الأرشيفعربي وعالمي

آفاق الإنقلاب الدستوري في تونس – الطاهر المعز

الوقائع وردود الفعل:

أوردت وكالات الأنباء، يوم الأحد 25 تموز/يوليو 2021 (الذكرى الرابعة والستون لإعلان الجمهورية ) خبر استخدام “قيس سعيّد”، رئيس الجمهورية التونسي​​ة “الفصل 80” من دستور 2014، الذي يُخول له إقالة الحكومة وتجميد عمل مجلس النواب (بدعم الجيش)، الذي يُهيمن عليه ائتلاف يقودُهُ الإخوان المسلمون، إثر اجتماع طارئ عقده الرئيس مع مسؤولين أمنيين، وندّد قادة “النّهضة” (الإخوان المسلمون) بهذه الخطوة التي وصفوها بالإنقلاب، وتجمّع أنصارهم أمام البرلمان، وحاولوا الدخول إلى مبنى البرلمان فَمنعَهُم أنصار الرّئيس قيس سعَيِّد الذي فَعَّلَ سلطات الطوارئ لفترة ثلاثين يوما، ما يعني إقالة الحكومة، ورفع الحصانة عن نواب المجلس، وتكليف الجيش بتطويق مبنى البرلمان ومقر الحكومة، وحَظْر التجوال (ليلا) والتّظاهر ومراقبة وسائل الإعلام وتحجيم حرية الرأي والتعبير، لكن الرئيس يواصل التّشاور مع بعض القوى السياسية ومع النقابات، وسبق أن أعلن الرئيس أنه يُفضّل النّظام الرّئاسي على النّظام البرلماني، أي تعزيز دور الرئيس وإضعاف دور البرلمان، “لضمان استقرار النّظام السياسي”…
أعلنت قناة الجزيرة القطرية يوم الاثنين 26/07/2021، إن الشرطة التونسية اقتحمت مكتبها في العاصمة تونس وطردت جميع العاملين، وكتبت وكالة “رويترز” (يوم 26 تموز/يوليو 2021) أن مَشْيَخَة قَطَر – التي تدعم حركات الإخوان المسلمين، وفي مقدّمتها “النهضة- دعت جميع الأطراف في الأزمة السياسية التونسية إلى “إعلاء مصلحة الشعب التونسي وتغليب صوت الحكمة وتجنب التصعيد”، بعد أن أقال رئيس الجمهورية، يوم الأحد 25 تموز/يوليو 2021، الحكومة وجمد أعمال البرلمان، في ذكرى عيد الجمهورية (25/07/1957) وفي ذكرى اغتيال النّائب “محمد البراهمي” يوم 25 تموز/يوليو 2013، ونقلت وكالة الأنباء القطرية عن بيان لوزارة الخارجية إن قطر تأمل “أن تنتهج الأطراف التونسية طريق الحوار لتجاوز الأزمة وتثبيت دعائم دولة المؤسسات وتكريس حكم القانون في الجمهورية التونسية الشقيقة”، وكأن دُوَيْلَة قَطَر التي تحتل نِصْفَها قاعدة جوية بحرية أمريكية واحدة، دولة قائمة على القانون والمُؤسسات الديمقراطية. من جهتها، أعلنت ناطقة باسم الإتحاد الأوروبي “إن الإتحاد يتابع التطورات عن كثب، ويدعو الأطراف السياسية الفاعلة في تونس لاحترام الدستور ومؤسساته وسيادة القانون حفاظًا على استقرار البلاد، وتجنب الانزلاق إلى العنف…”، كما أعلنت الناطقة باسم البيت الأبيض (يوم 26/07/2021) “إن الولايات المتحدة قلقة إزاء التطورات التي تشهدها تونس، وتجري وزارة الخارجية الأمريكية اتصالات مستمرة بزعماء تونسيين، وتحث الجميع على الهدوء…”، مع الإشارة أن الولايات المتحدة لا تصف ما حدث بتونس ب”الإنقلاب”، فيما دعت الحكومة الفرنسية إلى “الإمتناع عن العنف، واحترام سيادة القانون في أسرع وقت ممكن…” بحسب وكالة الصحافة الفرنسية أ.ف.ب. 26/07/2021.
