الأخبار

أسعد أبو خليل – إرث فؤاد عجمي: فنّ احتقار الذات

إرث فؤاد عجمي: فنّ احتقار الذات

أسعد أبو خليل
 

لم أر عربيّاً من قبل يتلقّى الرثاء والنعي الأميركي الذي تلقّاه فؤاد عجمي بعد وفاته في كاليفورنيا قبل أيّام. شكّل ظاهرة بحدّ ذاتها مع أنّه كان مجهولاً من الجمهور العربي الواسع. لم يكن يكتب بالعربيّة (وعربيّته كانت متعثّرة) وإطلالاته كانت قليلة في الإعلام العربي باستثناء بعض محطّات آل سعود. كانت صحف أمراء آل سعود تترجم له مقالاته لكنه ظلّ مجهولاً في العالم العربي.

 

هو كتب للجمهور الأميركي وتوجّه نحوه بخشوع ولهذا كان من الصعب ترجمة كتاباته إلى العربيّة. وكتابه الأوّل «المحنة العربيّة» كان مبنيّاً على ترجمة وتلخيص لكتب ونقاشات دارت باللغة العربيّة، ما يضعف فائدة ترجمته. أما كتابه الثاني عن موسى الصدر بعنوان «الإمام المُختفي» فقد نشر من قبل دار نشر مملوكة من زوجة نبيه برّي الذي كتب مقدّمة الكتاب (وقد ساعد حسين الحسيني وابنه ومحمّد مطر (محامي آل الحريري و14 آذار) إضافة إلى صديق عجمي وأحمد الشلبي، المؤلّف في إعداد بحثه عن الصدر، كما أشار المؤلّف في المقدّمة).
لكن عجمي كان أكثر العرب شهرةً في أميركا، لكن هل كان عربيّاً حقّاً أم ان الصفة كانت تهمة شائنة بالنسبة له؟ زميله في «كليّة الدراسات الدوليّة المتقدّمة» في جامعة جونز هوبكنز مايكل مانلبوَم (صهيوني يكتب في العلاقات الدوليّة) أصاب عندما اعترض (في مقال له في مجلّة «ذا أميركان إنترست») على نعي «نيويورك تايمز» لعجمي، لأن الجريدة وصفت عجمي بـ«العربي». قال مندلبوم مُحقّاً: «تلك (أي الهويّة العربيّة) لم تكن أعمق وأغلى هويّة عنده. كان أوّلاً وأخيراً أميركيّاً». هذه هي المفارقة في حياة (وموت) فؤاد عجمي: جهد طيلة سنوات عمله هنا كي يُقبل كأميركي وتطرّف في جهوده إلى حدّ اعتناق الصهيونيّة الليكوديّة والمجاهرة بها (قد يكون أوّل عربي فعل ذلك في الغرب وإن كثر بعده المُقلّدون خصوصاً بعد غزو العراق في 1991)، لكنه في نهاية المطاف بقي عند الأميركيّين عربيّاً – عربيّاً حسن السلوك ومطيعاً لكنه عربي. هذا ما أحاول ان اشرحه لعرب يأتون إلى هنا ويتطرّفون في إنكار هويّتهم العربيّة في محاولات متنوّعة، بعضها مُضحك خصوصاً عندما يتحوّل عبد السميع إلى «سام»، ان الطمس الذاتي للهويّة العربيّة عبر اعتناق معاداة العرب لا ينجح. هي مثل اليهودي الذي كان يسعى في ألمانيا ان يطمس يهوديّته وانتهى في محرقة. (لم يسع عجمي إلى تغيير اسمه لأن الدور الذي رسمه لنفسه احتاج إلى اسم عربي كي يُقبل كـ«واحد منهم يقول لنا ما يقوله الرجل الأبيض عنهم» – هذه هي خلاصة دور عجمي.

