكن أن نقرأ فيها استعادة وإحياء لروح عمل المفكر العربي الفذ أنور عبد الملك، «تغيير العالم» (8). ليس هدف هذه المحاولة التأسيس نظرياً لهذه الدعوة، فليس هذا مكانه هنا، إن كانت هناك حاجة أصلاً لذلك ـــ في الحقيقة قام بجانب أساسي من هذه المهمّة اثنين من أهمّ مؤرّخي النظام العالمي على الإطلاق (أندريه غندر فرانك وجانيت أبو لغد)، وأسسا لسردية مضادّة وإطار نظري أصبحا منذ عقدين المرجع الأهم لعشرات من أهم المؤرّخين وعلماء الاجتماع. هذه المحاولة تهدف، فقط، للإضاءة على هذا الإطار النظري وهذه السردية لنقاش دعوة السيد، وأيضاً تبرير الزعم التالي لهذه المحاولة: أنّ التحوّل شرقاً في هذه اللحظة التاريخية بالذات، هو خيار استراتيجي يتضمّن ما هو أبعد كثيراً من السياسة والاقتصاد والأزمات الحياتية الراهنة، كما نعرفها في بلادنا. خيار استراتيجي خلفه إدراك عميق للتاريخ الحقيقي للعالم الحديث وللنظام العالمي بعد تحريره من أثقال المركزية الأوروبية المعرفية، وفلسفة تاريخ تستشرف المستقبل وتتخيّله بتحرّر تام من افتراضات وطغيان الاستثنائية الأوروبية ومسلماتها التي تهيمن على التفكير بالماضي والحاضر والمستقبل في الأكاديميا، كما في السياسة والاقتصاد والاجتماع. خيار استراتيجي أساسه استنتاج عميق جوهره أننا لا نعيش فقط مرحلة أفول الهيمنة الغربية، بل أيضاً، وبالضرورة نتيجة لذلك، أنّ العالم على أبواب انقلاب تاريخي سينتج منه عالم جديد له منظومته المفاهيميه المختلفة التي ستعيد تشكيل رؤيتنا للعالم وللتاريخ، وتُغيّر طريقة العيش، وتؤسّس حتى لصوغ اجتماعٍ إنساني جديد.

وفيما شعوبنا ومقاومات شعوبنا تقاتل العدو الصهيوني، ومَن خلف العدو الصهيوني من قوى إمبريالية غربية، وفيما تزداد هذه المقاومات قوة يوماً بعد يوم، تتضمّن فكرة التوجّه شرقاً دعوة للتفكير بما بعد الكيان الصهيوني، كجزء من استراتيجية شاملة تتضمّن التسلّح بمقدّرات هزيمة وإزالة هذا الكيان، وفي مقدمتها رؤية عميقة حول مسارات النظام العالمي المحتملة وموقعنا فيها. هكذا، يتوجّب أن تتحدّد، الآن، خياراتنا كشعوب، وكأمّة، وقوى مقاومة، إنْ كنّا حريصين فعلاً على مستقبل شعوبنا. فمن لا يعرف التاريخ لن يعرف التخطيط للمستقبل، ولن يستطيع حتى مجرّد أن يتخيّل احتمالات المستقبل المتعدّدة الممكنة، والتي سيكون دورنا وإمكانياتنا للتأثير بمساراتها المحتملة مشروطاً إلى حدّ كبير بقدر استثمارنا في المقاومة ضد العدو الصهيوني وضد الإمبريالية الغربية. الزعم الأساسي هنا أنه: بكل المقاييس المعتمّدة، وحسب كل الاحتمالات الممكنة، ووفق أحدث وأدق وأنضج السرديات التاريخية التي تلقى قبولاً أكثر كلّ يوم وتؤسّس لاستشراف المستقبل، وتتحدّى السردية الغربية التي تقوم على أساسها الهيمنة الغربية، فإنّ بوصلة مستقبل العالم لا تؤشر إلّا شرقاً.
 