في الدّاخل، صرّح “راشد الغنوشي”، رئيس البرلمان، زعيم حزب الإخوان المسلمين، المُتضرر الأول من هذا “الإنقلاب الدّستوري”، لوسائل الإعلام، أمام مبنى مجلس النواب، يوم الإثنين 26 تموز/يوليو 2021، بأنه يُعارض “الإنقلاب”، وحاول أنصاره اقتحام مبنى البرلمان، لكن معارضيهم منعوهم من الاقتراب من المبنى، وحمّلوا حزب النهضة (من خلال شعاراتهم ويافطاتهم) مسؤولية الأزمة السياسية السائدة، منذ بداية سنة 2021، بحسب مراسل وكالة الصحافة الفرنسية، وأعلن راشد الغنوشي تنفيذ اعتصام داخل سيارة سوداء فارهة، قريبًا من المَبْنَى، لكنه انسحَب بعد فترة قصيرة، نظرًا لِضُعْف عدد أنصاره، الذين لم يستجِبْ سوى القليل منهم لدعوته إلى مُحاصَرة البرلمان.
أصبح بعض قادة الإخوان المسلمين يدلون بتصريحات مع رفض ذكر أسمائهم، ويُهدّدون بتنظيم مظاهرات حاشدة لأنصارهم، بحسب وكالة الصحافة الفرنسية و”رويترز” (26/07/2021).
نَدّد حلفاء النهضة وشركاؤها في الإئتلاف البرلماني والحكومي، ب”الإنقلاب”، وأهم هؤلاء الحُلفاء حزب “قلب تونس”، وهو حزب رجل إعلام ورأسمالي مُضارب، وقعت إدانته وسجنه في قضايا مالية وفساد، وحزب “ائتلاف الكرامة”، وهو فرع من “النهضة”، أكثر يمينِيّةً وأكثر عُنفًا من الأصْل، فيما أصدر حزب “التيار الديمقراطي” موقفًا “وِفاقِيًّا” انتهازيًّا، يمكن اعتباره “منزلة بين المَنْزِلَتَيْن”، أما حزب “حركة الشعب” فقد ساند قرارات الرئيس، معتبِرًا إيّاها “تصحيحا لمسار الثورة”، وفي صفوف اليسار، اعتبر “حزب العُمّال” ما أقدم عليه الرئيس سعيّد “خرقًا واضحًا للدّستور واحتكارًا لكل السّلطات… وإجراءات استثنائية مُعادية للديمقراطية… وتدشن مسار انقلاب باتجاه إعادة إرساء نظام الحكم الفردي المطلق من جديد”.
أصدر اتحاد نقابات الأُجَراء (الإتحاد العام التونسي للشغل” بيانًا يدعم ضمنيًّا قرارات الرئيس، لأنها اتُّخِذَتْ ” توقّيا من الخطر الداهم وسعيا إلى إرجاع السير العادي لدواليب الدولة وفي ظلّ تفشّي كوفيد”.