 

بالغت المراثي عن فؤاد عجمي في أميركا في الثناء عليه لكن المبالغة تلك لم تفعل إلا ان تؤكّد ان موقع الرجل هو سياسي وليس أكاديمياً أو فكرياً. مدير «مؤسّسة هوفر» (وهي من أكثر المراكز الفكريّة رجعيّة وقد تأسّست لمحاربة الشيوعيّة وتحوي مكتبتها على تراث نفيس من المطبوعات العربيّة الشيوعيّة وكانت تعدّ كتاباً سنويّاً عن وضع الشيوعيّة حول العالم) وصفه بأنه «ألمع أكاديمي مُتخصّص في الشرق الأوسط في زمننا». الوصف تردّد في ما كتبت الصحف عنه. مذيع «سي. إن. إن» (والذي حكمتُ عليه بعد أن أجرى مقابلة معي قبل سنوات أن علاقته بالإعلام الرصين لا تختلف عن علاقة جو معلوف) أندرسون كوبر أثنى على قدراته الذهنيّة (مثل ان يثني سعد الحريري على مهارة هيغل الفلسفيّة). أما الصحافي الإسرائيلي، وولف بليتزر، وكان تلميذاً سابقاً لعجمي، فكاد ان يبكي على الهواء. نعاه بحرقة بول وولفويتز وتذكّر انه كان عميد الكليّة التي كان عجمي يدرسّ فيها، حيث انتقاه كي يكون الخبير الصهيوني المُفضّل أثناء التحضير لغزو العراق. مجلّة «كومنتري» الليكوديّة قرّرت أنه «بطل عربي»، إذ بات الصهاينة يقرّرون من هم الأبطال بيننا. ألم يقرّر الصهاينة ان أنور السادات هو خير العرب والمسلمين؟ كاتب في صحيفة «هآرتز» وصفه بـ«صديق إسرائيل»، وكان مصيباً في وصفه. السيناتور الليكودي (ليس صدفة ان كل شلّة أصدقاء عجمي ومُروّجيه، هم من الليكود) جون ماكين، أصدر بياناً خاصاً للعزاء ووصف عجمي بصديقه الذي كان يعطيه المشورة.
كان الصهاينة شديدي الإعجاب بعجمي، كيف لا وهو أوّل عربي يحضر حفل جمع تبرّعات لدولة إسرائيل وجيشها واحتلالها؟ كيف لا وهو الذي كان يسخر من كل القضايا التي كانت ولا تزال تشغل معظم العرب الذين لا يقطنون في حظائر النفط والغاز والكاز؟ كان مجرّد نقد عجمي بالنسبة إليهم أمراً غير مقبول. دانييل بايبس في مراجعة لكتاب «قصر أحلام العرب» (وهو تكرار مملّ لكتابه الأوّل) اتهمني بأنني عيّرته وذلك لأنني في مراجعة لكتاب عجمي عن الصدر وصفته بـ«النيواستشراقي» (حيث تتلاقى فرضيّات الاستشراق التقليدي مع صناعة دراسة الإرهاب)، وتبع بايبس آخرون إذ اتهموني (بناء على السند نفسه) بأنني «اعتديت لفظيّاً» على عجمي مع أنني لم ألتقِ بالرجل يوماً (تتبيّن هنا أسلوب 14 آذار حيث يصبح كل نقد عند هؤلاء أدعياء حريّة التعبير موازياً لـ«الإغتيال الفكري والمعنوي» وذلك في محاولة لتحصين أنفسهم ضد أي نوع من النقد – الحيل الصهيونيّة هي نفسها).