ما قبل «قبل الهيمنة الغربية»: قصة مدينة

«إذا كانت الأضواء مطفأة في أوروبا، فهي كانت بالتأكيد مشرقة وساطعة في الشرق الأوسط»، كتبت أبو لغد في نقدها للمركزية المعرفية الأوروبية ولمفهومي «العصور المظلمة» و«العصور الوسطى»(9)، بعد دراستها الألفية لمدينة القاهرة، «القاهرة: 1001 سنة للمدينة المنتصرة» (10). فألف عام من تاريخ المحروسة قاد عالِمة الاجتماع المتخصّصة في تاريخ المدن، والسوسيولوجيا الحضرية، ليس فقط إلى إعادة النظر في دور وشخصية مدن العصور الوسطى بشكل عام، بل أيضاً نقض ونقد، وحتى رفض، الأعمال والنظريات المؤسسة لحقل «علم الاجتماع الحضري»، أو «علم اجتماع المدن»، والتشكيك بأعمال علماء الاجتماع المؤسسين لهذا الحقل، بدءاً من المؤرّخ البلجيكي وصاحب نظرية (نموذج) سائدة ومقبولة إلى حدّ كبير تحمل اسمه، هنري بيرين(11)، إلى عالم الاجتماع الأهم، ماكس فيبر (12). فأعمالهم المُؤَسَّسة على المركزية المعرفية الأوروبية للمدن، ورؤيتها وتحليلها المبني على ثنائية التراتب للمدن الغربية (العليا) مقابل الشرقية (الدنيا)، بَدَتْ أكثر من مجرّد دراسات أكاديمية فاشلة، أو حتى منحازة بعد دراستها الفذّة لتاريخ القاهرة.
فليست القضية هنا، فقط أنّ معرفتنا بالحقائق، ومدى إدراكنا لها، تختلف فعلاً تبعاً لبعدنا الزماني والمكاني عنها ـــ بالتأكيد سيبدو لك العالم في القرن التاسع مختلفاً تماماً، لو كنت تقرأ عن بغداد، حين أرسل المأمون بعثتين فلكيّتين إلى سهل سنجار، قرب الموصل، ليقيسا محيط الأرض في بدايات القرن التاسع، أو إن كنت تقرأ عن أحوال أي مدينة في شمال أو غرب أوروبا في الوقت ذاته في عصر وصفه الأوروبيون أنفسهم بـ«المظلم». القضية أساساً، أنّه فعلاً يمكن أن يكون العلم (علم الاجتماع في هذه الحالة) مشروعاً تحرّرياً، أو مؤسّسة تحرّرية. لكنّ العلوم المؤسّسة على المركزية المعرفية الأوروبية كانت بطبيعة تأسيسها (ولا تزال) أدوات هيمنة، وجزءاً أساسياً من المشروع الاستعماري الغربي. كان فرنان بروديل محقاً، في الجزء الثالث من «الحضارة والرأسمالية»، إذن، حين جادل أنّ «أوروبا اخترعت المؤرّخين ثم استفادت منهم جيداً لتعزيز مصالحها الخاصة في الداخل كما في أماكن أخرى من العالم» ـــ ليس المقصود، هنا، طبعاً أنّه لم يكن هناك مؤرّخون وتأريخ قبل ذلك، بل المقصود هو ظهور جيل من المؤرّخين الذين اعتمدوا المركزية المعرفية الأوروبية في كتابة تاريخ العالم، وأيضاً جيل من الجغرافيين الذين رسموا خرائط العالم، وحتى اخترعوا أوروبا ذاتها كقارة وامتداد جغرافي بتاريخ مستقل. ربما تفيد ملاحظة أنور عبد الملك حول اختراع فكرة العالم ذاتها، أو بداية إدراك البشر أننا نعيش في عالم مترابط الأجزاء. لكنّ صياغة هذا الإدراك، أو اختراع فكرة العالم والعالمية، كما نعرفها، بدأت في القرن التاسع عشر مع الهيمنة الأوروبية، فكانت صياغة الفكرة ومضمونها ومعناها كما أرادت لها أوروبا ومصالح أوروبا أن تكون (13).