قبل إعلان قرارات الرئيس “قيس سعيّد”، دعت مجموعات (بعضها غير معروف) دعوات، عبر مواقع الإتصال “الإجتماعي” إلى التظاهر ضد سياسات حزب الإخوان المسلمين، بمناسبة عيد الجمهورية، يوم الأحد 25 تموز/يوليو 2021، وحصلت مظاهرات احتجاجية في العديد من مناطق البلاد، ضد السياسات الإقتصادية والصحية للسّلطة (التي يُهيمن عليها الإخوان المسلمون)، وطالب بعض المتظاهرين، في عدد من مناطق البلاد (قبل إعلان الرئيس) بحل البرلمان، لكن يعسر التّأكيد إن كانت هذه المظاهرات تُمثل استجابةً لهذه الدّعوات، أم لا…
رغم الإنتشار المُكثّف لفِرق الشّرطة، كتب مراسل وكالة الصحافة الفرنسية، عن أصوات أبواق السيّارات التي انطلقت يوم الأحد 25 تموز/يوليو 2021، في شوارع العاصمة تونس، ومناطق أخرى بعد إعلان قرارات الرئيس، وعلّل ذلك بأن هذه القرارات أتَتْ إثر احتجاجات في كثير من مدن البلاد، ومطالبة بعض المجموعات من المتظاهرين بحل البرلمان الذي “استخدمه الإخوان المسلمون وحلفاؤهم لخدمة مصالحهم، بشكل حَصْرِي، وترك البلاد في حالة شلل”…
اتفقت وكالات الأخبار (رويترز وأ.ف.ب وأسوشيتد برس ويونايتد برس إنترناشيونال، وغيرها) على تَعدّد المظاهرات التي تضم كل منها آلاف التونسيات والتونسيين، ضد قادة الإخوان المسلمين، وردّدَ المتظاهرون أمام مقر البرلمان شعارات معادية للحكومة التي تنفّذ مخططات “النهضة”، منها “الشعب يريد حل البرلمان”، و “تغيير النظام”، واستهدف المتظاهرون في مقَرّات حزب الإخوان المسلمين في العديد من مناطق البلاد، في ضواحي العاصمة وفي وسط البلاد (القيروان وسوسة ) وجنوبها (قفصة وتوزر)، وفي معظم المناطق التي ارتفعت بها حالات الإصابة بوباء “كوفيد 19″، وتعاني أزمة صحية ونقصًا في عبوات الأوكسجين، ما جعل البلاد في طليعة ترتيب معدّلات الوفيات في العالم، مقارنة بعدد السّكّان، أو ما 18 ألف حالة وفاة، وقع إحصاؤها رسميا، وهو عدد يقل بكثير عن العدد الحقيقي، من إجمالي عشرة ملايين يعيشون داخل البلاد، فيما يعيش ما لا يقل عن 1,5 مليون مواطن خارج البلاد…

ظروف وخلفيات الإنقلاب الدّستوري:

تزامنت خطوة رئيس الجمهورية مع ارتفاع غير مسبوق لحجم الدّيون الخارجية، مقارنة بالناتج المحلي الإجمالي، وبارتفاع حاد في حالات الإصابة بكوفيد-19 وارتفاع في أسعار السّلع والخَدَمات الأساسية، وارتفاع نِسَبِ الفَقْر والبطالة، وهي أوضاع تتعارض مع الجشع الكبير الذي أظهرته قيادات الإخوان المسلمين، من خلال نهب موارد الدّولة، بعنوان تعويض قيادات ومناضلي “النهضة” (الإتجاه الإسلامي سابق) على ما فات، وترجمة هذا “التّعويض” بالحصول على وظائف سامية، دون احترام معايير الإنتداب والتثبيت والتّرقيات، من مستوى دراسي ومؤهلات وخبرة وأَقْدَمِيّة، والحصول على مبالغ ضخمة من المال، بينما تعيش البلاد أزمة اقتصادية ومالية، وقد تعجز الدّولة قريبًا عن تسديد الدّيُون…
في مجال استكمال تركيز المُؤسسات الدّستورية، عطّلت “النهضة” المُهيمنة على البرلمان، ولعدة سنوات، تشكيل المحكمة الدّستورية، إلى أن احتدّت الخلافات مع الرّئيس قيس سعيّد، فحاول زعماء الإخوان المسلمين التّسريع بتشكيلها، لكن لم يتم إنجاز المشروع، ما جعل تونس تفتقر إلى مؤسسة دستورية تنظر في النزاعات بين مؤسسات الدّولة، وما أدّى إلى تضارب الآراء والتّأويلات بخصوص قانونية الإجراءات التي اتخذها الرئيس “قيس سعيد”، وهو مُدرِّس جامعي واختصاصي في القانون الدّستوري، وحول صلاحيات الرئيس أو رئيس الحكومة ورئيس البرلمان، وفق دستور سنة 2014، ويعتقد البعض أن للرئيس حق تأويل الدّستور، في غياب المحكمة الدّستورية…
قبل أشهر من “الإنقلاب الدّستوري”، وفي الذّكرى العاشرة لانتفاضة 2010/2011، انطلقت احتجاجات واسعة، شملت جميع مناطق البلاد، احتجاجًا على تدهور الوضع الإقتصادي وعلى ارتفاع الأسعار، كما أدّى ارتفاع عدد الإصابات وعدد ضحايا “كوفيد 19″، إلى انفجار موجة غضب، خلال الأسبوع الذي سبق أحداث عيد الجمهورية التي بدأت باحتجاجات تخللتها مهاجمة محلات ومكاتب حزب الإخوان المسلمين (النهضة) الحاكم، في مختلف أنحاء البلاد.
