من هنا وهناك

يوم الأسير الفلسطيني مدى العمر – بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي


لن تصمت ألسنتنا خوفاً، ولن تبح أصواتنا بسبب النداء، ولن تتوقف حناجرنا عن الهتاف، ولن تيأس المقاومة عن السعي، ولن يمل الشعب عن البذل، ولن يتأخر الفلسطينيون عن التضحية والفداء، حتى يأذن الله بفجر الحرية، ويتم الإفراج عن جميع الأسرى والمعتقلين في السجون الإسرائيلية، فهذا حلمٌ دائمٌ، وأملٌ باقي، وهدفٌ سيتحقق، وسيبقى قائماً حتى تنهدم أسوار السجون، وتفتح أبواب الزنازين، ويخرج أسرانا من خلف الأسلاك الشائكة، ومن وراء القضبان السميكة، أعزةً أحراراً، كراماً أبطالنا، فهذا عهدنا لهم، وقسمنا من أجلهم، أن نبذل ما استطعنا من جهدٍ لتحريرهم، وإكراه العدو على الإفراج عنهم.

إنه ليس يومٌ واحدٌ يتيمٌ في العام نذكر فيه الأسرى، ونتعاطف معهم، ونشعر بآلامهم وأحزانهم، ونعيش معاناتهم وقسوة ظروفهم، ونخرج متظاهرين تضامناً معهم، انتصاراً لقضيتهم، ومساندةً لحقوقهم، ونطلق صرخةً في وجه جلاديهم، الذين يظنون أن الأسرى أيتامٌ لا أب لهم، ولا من يهتم بشؤونهم، ويقلق على مصيرهم.

أو أنه يومٌ واحدٌ في العام مخصصٌ لهم، نخاطب فيه المجتمع الدولي والمؤسسات الحقوقية والإنسانية، الأممية والمدنية، لدفعهم لبذل المزيد من الجهود للضغط على الحكومة الإسرائيلية للإفراج عن الأسرى، وتمكينهم من حريتهم، أو تحسين ظروف اعتقالهم، ومنع تعذيبهم والإساءة إليهم، أو التضييق عليهم في سجنهم، وعلى أهليهم وأسرهم في حياتهم.

إنه ليس يومٌ واحدٌ في العام، نذكرهم ثم ننساهم، نرفع صورهم ثم نطويها، ننادي بحقوقهم ثم نتركهم وحدهم، نتظاهر ثم نرتاح من عناء مسيرة ساعة، بل ينبغي أن نكرس العمر كله من أجلهم جميعاً، حتى ولو كان في الأسر أسيرٌ واحدٌ لا أكثر، فكيف والأسرى آلافٌ من الرجال والنساء والأطفال، يقبعون في العديد من السجون والمعازل الإسرائيلية، في ظروفٍ قاهرة، يفتقرون إلى أبسط حقوقهم، ويعوزهم أقل احتياجاتهم، ويلزمهم الكثير في سجونهم ليشعروا بآدميتهم، ويعيشوا إنسانيتهم، فما يعانونه كبير، وما يواجهونه صعب، وما يلاقونه من عدوهم غريبٌ وعجيبٌ وخبيث، فالسجان عدوٌ لا يرحم، وغاصبٌ لا يعطي، وحاقدٌ لا يسمح، وموتورٌ لا ينسى.

إنه عمرنا كله، نمنحه لأسرانا كلهم، كي يعيشوا وينعموا بالحياة كغيرهم، فلا نفرق بينهم ولا نميز، فلا فرق بين أسيرٍ وآخر، فلا عظيم بينهم ولا محتقر، ولا كبير ولا صغير، ولا مجهول ولا مغمور، ولا قائد ولا عنصر، ولا متعلم ولا أميِّ، بل إنهم جميعاً واحد، رجالٌ عظماء، وأسرى أبطال، ومقاومون أشاوس، يتساوون في الحقوق، ويتشابهون في الحال، فكلهم أسرى لدى العدو الصهيوني، وكلهم قد قدم وأعطى، وضحى وبذل، وسبق وقاوم، فلا نجعلهم طبقاتٍ وفئاتٍ، ولا نصنفهم درجاتٍ ومنازل، فقدرهم جميعاً واحد، وصغيرهم بيننا كبير، ومجهولهم عندنا معلوم، وغريبهم يأنس بيننا، ويجد فينا أهله وعزوته.