لهذا، فإنّ بعض (وليس كلّ) ما على شعوب الجنوب فعله للتحرّر من تبعات وأثقال المركزية المعرفية الأوروبية، هو دراسة تاريخها الحقيقي، ومعرفته، وملاحظة التناقض (الصارخ أحياناً) مع ما أنتج من معرفة عنها وعن تاريخها (أي شعوب الجنوب) في سياق صعود الغرب وهيمنته على العالم. في الحقيقة، لا يوجد «حتى جزء واحد ممّا يسمى بالعالم الثالث، لم تصبح فيه الحكمة المتلقاة من الإنتاج المعرفي الغربي الأورو ـــ مركزي موضع تشكيك من قبل أولئك الذين تمّ إسكات صوتهم»، كما تقول أبو لغد. «فهم لا يجدون في تاريخهم ركود التقاليد، ولكن آليات التغيير، ولا يجدون التخلّف، كما يفترض كثير من الدراسات الغربية، ولكنّ تطوّر التخلّف من خلال التبعية» (14).
لهذا كانت قصة مدينة القاهرة، منذ الخريطة المستطيلة التي تخيّلها القائد العسكري الفاطمي جوهر الصقلي، وبدأ بتنفيذها فعلاً في عام ٩٦٩ ميلادية، هي التي أسّست لتشكيك أبو لغد، ولاحقاً فرانك، في السردية الغربية، كما أسّست لدراسة أبو لغد اللاحقة والأهم، «قبل الهيمنة الغربية». فالتشكيك الذي قادت له دراسة تاريخ القاهرة، لم يكن محصوراً في الحقيقة في مسلّمات علم الاجتماع الحضري الغربي، بل امتد لاحقاً ليطال كلّ تاريخ النظام الرأسمالي العالمي، وتقديم رواية بديلة ستكون لها تبعات بديلة (سيناريو مختلف من عام ١٢٥٠ ـــ ١٣٥٠ عند أبو لغد، وسيناريو مكمل مختلف أيضاً من عام ١٤٠٠ ـــ ١٨٠٠ عند فرانك). هذا عدا طبعاً عن أنّ مفهوم «عصور الظلام» الأورو ـــ مركزي الذي تمّ تعميمه على كلّ العالم، سقط في القاهرة، كما سقط في بغداد والرباط، ودمشق. في ذلك الوقت، ولمعرفة القيمة والأهمية الكبيرة لهذا الكتاب، يكفي التنويه إلى أنّ مسار الإنتاج المعرفي، وحتى الإطار النظري لتلك النظرية (أي النظام العالمي) ما بعد صدور هذا الكتاب لم تعد كما قبله، أقلّها أنَّ نظرية أبو لغد واستنتاجاتها شكّكت في العمل الأهم والمؤسس للنظرية، المتمثل، على الأقل، بالجزئين الأول والثاني من ثلاثية (أو رباعية) إيمانويل والرشتين، «النظام العالمي الحديث: الزراعة الرأسمالية وأصول الاقتصاد العالمي الأوروبي في القرن السادس عشر». و«النظام العالمي الحديث: التجارة وتوحيد الاقتصاد الأوروبي العالمي» (تحديداً اعتبار والرشتين أنّ ظهور «النظام العالمي» في ما سُمي بـ«القرن السادس عشر الطويل» كان حدثاً جديداً كلّياً) (15).
لماذا الصين؟
 