يُعتبر حزب الإخوان المسلمين القوة السياسية الأكثر تنظيمًا، بفعل الدّعم المالي الخارجي والمَحَلِّي القوي، وبفعل استخدام شبكة واسعة من المحلات التي تضم حوالي 22 ألف مسجد ومحلات تعليم القرآن وجمعيات دينية تأسست بعد سنة 2011، وتمكّن الإخوان المسلمون، بفضل هذه الشبكات وبفعل القمع الذي طاولهم خلال فترة حكم بورقيبة وبن علي، من شراء الأصوات ومن الفوز بأغلبية المقاعد في أول انتخابات حرة لنواب المجلس التأسيسي (تشرين الأول/اكتوبر 2011) ثم بالإنتخابات النّيابية سنة 2014، رغم تراجع الدّعم الجماهيري، وأظهرت السنوات العشر الماضية، افتقاد الإخوان المسلمين لبرنامج اقتصادي أو اجتماعي، وتمثل هدف حزبهم في اعتبار السلطة غنيمة يتقاسمها قادة الإخوان المسلمين الذين أظهروا قُدْرة فائقة في المناورة والتحالف مع أي قُوة سياسية تضمن لهم البقاء على رأس السلطة، فكان التحالف مع الزعماء التاريخيين لحزب الدستور الذي احتكَرَ السلطة من 1956 إلى نهاية 2010، ومع رجال الأعمال اللصوص والفاسدين، والتصويت على قانون عفو عن المتهمين بالفساد والإرتشاء والسرقة، قبل 2011 (وهو ما حَدث بمصر أيضًا بمبادرة من الإخوان المسلمين، قبل الإطاحة بهم، سنة 2013) وبَرّرَ “راشد الغنوشي” ذلك بضرورة “عدم الإقصاء، وحتواء جميع التونسيين، حتى من كانت لهم صلات بالنظام القديم”، لكن الإخوان المسلمين لم يتردّدوا في نشر العنف والإعتداء على خصومهم، واغتيالهم مع مماطلة حكوماتهم ووزرائهم في إماطة اللثام عن المجرمين الذين ينفذون عمليات الإغتيالات، وصدّر زُعماء “النّهضة” فائض العُنف إلى ليبيا والعراق وسوريا، وغيرها…
لا يزال حزب الإخوان المسلمين (النهضة) أقوى حزب بالبلاد، رغم انخفاض شعبيته في الشارع وفي صناديق الإقتراع (انتخابات سنة 2019)، خصوصًا مع تدهور الوضع الإقتصادي، وزيادة الأسعار وانخفاض قيمة العُمْلَة المحلية (الدّينار) وتدهور الخدمات، في تناقض صارخ مع الثراء الفاحش والسّريع لزعماء وكوادر النهضة، وتمكّن حزب “النهضة” من السيطرة على مفاصل الدّولة، وعلى أجهزة الأمن والقضاء والوظائف العُليا في السلطة، وتمكّن من ضَمِّ عدد كبير من مستشاري وطواقم الحزب الدّستوري الذي كان يحكم البلاد بمفرده من 1956 إلى نهاية 2010، نظرًا لخبرتهم في مجالات القمع والسّرقة والكذب والتّسَوُّل لدى الإتحاد الأوروبي…

تساؤلات مَشْرُوعة:

عندما ترشّح قيس سعيّد لمنصب رئاسة الجمهورية، لم يتم انتخابُهُ على أساس برنامج اقتصادي واجتماعي، بل كان مُحاولَةً لمُعادلة الكفّة مع “النّهضة” التي تغلغلت في جميع مفاصل الدّولة، وأظْهَرت أنها أسْوأ بكثير من حزب الدّستور (حزب بورقيبة وبن علي).
