الأرشيفعربي وعالمي

الانتخابات الرئاسية في فنزويلا…. العنف اليميني يقرع الأبواب اسحق أبو الوليد

 
في الواقع لا يمكن الحديث عن المرحلة الحالية التي تمر بها البلاد بمعزل عن عملية التغيير الثورية التي فجّر بداياتها وقادها القائد الراحل ” أوغو رافائيل تشافيز فرييا” ( الاسم الكامل).

هذه المرحلة بدأت من حركة التمرد الفاشلة في 4 شباط من العام 1992 التي قادها بنفسه للإطاحة بنظام ” كارلوس أندريس بيرس” اليميني التابع للامبريالية وخاصة الأمريكية، والذي ارتكب مجزرة دموية في 27 شباط من العام 1989 راح ضحيتها مئات المواطنين الذين خرجوا في مظاهرات عارمة رفضاً لإملاءات وشروط البنك الدولي وصندوق النقد.

هذه الاحتجاجات التي قمعها الجيش بوحشية منقطعة النظير تعاطف معه الضابط ” تشافيز” وشكّلت الحافز والسبب – كما قال – للتمرد العسكري، وساهمت أيضاً في تجذير وعيه السياسي اليساري الذي بدأ بالتشكّل منذ دخوله الكلية العسكرية.

بعد خروجه من السجن عام 1995 قاد نضال جماهيري واسع واستطاع أن يكسب دعم وتأييد قوى اليسار وكافة التقدميين الفنزويليين مكنه من الفوز في الانتخابات الرئاسية في كانون أول عام 1998، وحقيقة لم يكن في برنامجه الانتخابي أي ذكر لبناء ” المجتمع الاشتراكي” أو ” العداء للإمبريالية”، بل كان يطمح إلى بناء نظام يحقق العدالة والمساواة والأمن للمواطنين يقوم على الازدهار الاقتصادي والتوزيع العادل للثروة والقضاء على الفساد.

” جاءوني من كل حدبٍ وصوبٍ ليقدموا لي النصائح، كي أكون رئيس ناجح ومقبول، وعرضوا على مرشحيهم لتعيينهم مدراء للبنك المركزي أو وزراء للاقتصاد والمالية وغيرها من ذوي الخبرة حسب زعمهم – أي مرشحي البنك الدولي وصندوق النقد – تأملت في كل ما يدور من حولي وتبصرت ملياً في اقتراحاتهم فوجدت أنني إذا وافقت عليها سأكون رئيس شكلي وموظف لديهم، لأن الرؤساء الذين سبقوني كانوا هكذا، رفضت كل اقتراحاتهم بوعي، وكنت أعلم أن هذا يعني الصدام مع مراكز القوة الاقتصادية والمالية محلياً وإقليمياً ودولياً، الواجب الوطني والضمير والأخلاق يفرضا علينا أن نقبل التحدي، وهذا ما قررناه. هذا ساعدني أن أدرك بعمق أيضاً أن الوصول إلى الحكم لا يعني الاستيلاء على السلطة، التي يجب علينا أن نستولي عليها مهما كلف الثمن والتضحيات” هكذا لخص الرفيق الراحل القائد ” تشافيز” الصراع على السلطة وانقلاب 11 نيسان عام 2002، والذي لم يستمر أكثر من 48 ساعة ( أقصر انقلاب في التاريخ)، استطاع الشعب المنتفض بالاتحاد والتنسيق مع الحرس الجمهوري وكافة قطاعات الجيش التي استمرت في الولاء للقائد وللثورة أن تطيح بالانقلابيين المدعومين من الامبريالية والصهيونية، وأن تعيد الرئيس ” تشافيز” إلى القصر الجمهوري.

منذ تلك الفترة حتى الآن لم يتوقف الصراع السياسي على السلطة، بما فيها الصراع العنفي بين الحكومة التقدمية المعادية للإمبريالية من جهة وبين مراكز القوة المحلية والإقليمية التي ما زالت ترمي بكل ثقلها للتخلص من حكم اليسار وإعادة فنزويلا ” للحظيرة الأمريكية”، والتي استطاعت أن تلحق أضراراً فادحة بالاقتصاد الفنزويلي، وأن تزعزع بنيته التحتية، القديمة والمتخلفة المعتمدة أصلاً على شركات التجميع والتركيب من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي.

هذه الشركات، ولمزيد من الضغط، رحلت إلى دول أخرى من القارة في إطار حرب اقتصادية وحصار مالي وتهديد عسكري مباشر، بحجة أن فنزويلا ” تشكّل خطراً على الأمن القومي للولايات المتحدة” كما أعلن الرئيس السابق للولايات المتحدة “باراك أوباما” والتي على أساسها دعا وزير الخارجية الحالي ” تلرسن” الجيش للانقلاب على حكومة الرئيس ” نيكولاس مادوروا” ” لإنقاذ شعب فنزويلا من الدكتاتورية والمجاعة”.

