الأرشيفثقافة وفن

النحاس يدعم حرفة “المبيّض” في صراعها مع الزمن – نقولا طعمة

ما تزال حرفة “المبيّض” تقاوم طالما هناك وعاء نحاس ما انفكّت بعض البيوت، أو مشاغل الأطعمة والحلويات، تستخدمه؛ فالتبييض مرتبط ارتباطاً وثيقاً بالنحاس، لأن الغاية الوحيدة منه هي منع “أكسدة” النحاس القاتل.

والنحاس من أوائل المعادن التي اعتمدها الإنسان في التاريخ، وارتاح في استخدامه نظراً إلى مطواعيته في التصنيع، مع صلابة، وقدرة على الاحتمال في الوقت عينه، إضافة إلى اللمعان الأصفر الجذّاب له، بما يشبه الذهب.

مطواعية النحاس وصلابته أهّلته لأن يتّخذ أشكالاً سهلة التطبيق على صُنّاعه، فصنعت منه أوعية الطبخ المختلفة الأحجام والمتوسّطة والصغيرة، منها الصينية المستديرة، والصدر الأكبر حجماً، والسطيلة، والسطل، والدست الكبير، والحَلَّة الأضخم من الدست، والمقطرة المعروفة لدى العامة بـــ “الكركة”، وأدوات صغيرة الحجم كركوة القهوة مختلفة الأحجام والأشكال، وإبريق الشاي، إلى الملعقة، والشوكة؛ عصر مضى كل أدواته كانت نحاسية.

إلا أن مآسٍ كثيرة لا بدّ من أنها وقعت في حوادث مختلفة، قضى بها كثيرون قبل أن اكتشاف السميّة العالية لأوكسيد النحاس، أو “كريستالاته” الزرقاء، المعروفة بالزرنيخ، وهي قاتلة بكميات صغيرة جداً.

ولأنه لم يكن من بديل للنحاس الشائع الاستعمال والمرغوب، اخترعت طريقة طلائه من الداخل بمادة صلبة غير سامّة، قابلة لتحمّل حرارة عالية من دون أن تذوب بسهولة، فكان القصدير المستخدم للتلحيم هو هذه المادة.

أصل تسمية “المبيّض”

ترجع التسمية إلى كونها تغطّي وجه أوعية النحاس بطلاء أبيض لمّاع، فيصبح اللون أبيض فضيّاً وصانعه “مُبيّضاً”.

لا نستطيع القول إن المبيّضين ينقرضون، ولطالما كانت هناك صناعة نحاس، ترافقت مع حرفة التبييض التي ساكنت مشاغل النحاس، وتعايشت معها، أو قربها. لذلك، ما ينفكّ بلال الطرطوسي يمارس التبييض على أوعيته النحاسية، وأوعية أخرى لا يزال هناك من يقتنيها مفضّلاً لها على الستينلس، والتوتياء، – والأحدث- الأوعية المغطّاة بمواد بلاستيك كـــ “التيفال”.

في المراحل الأعتق، خصوصاً في الأرياف، كانت مهنة “المبيّض” واسعة الانتشار، و”المبيّضون” اعتادوا التجوال بين البلدات والقرى حيث لا يوجد “مبيّضون” لأن المهنة حِرَفِيّة، وتحتاج إلى خبرة ومهارة.

عدّة “المبيّض” متوسّطة الثقل والحضور، تتكوّن من ملقط غليظ قادر على تحمّل حرارة لهب النار، والمنفخ أو “الكور” لتأجيج النار، ومادة الفحم، ومواد التلحيم: القصدير، والنشادر، وماء التوتيا أي “الأسيد هيدروكلوريك” المخفّف، وأدوات بسيطة أخرى.

“المبيّض” لم يكن وحيداً في تجواله، فربما اعتمد على حمار في تنقّله ليحمل له عدّته، وربما جال معلّم منهم أو إثنان مع معاونين من صبية يافعين، يرافقون “المبيّض” لمساعدته ويتعلّم واحدهم حرفة المستقبل في حينه.

من المبيّضين العتاق، ثمة واحد ما انفكّ يتجوّل على البلدات والقرى، ينتظره الأهالي بشغف للحصول على حماية لأوعيتهم من السمّ القاتل “الزرنيخ”.

يبدأ المبيّض عمله على وجبة تبييض، بتحضير النار في حفرة صغيرة يدفن فيها الفحم، يزجّ فيها عنق الكور الطويل، ويحرّك الكور بيده مسبّباً صوت احتكاك أسنان فراشات داخلية، فتبدأ النار بالتأجّج.

تهدأ النيران بينما ينتقل المبيّض لتحضير الوعاء قيد التبييض، فينظّفه، ثم يضع فيه بعض الرمل المبلّل مع قماشة سميكة، ويثبته في الأرض بطرق خاصة قرب جدار، ثم يقف في داخله، ويثبت يديه على الجدار، ويحرّك رجليه في الوعاء في حركة فتل متوازية، يمنة ويسرة، بصورة متكرّرة، فتبدو خاصرته تهتزّ كما تهتزّ في الرقص؛ حركة فيها ضغط بالقدمين أقوى من استخدام الأيدي، فإذا أضيف إليها الرمل بفعاليّته الأقوى، أزيلت طبقات الوسخ المتراكمة في الوعاء.

الخطوة التالية تستهدف إزالة طبقة القصدير السابقة، وهي تحتاج إلى تسخين، فيلقط المبيّض الوعاء بملقط طويل القبضة، بيده اليسرى، وباليمنى، يمسك قبضة كبيرة من القطن السميك، يمسح بها الوعاء بمواد التنظيف، منها النشادر وماء التوتيا، إلى أن تزال الطبقة السابقة.

يعيد “المبيّض” الوعاء المنظّف إلى النار بواسطة الملقط، ويحرّك بيمناه قبضة الكور، فتبدأ النار بالتأجّج، ومتى اكتسب الوعاء حماوة عالية، يذوّب المبيّض بعض القصدير في الوعاء تحت تأثير النار الشديدة الحماوة، ويطلي به الوعاء، مستخدماً قبضة القطن الكبيرة، تسمح له بتوزيع القصدير المُسيّل، وتحميه من الاحتراق.

يكرّر “المبيّض” مسح وجه الوعاء تكراراً بالقصدير، إلى أن يصبح لمّاعاً كالفضّة، يبعث على البهجة، والطمأنينة، فيحيده جانباً لكي يبرد، متّجهاً إلى وعاء آخر يمرّره بالمراحل عينها.

يتلقّى “المبيّض” أجرته اليوم بالعملة الرائجة، لكن في السابق كان أصحاب البيوت يدفعون الأجرة بمنتوجات محلية مثل البرغل، والزيت، أو أية مادة يمكن أن يستفيد الإنسان منها.

فولكلور “المبيّض”

ترافقت حرفة “المبيّض” بشيء من الفولكلور، ابتدعه أطفال وصبية ذلك العصر، عندما كانوا يشاهدون المبيّض يقف بقدميه في الوعاء، ويتفتّل بداخله في حركة شبيهة بالرقص.

الأطفال يراقبون فرحين بحركة هزّ “المبيّض”، فينشدون له، و”المبيّض” يضحك لأهازيجهم وتصفيقاتهم على إيقاع حركته.

في عصر الشدائد، تترافق حرفة المبيّض بالجدّية، مطبوعة بطابع العمل، وضرورة إنجازه، لكن فولكلور “مبيّض” ذلك العصر البسيط كان مليئاً الفرح وراحة البال.

نقولا طعمة

محرر في الميادين نت

المصدر الميادين نت