ساء وضع الفُقراء والكادحين والفئات الوسطى أو البرجوازية الصغيرة، منذ عشر سنوات – باستثناء حال عناصر مناضلي النهضة وأقاربهم- وازداد سُوءًا منذ 2019، تاريخ آخر انتخابات، رئاسية وبرلمانية وبلدية…
تُشكّل الإحتجاجات الشعبية (وليس التّهريج في مجلس النّوّاب أمام أجهزة التسجيل السمعي والبصري) مقياسًا لمشاغل “من هم تحت”، أي من هم في أسفل السُّلَّم الإجتماعي، وهم أغلبية المواطنين، وضمّت هذه الإحتجاجات، خلال السّنَتَيْن الماضِيَتَيْن فئات جديدة، مثل الأطبّاء والصّحافيين وصغار المُزارعين، وغيرهم، واتّسعت رقعة الإحتجاجات لتشمل كافة مناطق البلاد، ولتشمل مزيدًا من الشباب والنّساء… وقعت الإشارة في مقالات سابقة إلى تدهور الوضع الإقتصادي والإجتماعي، من ارتفاع الدّيون الخارجية وفائدتها (ما يُفقد الدّولة والبلاد هامش استقلالها) ومن ارتفاع الأسعار وانخفاض قيمة الدّينار ما يؤدّي إلى انخفاض قيمة الرواتب والدّخل، وزيادة أسعار السّلع والخدمات الأساسية، وإلى تعميق الفجوة الطبقية… أما بعد انتشار فيروس “كوفيد 19” فقد ظهر فَقْرُ المنظومة الصحّيّة (التي تمت خصخصتها منذ عقود) ما أدّى إلى ارتفاع نسبة المواطنين التونسيين الفقراء الذين يموتون ضحية نقص الأكسجين وعدم توفّر الوقاية أو العلاج، في مستشفيات عمومية تُعتبر بَهْوًا للمقابر، ما يُعَدُّ استهتارًا بحياة المواطنين.
لم يختلف برنامج الإخوان المسلمين، في أي مجال، عن سياسات حزب الدّستور التي سادت منذ 1956، بل أصبَحت التّبعية للإمبريالية والتّطبيع والإستغلال والإضطهاد وسرقة المال العام، وما إلى ذلك، مُبَرّرَة دينِيًّا، لأن أتباع النّهضة يعتبرون أن قيادات النهضة تُمثّل “ما أمر به الله”، وبالتالي لا يأتيهم الباطل لا من الأمام ولا من الخلف (لا من قبل ولا من بعد)، بل إن راشد الغنّوشي (وصحبه) سفير الإله وربما الناطق باسمه، وما ينطق به هو الحق ذاته… من جهته لم يكن منصب الرئيس يسمح بهامش من الحرية يُمكّنه من تعديل الكفّة، كما تَوهّم من انتخبوه، ولم يُعرف عن قيس سعيّد أي موقف أو ممارسة مُعارضة للهيمنة الإمبريالية، باستثناء بعض التصريحات الفضفاضة عن التطبيع، ولم يدّعِ أصلاً الدّفاع عن برنامج اقتصادي واجتماعي، أو تقديم حُلُول لمشاكل البلاد ولمشاغل المواطنين…
إن الأفراد (الغنوشي أو قيس سعيد أو رجال الأعمال الفاسدين ) يمثلون مصالح طبقات، ولئن أظهر الإخوان المسلمون أنهم يتحالفون مع أي قوة سياسية تُمكّنهم من البقاء في الحكم ونهب المال العام، وأنهم يشتركون مع القوى الرأسمالية المحلية أو الأجنبية في نهب ثروات البلاد، وأنهم لا يختلفون عن أي قوة قُوّة رجعية في بلدان المحيط، ويقتصر دورهم على تمثيل الشركات الأجنبية، وعلى دعم الإمبريالية في فلسطين وسوريا والعراق وليبيا واليمن، وغيرها…
يتعلّل الرئيس “قيس سعيد” بالدّستور وفُصُوله، لتبرير عملية الإنقلاب الدّستوري، فهل يُمثّل “قيس سعيد” مصالح الفئات الكادحة والفُقراء والمُهَمَّشين، أي نقيض الإخوان المسلمين؟
الجواب: لم يظْهر ذلك من خلال ما يقوله وما يفعله الرجل وأتباعُه من طلبته السابقين ومن زملائه، ويمكن الإستنتاج أنه لا يُمثّل مصالح الكادحين والفُقراء، بل إن الإغراق في الفقه الدّستوري يُبْعِدُهُ عن الواقع المادّي والحياة اليومية للكادحين والفُقراء، ما من شأنه تهميش بل ضياع مصالح أغلبية المواطنين.