إن ما زاد من تفاقم الأوضاع هو ضعف وهشاشة الجبهة الداخلية، التي لم تهيأ وتعبأ بشكلٍ كافٍ، يسمح بالتصدي لمخططات أعداء البلاد الداخلين والخارجين حيث أن الجماهير العادية والبسيطة وقوى سياسية يسارية غير مقتنعة بأن الحصار والإجراءات الامبريالية هي السبب الوحيد للأزمة والمأساة التي تمر بها البلاد لما تراه بالعين المجردة من تفاوت هائل في الدخل وتقاسم الثروة، وبسبب تجارب ذاتية تدلل على الانتشار الواسع للفساد والرشوة واستغلال النفوذ والسلطة وخاصة من قبل أفراد نافذين في المؤسسة العسكرية والقضائية.

إن جذر القضية يتمثل في تبني ” تشافيز” للاشتراكية، واعتبارها نقيض الأنظمة البربرية والنظام الرأسمالي المتوحش الذي وصل إلى مداياته النهائية معتبراً أن ” التوحش والحروب هي أعلى مراحل الامبريالية التي شكّلت كما وصفها لينين أعلى مراحل الرأسمالية”، وأن تحقيقها رغم صعوبته هو أنبل عمل ستقوم به البشرية في المستقبل، هذا الموقف وهذه السياسة وضعت فنزويلا في تناقض وصدام شامل مع الامبريالية وخاصة مع الإدارة الأمريكية التي لا تريد ولا ترغب ولا  تقبل أن يقوم نظام ناجح ومزدهر كبديل عن الرأسمالية، وخاصة في عقر دارها ومجالها ” الحيوي” الذي تصدع منذ انتصار واستمرار ونجاح الثورة الكوبية التي يقودها الحزب الشيوعي الكوبي، والتي تشكّل الحليف الأساسي لعملية التغيير الثورية الفنزويلية.

توافد على فنزويلا عشرات ” المفكرين” من أوروبا وغيرها لتقديم ” الاستشارات” للرئيس ” تشافيز” كي لا تعيد أو ترتكب فنزويلا أخطاء بناء الاشتراكية التي وقع بها الاتحاد السوفيتي ودول ” الاشتراكية الواقعية” الذين تعددت انتماءاتهم  الفكرية، ولكن التحريفية والاصلاحية والانتهازية تقدمت الصفوف، وخاصة التروتسكية، مما قاد إلى تشويهات فكرية وأخطاء عملية اقتصادية وتنظيمية تتعلق بعملية ” بناء اشتراكية القرن الواحد والعشرين” أودت بالفكرة وبالثورة، وخاصة بعد رحيل مفكر ومحرك وقائد الثورة ” تشافيز” الذي كان يملك طاقة ومقدرة هائلة على التطور الذاتي وتكييف الواقع بما يستجيب لمتطلبات التغيير والبناء.

هذا الوضع أثر على البنية الاقتصادية والاجتماعية للمجتمع الفنزويلي، الذي أخذ يعاني من نتائج وافرازات أقسى وأشد أزمة شاملة لم تشهد لها البلاد مثيل، نتج عنها نقص كبير في المواد الغذائية والطبية، والعديد من المواد الأولية الضرورية، وقطع الغيار التي يحتاجها القطاعين النفطي والصناعي، مما أدى إلى توقف العديد من الآليات ووسائط النقل، والأدهى فقدان الزيوت المعدنية من الأسواق وارتفاع سعر الموجود منها لأكثر من 3000 ضعف، في بلد يحتوي على أكبر مخزون نفطي في العالم.

في ظل هذه الأجواء وتحت ضغط الأزمة دعا رئيس الحكومة البوليفارية ” نيكولاس مادورو” المعارضة اليمينية المتمثلة ” بالطاولة الديمقراطية” (مود) إلى نبذ العنف وقبول حوار ” جدي ومسئول” ينطلق من المصلحة الوطنية ويهدف إلى خدمتها للخروج من الأزمة التي تعصف بالأمة. هذه الدعوة لقيت مؤيدين ومعارضين لدى الطرفين. القوى الأساسية في المعارضة اليمينية ( حزب الفعل الديمقراطي، والعدالة أولاً، والحزب الاجتماعي المسيحي، وحزب الزمن الحديث) استجابت – تكتيكياً-

للدعوة، واتفقت مع الحكومة على أجندة للحوار تتكون من ستة نقاط من أهمها: إعادة تشكيل المجلس الانتخابي، السجناء السياسيين، الانتخابات الرئاسية، الجمعية الوطنية التأسيسية أو الدستورية.

واتفق الطرفان أن يتم الحوار في جمهورية الدومينيكان برعاية رئيسها وإشراف كل من رئيس الوزراء الأسباني السابق ” سباتيرو” ووفود من كل من ( بوليفيا، تشيلي،

نيكاراغوا).
بعد أشهر من الحوار العلني والسري توصل الطرفان إلى مسودة اتفاق، كما صرح رئيس الوفد الحكومي الذي أعلن أيضاً أن الوفد الذي يترأسه جاهز للتوقيع على اتفاق نهائي يضمن التعايش السلمي بين الفرقاء ويحقق الأمان للشعب.