لقد كتبتُ عن عجمي وتاريخه من قبل في «الأخبار»، لكن يجب أن يوضع دوره في سياق الدور المُتغيّر للعرب الأميركيّين. إن عجمي هو الجواب الصهيوني على إدوار سعيد، لكن شتّان بين الاثنيْن. لقد احتل سعيد موقعاً أكاديميّاً مرموقاً بالرغم من مواقفه السياسيّة التي أزعجت السلطات الثقافيّة والإعلاميّة السائدة، أما عجمي فلم يحتلّ موقعاً أكاديميّاً أو فكريّاً مرموقاً بالرغم من مواقفه السياسيّة التي راقت للسلطات السائدة. ولا ننسى ان عجمي ترقّى وتقدّم في المؤسّسة النافذة بسب علاقاته وسياساته وليس بسبب إنتاجه الذي ظلّ محصوراً في نطاق أهل الإعلام والنخب الصهيونيّة المؤثّرة. وصل عجمي إلى جامعة برنستن رغم أن جامعات النخبة لا تقبل من لا يحمل شهادات من جامعات نخبويّة (تخرّج عجمي من جامعة شرق أوريغن وجامعة ولاية واشنطن في سيتل). حظي في جامعة برنستن برعاية الصهاينة من أمثال برنارد لويس لكنهم فشلوا في الحصول على مركز ثابت له، فانتقل إلى «كليّة الدراسات الدوليّة المتقدّمة» في جامعة جون هوبكنز، وهي كليّة تتصف بالقليل من الأكاديميّة وهي تدرّب غالباً موظّفين في السلك الخارجي وإعلاميّين من حول العالم. والأستاذ الذي سعى عجمي لخلافته، مجيد خدّوري المتخصّص بالقانون الدولي الإسلامي، لم يكن يريد عجمي في المنصب وسعى إلى إحلال اللبناني إيلي سالم مكانه (وكان سالم تلميذ خدّوري قبل سنوات). لكن الصهاينة ضغطوا من أجل تثبيت عجمي هناك. لكن عدم رضى خدّوري عنه برز عام 2007 عندما أقامت الجامعة حفل عزاء تكريمي لخدّوري بعد وفاته ورفضت ان تدعو عجمي (الذي كانت كرسيّه تحمل اسم خدوّري).
أرادت الصهيونيّة ان تستعمل عجمي ضد سعيد، تماماً مثلما دعا الصهاينة في جامعة برنستن نفسها (والتي تتصف دائرة دراسات الشرق الأوسط فيها بالصهيونيّة أكثر من أي مثيلاتها في الجامعات الأميركيّة الأخرى – وهذا يفسّر المرارة التي تركتها في نفس فيليب حتّي الذي رفض ان يمنح مكتبة الجامعة مكتبته الخاصّة فذهبت إلى جامعة منيسوتا) في التسعينيات صادق جلال العظم لعلمِهم بالخلاف العميق بين الرجليْن. عندما تتجول في أنحاء مكتبة «بلاكويل» الشهيرة في مدينة أوكسفورد تقع على قسم خاص بالمكتبة اسمه «سعيد» وهو يختص بنتاج سعيد الفكري وما كُتب عنه. لا يحتل عجمي موقعاً مماثلاً وهو ليس معتبراً في أي من فروع العلوم الاجتماعيّة في أميركا مع أنه يحتلّ موقعاً سياسيّاً وإعلاميّا مرموقاً، وهو قبل أي شيء آخر ظاهرة إعلاميّة صهيونيّة.
سعيد ظاهرة فكريّة فرضت نفسها على الإعلام والثقافة السائدة، فيما أن عجمي هو ظاهرة إعلاميّة تسرّبت إلى بعض الجامعات. لا يمكن ان تهرب في الدراسات العليا في العلوم الاجتماعيّة والإنسانيّات من كتابيْ «الاستشراق» و«الثقافة والإمبرياليّة» لسعيد فيما لا يتطرّق أحد في الدراسات العليا إلى فؤاد عجمي، إلا في صفوف عتاة الصهاينة الذين يريدون ضخّ ثقافة عنصريّة ضد العرب بلسان شبه عربي. سعيد خرّج أجيالاً من الأكاديميّين والأكاديميّات في جامعات مختلفة حول العالم وأشرف على عدد كبير من الأطروحات، فيما لا يذكر أحدهم اسم أستاذ جامعي تخرّج بإشراف عجمي (على عكس مجيد خدّوري الذي أشرف على أطروحات كثيرين – لا أعرف عن أحد تخرّج على يد عجمي في الدكتوراه إلا النائب اللبناني فريد الياس الخازن). كان تلاميذ عجمي يشكون لي دوماً انه يأتي إلى الصف من دون تحضير ويدعو واحداً من أصدقائه في الإعلام الغربي إلى إلقاء محاضرة أشبه بالدردشة في الصف.