لا يمكن، رغم كل ما سبق، إنكار أهمية العمل الضخم، والسردية الكبرى التي أسّس لها إيمانويل والرشتين، وخصوصاً الأدوات النظرية التي لا تعلّمنا فقط بعضاً من طبيعة وأنماط الأنظمة العالمية والتاريخية، بل تُذكّرنا أيضاً باستمرار، بضرورة إدراك الأهمية الكبيرة لدور السياق الدولي (والإقليمي) في أي تقييم أو تحليل لفهم التحولات المحلية في بلادنا ـــ أنت لا تعيش في جزيرة. لكن، مثل كل النظريات، لم تَخْلُ سردية والرشتين من «نقاط عمياء»، كما تشير أبو لغد في دراسة أخرى (16)، وهو ما يفسّر الخلافات العديدة بين أتباع هذه النظرية منذ البداية. لكن، وبرغم كلّ الخلافات حول التفاصيل، استمرّ أتباع النظرية بقبول «الحبكة الأساسية» للسردية، المتمثلة بفتنة (وفرادة) الثقافة الغربية لقرابة 500 عام. ما تمّ تناسيه، هو «حقيقة أنّ اللاعبين الأوروبيين دخلوا من الأطراف (الهوامش) إلى مسرح موجود أصلاً (وفيه لاعبون كبار)، لكن تمّ إخفاؤه والتعمية عليه في وقت لاحق. هذا طبعاً عدا عن أنّ دول الأطلسي قد أجبرت، منذ فترة، بالفعل على مشاركة المسرح مع فريق أكبر وأكثر تنوعاً من أي وقت مضى» (17).
لكنّ سردية «ما قبل الهيمنة الغربية» تتوقّف عند عام ١٣٥٠، ليستتبعها أندريه غندر فرانك في «عودة الشرق» (18)، بزعم ليس أقلّ أهمية وتبعات، إن لم يكن أكثر. لم يسقط الشرق في عام ١٣٥٠، ولم تصعد أوروبا في القرن السادس عشر الطويل (١٤٥٠ ـــ ١٦٤٠). أكثر من ذلك، ظلّ الشرق مركز النظام العالمي حتى عام ١٨٠٠. وقصة العالم في سنوات ١٤٠٠ ـــ ١٨٠٠ ميلادية، كما تدلّل على ذلك البيانات التجارية وبيانات التبادل ومسار تدفّق النقد شرقاً (الفضة أساساً حينها)، وحتى المساهمة الإقليمية والقارية في الإنتاج العالمي تشير إلى استمرار نظام عالمي شرقي المركزية. المدهش في رواية فرانك لهذه المرحلة، والذي ينسف الكثير من الصورة السائدة لتاريخ الغرب ودوره، هو أنّه حتى بعد قرون من اكتساب أوروبا زخماً مادياً هائلاً بعد استعمار الأميركيتين (وأستراليا)، بدءاً برحلة كولومبوس عام ١٤٩٢ ونهبها لذهبهما وفضتهما (عملة التجارة الدولية الأساسية)، وصولاً إلى الثورة الصناعية، كانت مساهمة الشرق الذي شكّل ٦٦٪ من السكان، ٨٠٪ من الناتج العالمي عام ١٧٥٠ (19). في الحقيقة، ورغم أنه كان لاستعمار الأميركيتين ونهبهما دور في تمكين أوروبا من الانخراط أكثر في التجارة مع آسيا، فإنه قاد أيضاً إلى زيادة تدفّق النقد باتجاه آسيا وزيادة دورها في الإنتاج العالمي.
الصراع الراهن حول الصين، والجدل حول صعودها وتبعاته (بما فيه دعوات التوجه شرقاً)، هو صراع «حول طبيعة النظام العالمي، ومؤسساته المالية والسياسية والتجارية»، كما يقول فرانك (20). يمكننا في المقلب الآخر، القول إنّ التمسّك بالنموذج الغربي القائم، ورفض التوجه شرقاً هو تعبير عن مصلحة شريحة صغيرة في مجتمعاتنا تتربّح من إسالة دمائنا كل يوم. لكن الأهم من ذلك، أنّ الصين كانت نموذجاً فريداً جداً في مقاومة النموذج الغربي منذ البداية، كما يقول هيل غيتس في «محرّك الصين». «فلقد قاومت الصين وعلى مدى قرون الضغوط القادمة من أوروبا الغربية»، وتمكّنت من النجاة من كلّ محاولات الإمبريالية الغربية لإعادة بناء العالم. هذا في الماضي (21). أمّا في الحاضر، فيبدو الآن بوضوح أنّ تجربة شرق آسيا المعاصرة، وتجربة الصين، «لا تتناسب جيداً مع أي مخطّط نظري أو أيديولوجي غربي للأشياء. في الحقيقة هي تتناقض مع ذلك». ليست القضية، إذن مجرّد نمو ومساهمة في الإنتاج العالمي، بالمعنى الكمّي، وإلّا لما تحدثنا عن نقلة تاريخية ممكنة مستقبلياً.
علي القادري، الذي يرى أنّ «صعود الصين يُحَجِّم ٥٠٠ عام من التراكم الحضاري الهمجيّ المبني على العنصرية»، يجمل هذه القضية، ويربطها مباشرة بصراعنا مع العدو الصهيوني أكثر من غيره، فيبرّر لهذه المحاولة الزعم أعلاه عن كون التوجه شرقاً في آن واحد، تفكير بمقاومة الكيان الصهيوني والتفكير بما بعده أيضاً. فهو يشير إلى أننا «نقف في عالمٍ تستملك فيه الصينُ قدراتٍ أكبرَ من خلال تحكّمها بدورة السلع غيرِ المعسكَرة، أي السلع التي تُجدي الحياةَ البشريّةَ خيراً، خلافاً للتراكم والتسليع بالعسكرة الأميركيّة. هذا الأخير هو الحبل السري للكيان الصهيونيّ، الذي يشكّل بدوره طليعةَ الإنتاجيّة الإمبرياليّة المعسكَرة. لقد اختلّت موازينُ القوى في الكلّ المركّب على شكلٍ هرميّ، وباتت العلاقةُ الإمبرياليّة أقلَّ تأثيراً في تحديد مسار الأطراف. وفي حين كانت الأطراف تواجه أزمةً وجوديّةً حقيقيّة، أصبح مَن يواجه هذه الأزمةَ الوجوديّة اليوم هو الإمبرياليّةُ والكيان الصهيوني، صاحب الوظيفة المعسكرة المثلى» (22).
 