إن تقييم عملية الإنقلاب الدّستوري يطرح بعض التساؤلات، منها:
لا يستطيع الرئيس قيْس سعَيّد والفئة التي تُناصره تجنيد جماهير غفيرة تدعم مشروعه، فهو شبه معزول جماهيريًّا، أما المتظاهرون الذي جابوا الشوارع وتجمّعوا في السّاحات، قبل وبعد الإنقلاب، فهم ليسو معه بل ضد سياسات الإخوان المسلمين، وبالتالي لا يُمكن لقيس سعيد أن يُنفّذ انقلابه الدّستوري، دون استشارة النظام الجزائري، الذي يُهدّده الإخوان المسلمون والمجموعات الإرْهابية من الشرق (تونس) ومن الجنوب (ليبيا والصحراء الكبرى)، وسبق أن هدّد وزير خارجية مشيخة قطر نظام الجزائر الذي اعترض على مشاركة الجامعة العربية في احتلال ليبيا، وتقف تركيا الأطلسية وراء الإخوان المسلمين، لتنفيذ مشاريعها القومية الشوفينية الخاصّة، بالإضافة إلى مشاركتها في أي عدوان تشنه الإمبريالية الأمريكية وحلف شمال الأطلسي.
لا يمكن لأي مجموعة أو فئة اجتماعية (خارج إطار القوى الثورية) أن تُنفّذ انقلابًا في تونس (أو البلدان المُماثلة) دون علم وموافقة الإمبريالية الأوروبية (الإتحاد الأوروبي، وفرنسا بخصوص تونس) والأمريكية، والمؤسّسات المالية المُقْرِضَة (الدائنين)، وهذا لا يعني أن الإخوان المسلمين غير مدعومين من الإمبريالية، بل يعني أن سياسات الإئتلاف الذي تقوده “النّهضة” وصلَ إلى طريق مسدود، ويمكن تلافي الإنفجار الشّعبي عبر افتعال تغيير شكْلِي، قد يُهدّئ الوضع لمدة سنة أو سنتَيْن…
قبل مُساندة أو مُعارضة الإنقلاب الدّستوري، وجب طرح بضعة أسئلة، منها: هل يهدف وهل يُؤدّي هذا الإنقلاب الدّستوري إلى تحقيق أهداف الإنتفاضة، على المستوى الوطني (إنهاء حالة التّبَعِيّة)، وعلى المستوى الطّبَقِي، وهل يمكنه تحقيق العدالة الإجتماعية بإرساء نظام جبائي أقل وطأةً على الفُقراء والأُجَراء، أو تحسين وضع الكادحين والفُقراء وتوظيف المُعَطّلين عن العمل، على مدى قصير، وهل يمكنه إرساء برنامج لتحويل اقتصاد الرّيع إلى اقتصاد مُنتِج، يدعم صغار الفلاحين والحرفيين وشركات الإنتاج المحلية الصغيرة (وليس الشركات التجارية أو وكيلة الشركات الاجنبية)، ويخفض حجم وقيمة الإستيراد والدّيون، وكيف يمكن الإنفاق على مثل هذه البرامج، مع تسديد الدّيون وفائدة الدّيون، وما هو مصدر هذه الأموال، وهل يمكن استبدال “الديمقراطية التمثيلية” بديمقراطية مباشرة، بمشاركةٍ أوسعَ للمواطنين، وإرساء آليات تنفيذ وإشراف شعبي للقرارات ولنتائج المُشاورات…