ليس عجمي ظاهرة استثنائيّة أو فريدة: هو ظاهرة أميركيّة وليدة الصهيونيّة الأميركيّة. إن كل المسار الوظيفي والسياسي لعجمي مدين بمُرشده غير الروحي المستشرق برنارد لويس. وخلافاً لعجمي، يملك لويس معرفة واسعة بالتاريخ الإسلامي والعربي (رغم مقاصده الخبيثه وتشويهاته المُغرضة في كتاباته وانحيازه ضد العرب في كل ما يكتب) وهو متمكّن من عدد من اللغات الشرقيّة والغربيّة (على طريقة الاستشراق التقليدي المُنقرض). ليست هناك فكرة واحدة عن العالم العربي يمكن ان تصفها بالمبتكرة أو الجديدة عند عجمي. تراجع كل كتابات عجمي تجد انها مجموعة متراكمة من الخواطر والإنشائيّات والاقتراحات السياسيّة (في العقد الأخير من عمره). لا يمثّل عجمي كما يمثّل لويس مدرسة في دراسة الشرق الأوسط أو في تحليل التاريخ الإسلامي أو العربي. عجمي مُقلّد لا مُبتكر. تعرّف عجمي على لويس في جامعة برنستون وثبت لويس على تأييده وعلى تعريفه على صانعي القرار في واشنطن (كما أن لويس هذا هو الذي أخذ أحمد الشلبي تحت جناحه وعرّفه على صانعي القرار في واشنطن في أوائل التسعينات). إن فهم دور لويس القوي هو المقدّمة لفهم دور التابع عجمي. ولقد كان لويس وصحبه من عصبة الصهاينة في واشنطن وراء إطلاق حملة في إدارة بوش من أجل تعيين عجمي مساعداً لوزير الخارجيّة لشؤون «الدبلوماسيّة العاميّة» (وهي المصطلح الدعائي الأميركي لكلمة بروباغندا عندما تكون خاصّة بها).
يمكن فهم ظاهرة عجمي هنا مثل ظاهرة اعتماد «فوكس نيوز» في أميركا على سود جمهوريّين محافظين: تريد المحطّة ان تعثر وتُبرز سوداً يقولون ما يريد الرجل الأبيض سماعه، لكن من أناس سود لإضفاء مصداقيّة على العنصريّة البيضاء. أو هي مثل السعي الحثيث في الجهاز الإعلامي السعودي – الحريري للعثور على شيعي مقبول كي يردّد ببغائيّاً الدعايّة الطائفيّة ضد الشيعة من أفواه شيعة: وكم فُتحت من دكاكين وتنظيمات وهميّة منذ اغتيال الحريري كي تنجح تجربة مواجهة حزب الله بشيعة الوهّابيّة. هذه هي ظاهرة فؤاد عجمي بالتحديد: عثر على عربي يستطيع ان يتفوّه بعنصريّة ضد العرب وبأسلوب أخّاذ وبصفاقة وطلاقة بارزة.