 
خاتمة: ما بعد الهيمنة الغربية

على مدار التاريخ تقول أبو لغد، «اكتسبت بعض الدول، أو على الأقل مجموعات داخلها، قوة نسبية مقابل غيرها، ونجحت في بعض الأحيان في تحديد شروط تفاعلها مع من تتحكم بهم، سواء عن طريق وسائل الحكم المباشر (الإمبراطوريات)، الإشراف غير المباشر (ما نسميه اليوم الاستعمار الجديد)، أو من خلال التأثير غير المتكافئ على السياسات الداخلية للآخرين (الهيمنة). عندما يحدث هذا، يطلق عليه «الصعود». على العكس من ذلك، يُشار إلى فقدان المركز المفيد على أنّه «تراجع»، حتى لو لم يكن هناك تدهور حقيقي في مستوى الحياة المطلق. فالنظم العالمية لا ترتفع وتسقط بالطريقة نفسها التي ترتفع بها الأمم أو الإمبراطوريات أو الحضارات. بدلاً من ذلك، فإنها ترتفع عندما يزداد التكامل وتنخفض عندما تتدهور الاتصالات على طول المسارات القديمة… تعيش الأجزاء القديمة وتصبح المواد التي تتطوّر منها إعادة الهيكلة… يقال إنّ إعادة الهيكلة تحدث عندما يبدأ اللاعبون الذين كانوا في السابق طرفياً في احتلال مواقع أكثر قوة في النظام، وعندها تصبح المناطق الجغرافية التي كانت هامشية في السابق للتفاعلات المكثفة بؤراً، وحتى مراكز التحكّم في مثل هذه التبادلات» (23).