إنهم سواءٌ بيننا كالأعلام، رؤوسهم مرفوعة، وقاماتهم ممشوقة، ينتصبون أمامنا كالشم الرواس، ويبزوننا بمواقفهم كالجبال الراسية، وإن تعددت ألوانهم، واختلفت مشاربهم، فلا فرق بينهم في الانتماء، ولا تمييز لهم في التنظيم أو الولاء، إذ لا يميز بينهم السجان، الذي يعتقل أبناء فتحٍ وحماس، والشعبية والجهاد، والديمقراطية والكتائب، وقد توحدوا في سجونهم واتفقوا، واجتمعوا في عنبرٍ واحدٍ، والتقوا في فورةٍ واحدة، وربما يقيدون أحياناً بسلاسل حديدية إلى بعضهم، متجاورين متقاربين، يمشون معاً، ويتوقفون معاً، فلا نفسد وحدتهم، ولا نخرب صفهم، ولا نضعف باختلافاتنا كلمتهم.

الأسرى في سجونهم، رغم عزلهم وبعدهم، ورغم معاناتهم وقيدهم، إلا أنهم جميعاً يفكرون في أسرهم، ويقلقون على أولادهم، ويخافون على أمهاتهم، وقد يدخرون من مصروفهم ليعطوا أهلهم، ويساعدوا أسرهم، لعلمهم أنهم يعانون ويقاسون، وأنهم يفتقرون إلى كسرة الخبز ولقمة العيش الكريم.

فإن أحببنا أن نبر الأسرى وأن نكرمهم، وأن نقف معهم ونساندهم، وأن نخفف عنهم ونسري عليهم، فعلينا أن نهتم بأسرهم، وأن نتذكر أطفالهم، وألا نشعرهم بالفقد والغياب، فنكون إلى جانبهم، نساندهم ونقف معهم، ونساعدهم ونوفر لهم ما يشاؤون ويحتاجون، فإن الأسرى بهذا يفرحون، وبه يسعدون، فلا نألُ جهداً في تطمين قلوبهم، وتخفيف العبء النفسي عنهم، برعاية أطفالهم وأسرهم، والاهتمام بهم وبحاجاتهم.

ليس أعظم فرحةً من الحرية، حرية الأوطان وحرية الأسرى، كلاهما سواء، فرحتهما عظيمة، وأثرهما على النفوس كبير، وكلاهما لا يتحقق بغير الصبر والتضحية، والعطاء والبذل، فطوبى لأمةٍ تسعى في سبيل حرية أسراها، وتعمل على كرامتهم، ولا تتأخر في الدفاع عنهم، ولا تتردد في استنقاذهم، ولا تدخر جهداً ولا مالاً في سبيل تحريرهم، لعلمها أن الأمة كلها مسؤولة عن حريتهم، وأن عليها البذل والإنفاق لتحريرهم، ولو أدت فداءً لهم كل ما تملك، وأعطت كل ما تدخر، فلا شئ يكفر عن عجزها، ولا يقبل الله عذرها، ولا يغفر لها ضعفها أو قلة حيلتها، ولا يعذرها لقوة العدو أو شراسته، إنما عليها العمل بكل الوسائل والسبل الممكنة، لتحقيق هذه الغاية النبيلة، ونيل هذا الشرف العظيم.

هنيئاً لكل من سخر حياته من أجل قضية الأسرى، وأعطاهم من عمره عمراً ليحيوا ويعيشوا، فلا أعظم جهاداً من جهادهم، ولا أكثر بركةً من عملهم، ولا أجزل في ميزان حسناتهم من جهدهم، فلا يستقل العاملون في مجال الأسرى عملهم، ولا يستخفوا بجهودهم، ولا يتسربن اليأسُ إلى قلوبهم، ولا يسكنن الوهن نفوسهم، فالحرية قادمة، والنصر قريب، والله سبحانه وتعالى معنا، لن يتخلى عنا، ولن يتركنا وحدنا، وسيأتي اليوم الذي نفك فيه أسر العاني، ونحقق حرية السجين، ونجرف بأيدينا السجون والمعتقلات، لتكون أثراً بعد عين، وعلامةً على اندحارٍ بعد نصر، وآيةً على القدرة بعد ضعف، ودليلاً على الحرية بعد التحرير. 

 

اترك تعليقاً