رئيس وفد المعارضة ” هوليو بورجس” نفى أن تكون المعارضة قد توصلت لأي اتفاق مع الوفد الحكومي وأن المسودة التي تحدث عنها رئيس وفد الحكومة ” خورهي رودريغز”، هي محضر افتراء.

هذا التضارب والتراشق بين الطرفين خلق حالة من البلبلة والقلق وألقى بغيوم سوداء وبظل ثقيل على المستقبل الذي ستجري فيه الانتخابات الرئاسية والتي تم الإعلان من قبل المجلس الانتخابي أنها ستجري بتاريخ 22 نيسان من هذا العام، أي التاريخ الذي اقترحه وفد المعارضة أثناء الحوار.

رغم ذلك طلبت المعارضة من الحكومة أن تعطي مزيداً من الوقت يسمج بإجراء ” الترتيبات القانونية الدستورية” للإعلان عن المرشحين وتسجيلهم، وهذا يعود للإرباك والتخبط الذي تعانيه أحزابها المختلفة والتي – لحد الآن – لم تجمع على مرشح وحيد ينافس مرشح اليسار الرئيس الحالي ” نيكولاس مادورو”، الذي تم ترشيحه بشكل جماعي من كل مكونات القطب الوطني الكبير ( بمثابة جبهة وطنية).

إن التعارضات القائمة في صفوف المعارضة بين مؤيد لخوض الانتخابات الرئاسية ومعارض لها، لأنه يعتقد أن لا فائدة من خوضها بسبب ” تحكم الحكومة بنتائجها مسبقاً” وعدم الثقة بالمجلس الانتخابي، يربك مراكز اتخاذ قراراتها الحاسمة ويفقدها عنصر المبادرة، كما حدث في مناسبات عديدة في الماضي، مما يضيف عناصر قوة إضافية لليسار وتكتيكاته، الذي سيذهب إلى الانتخابات سواء شاركت المعارضة رسمياً أو لم تشارك، كما صرح الرئيس ” مادورو” فور الإعلان عن ترشيحه.

في محاولة للتدخل في الشئون الداخلية لفنزويلا قام ” تيلرسون” بجولة في القارة وحرض الحكومات الصديقة للولايات المتحدة وخاصة في ( كولومبيا والبيرو) على حكومة فنزويلا، وعدم دعوتها لقمة ما يُسمى ” مجموعة البيرو” المكون من 14 دورة من القارة بما فيها الولايات المتحدة الأمريكية، بحجة أنها ” تنتهك أسس ومواثيق العمل الديمقراطي المعمول بها في القارة وكذلك حقوق الإنسان”، مما دفع الرئيس ” مادورو” للقول أنه سيذهب إلى الاجتماع في ” ليما” مهما كلف الأمر وبأية وسيلة كانت، وقدت ردت عليه الخارجية البروانية أنها ” ستعيده من حيث أتى إذا وصل إلى مطاراتها بدون دعوة رسمية”.

إنها معارك سياسية قاسية داخلية وخارجية فُرضت على الحكومة الفنزويلية وشعبها، تتزامن مع إعداد عصابات المرتزقة بإشراف ” الس آي ايه والموساد” الصهيوني لاستعمالها عند الضرورة القصوى – أي في حال عدم مشاركة المعارضة الفنزويلية في الانتخابات الرئاسية وفوز ” مادورو” من جديد الذي سيتهم بالتزوير – وهناك معلومات تقول بأن الإدارة الأمريكية تريد ضمان فوز مرشح المعارضة وإلا هي لا تشجع على المشاركة فيها، لهذا تشدد الحكومة اليسارية من قبضتها الأمنية وخاصة على الحدود وتراقب وتتابع حركات الخلايا النائمة حيث قبل شهر تقريباً تم تصفية أحد هذه الخلايا القيادية التي قيل أنها على صلة وثيقة بالموساد والتي كان يقودها الضابط السابق في المباحث ” أوسكار بيرس” الذي قصف بطائرة هيلوكوبتر في تموز من العام الماضي مقرات قصر العدل.

إنها انتخابات حاسمة وعلى كيفية إجرائها ونتائجها يتوقف مصير البلاد، ولا خيارات أمام الحكومة سوى إجرائها، لأن تأخيرها أو قبول شروط المعارضة- التي هي شروط الإدارة الأمريكية – يعني تهيئة الطريق إلى قصر الرئاسة أمام مرشحهم، وقد أكد الرئيس ” مادورو” أنهم إذا ازيحوا عن السلطة بطرق غير شرعية سيلجئون إلى الكفاح المسلح لاسترجاع السلطة”.

إن كلا الطرفين يقولان ” أن العنف أحد خياراته في حال خسارته الانتخابية، نعم العنف يقرع الأبواب وعلى الكل الاستعداد”.

المصدر: كنعان