ربما يكون بأهمية تفسير وشرح مفاهيم «الصعود» و«الأفول»، أعلاه عند أبو لغد، هو السياق الذي جاء فيه، وتتفق فيه مع فرانك والعشرات من مؤرّخي النظام العالمي، ومفاده أفول الغرب وصعود الشرق. لهذا، فالتوجه شرقاً الآن يعني ببساطة أن تقرّر الانتساب إلى المستقبل وحضارة المستقبل. يعني أن نكون، وأن لا يكون الكيان الصهيوني، في المستقبل. نعرف أنّ هناك من سَيُصرّ على الانتساب للماضي ومحاربة المستقبل. هؤلاء سيكون عليهم، لسوء حظّهم، أن يتعلّموا درساً قاسياً في التاريخ، مفاده أنّ «الحركة التاريخية لا يجدي معها القمع عندما تستوفي شروطها» (24).

كاتب عربي

المراجع:

ــــ Janet Abu-Lughod. 1989. “Before European Hegemony: The World System A.D. 1250-1350”. NY: Oxford University Press. P 361


ــــ Andre Gunder Frank. 1998. “ReOrient: Global Economy in the Asian Age”. Berkley: University of California Press

ــــ يمكن توصيفها بالنقلة الحضارية. طبعاً تفترض هذه المحاولة أن مفهوم «الحضارة» ليس مجرد اختراع فقط، بل ويتنافى كذلك مع أيّ ادّعاء بوجود حضارة غربية أو حضارة شرقية مستقلة، إن فَكَرْنا بها على أنها الناتج المادي والروحي للبشرية جمعاء. لكن، بما أن صراع الشرق والغرب في هذا السياق، أو الشمال والجنوب إن أردتم، هو أساساً صراع طبقي على مستوى عالمي يشمل المضطهَدين في الشمال أيضاً، فإنّ انتقال مركز المنظومة العالمية شرقاً، وبالتالي قيادة العالم من قبل المضطهَدين ووفق مقاييس جديدة ومختلفة، هو تحوّل من أجل البشرية جمعاء، وسيكون نقلة هائلة بإطاحته بالاختراع والأيديولوجيا التي يطلق عليها «حضارة غربية» ومقاييسها التي يقسم مروّجوها الإنسانية والعالم ويتجاهلون وحدة البشرية بما يخدم تراكم رأس المال
ــــ Before European Hegemony», p. 388»

ــــ Before European Hegemony», p. 9»

ــــ Before European Hegemony», p. 37»

ــــ Before European Hegemony», Pp. 4-6»

ــــ أنور عبدالملك. ١٩٨٥. «تغيير العالم». الكويت: المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب
 
ــــ Before European Hegemony», p. 9»
 
10 ــــ Janet Abu-Lughod. 1971. “Cairo: 1001 years of the City Victorious», Princeton: Princeton University Press»
 
11 ــــ Henri Pirenne. «Medieval Cities: Their Origins and the Revival of Trade». NJ: Princeton University Press
 
12 ــــ Max Weber. 1966. «The City». NY: Free Press

13 
ــــ «تغيير العالم»، ص: ١٣ ـــــ ٢٠
 
14 ــــ Before European Hegemony», p. 13»
 
15 ــــ Immanuel Wallerstein. 1974. «The Modern World-System, vol. I: Capitalist Agriculture and the Origins of the European World-Economy in the Sixteenth Century». NY: Academic Press
 
16 ــــ Janet Abu-Lughod. «Restructuring the Premodern World-System». Review, Spring, 1990, Vol. 13, No. 2. Pp. 273-286 (P. 273)
 
17 ــــ Restructuring the Premodern World-System», P. 273»
 
18 ــــ Andre Gunder Frank. 1998. «ReOrient: Global Economy in the Asian Age». Berkley: University of California Press
 
19 ــــReOrient», P. 172»
 
20 ــــReOrient», P.6»
 
21 ــــ Hill Gates. 1996. «China’s Motor: A thousand Years of Petty Capitalism». NY: Cornell University Press. P.6
 
22 ــــ علي القادري. «الأزمة الكونية والقضية»
 

23 
ــــ Before European Hegemony», p. 367»

24 
ــــ هادي العلوي. «حوار الحاضر والمستقبل»
 
 
 
” اللبنانية الأخبار”