في المجال الإقتصادي، أصبحت مسألة الدّيون، إلى جانب عمليات النهب المُخَطّط والمُنظّم، تُهدّد الدّولة بالإفلاس، ما يفرض البحث عن حلٍّ عاجلٍ، يبدأ بتأجيل تسديد الدّيون وفوائدها، في انتظار إلغائها، لأنها تُعتبر، وفق تعريف الأمم المتحدة “ديونًا كريهة”، أي استفاد منها نظام الحكم وأتباعه من الفاسدين، ولم يستفد منها الشعب الكادح الذي يُسدّد قيمة هذه الدّيون، ووجب رَفْضُ تحميل تبعيتها للفئات التي لم تستفد منها، بل تضرّرت جرّاء تراكم الدّيون، وترتبط مسألة الدّيون الخارجية بتبعية دول “المحيط” لدول “المركز”، أي الدول الإمبريالية، وبوجود طبقة برجوازية كُمْبرادورية، تحكم البلاد، وتستفيد من رعاية مصالح الشركات والدّول الأجنبية الإمبريالية، فهل يمكن أن يُؤَدِّي الإنقلاب الدستوري إلى تغيير شكل وطبيعة الحكم، وإلى تغييرات جوهرية في علاقات الإنتاج وفي توزيع ثمرة الإنتاج؟
يبدو أن التغيير الذي قد يحصل (إن حَصَل) سوف يكون فَوْقِيًّا (عاموديا) وشكليا، ولا توجد أي مُؤشِّرات على حصول تغيير يتماشى مع ما كانت تطمح له جماهير انتفاضة 2010/2011، لذا لا يمكن مهادنة أي شخص أو فئة أو طبقة تستخدم مصالح الكادحين والفُقراء لتحقيق أغراض لا تخدم المُنتِجين والأُجَراء والمُعطّلين عن العمل والفُقراء، لكن ميزان القوى لا يزال يميل لمصلحة قوى الثورة المُضادّة، وياليته يصبح وضعًا مُؤقّتًا، ما يُحتّم إنشاء جبهة تقدّمية، تستفيد من أخطاء “الجبهة الشعبية” (2014 – 2019) تعمل على تقديم برنامج طموح وقابل للإنجاز، يخدم مصالح الأغلبية، أي الكادحين والمُنْتِجِين والأُجَراء والفُقراء والشباب والنّسوة، والمناطق المحرومة من الإستثمار والبُنية التّحتية…
في مجال العلاقات الدّولية، هل يُمكّن هذا الإنقلاب الدّستوري من فك التّبعية للإمبريالية، والإتجاه نحو تجريم التطبيع مع العدو الصهيوني، الذي قصف بلادنا (01 تشرين الأول/اكتوبر 1985) واغتال مُقاومين فلسطينيين وتونسيين على أرض وطننا، بمساعدة عُملاءَ محلِّيِّين، وتكثيف التعاون والتبادل التجاري (وهذا أَضْعَفُ الإيمان) مع الجزائر ومع البلدان العربية والبلدان الأخرى من روسيا والصين (مع التزام الحذر الشديد) إلى كوبا وفنزويلا، ودعم القوى المناهضة للإمبريالية، أو المُدافعة عن استقلال أوطانها، في البلدان العربية، بدءًا بفلسطين، وفي أمريكا الجنوبية وفي غيرها من مناطق إفريقيا وآسيا…
إن الجواب على مثل هذه التّساؤلات وغيرها، يحدّد الموقف من مثل هذا الإنقلاب وغيره، دون تباكي على “الديمقراطية” المفقودة، لأن الديمقراطية تعني حُكْم الأغلبية، أي الفُقراء والمُعطّلين عن العمل والأُجَراء وصغار المُزارعين والحِرفيين والمهنيين الذين يعيشون من عملهم، وليس من استغلال الآخرين…

 

كنعان