أذكر في الثمانينيات ان غسّان تويني قال أمامي على هامش مؤتمر في واشنطن ان الحلقات الدبلوماسيّة في نيويورك كانت تدعوه إلى حفل عشاء وتضيف: وفؤاد (في إشارة إلى عجمي) سيكون هناك. تساءل عن سبب هذا الاحتفاء المُبالغ فيه به. لكن عجمي «لقطة»: هو عثور بالغ الأهميّة لجهاز الدعاية الصهيوني في أميركا. وليس هناك من حدود لعنصريّة عجمي في الحديث أو لتعميماته السطحيّة الإسقاطيّة عن كل العرب وعن كل المسلمين. هذا رجل وصف الثقافة العربيّة بـ«ثقافة الإرهاب» وتحدّث عن وحشيّة العرب والمسلمين وعن «غرائزيّة – أو رجعيّة إلى زمان سحيق في السلوك»، كي تكون الترجمة للكلمة الإنكليزيّة أدقّ. ولا يهمّ ان تنبؤات عجمي باءت كلّها بالفشل. هذا رجل تنبّأ في الثمانينيات قبل سنة واحدة من اندلاع الانتفاضة الفلسطينيّة ان الشأن الفلسطيني لم يعد ذا بال، وان أميركا تستطيع ان تهمل الصراع العربي – الإسرائيلي. هذا رجل استشهد به ريتشارد تشيني قبل غزو العراق لأنه قال إن العرب سيستقبلون الجيوش الأميركيّة بـ«بالبهجة». هذا رجل التقى مع نوري المالكي قبل بضعة أعوام وأثنى عليه لكنه في آخر مقالة له قبل أسبوعيْن حمّله (مع أوباما) المسؤوليّة عن كل مشاكل العراق.
زاد مقلّدو عجمي في الغرب وتكاثروا وتوالدوا. لم تعد المنافسة قائمة. قلتُ لواحد منهم يوماً (اللبناني ماريوس ديب، الذي نعتني بأنني «إرهابي لحزب الله»: أنتَ لا تتمتّع بطلاقة وفصاحة عجمي، فكفَّ عن محاولة التقليد، لن تنجح. لم يعد العربي الصهيوني (والعربيّة الصهيونيّة) عملة نادرة في الغرب خصوصاً أن الصهيونيّة باتت عقيدة مُعتنقة عند بعض العرب في الدول العربيّة. أسماء مختلفة نبتت بعد 11 أيلول: وليد فارس ووفاء سلطان وبرجيت غبرايل وماريوس ديب ووليد شوباط وغيرهم كثيرون. لكن الوفرة تخفّف من الأهميّة لأن العملة لم تكن نادرة والعرض بات يفوق الطلب. بعضهم يطلّ وبإنكليزيّة متعثّرة ليذم العرب ويناصر العدوّ الإسرائيلي.
وفن احتقار الذات (العربيّة) الذي أتقنه عجمي يتسرّب إلى الثقافة العربيّة. تجد في صحف الممانعة من يذمّ بـ«العربان» وكأننا كلّنا لا نتحدّر من رعاة الإبل وكأننا من سلالات الـ»بوربون» كي نسخر من ساكني الصحارى، وهناك في صف الوهّابيّة المقابل من يستشهد بأمثال تذمّ بالعرب من نوع «العرب جرب» أو أن «العرب ظاهرة صوتيّة». إن العنصريّة تحكم كل تلك الأمثال والتعابير. وهناك ما هو أخطر: ينتشر بين الجيل الجديد على «فايسبوك» عادة ذميمة تكمن في اختلاق أقوال في ذم العرب (من نوع «العرب لا يقرأون» أو ان «العرب أمة نائمة» أو خاملة) وينسبونها إلى غولدا مائير أو موشي دايان. أنا أخمّن ان مصدر العنصريّة تلك هو صهيوني غير بريء – وأنا كما تعلمون وتعلمن من أنصار نظريّة المؤامرة وهي تهدف إلى زرع الاحتقار الذاتي بين الشبيبة. وكيف يقبل العربي أو العربيّة بالاستشهاد بأقوال ضد العرب من أعدائهم؟ أوتظنّون ان العدوّ يختلق أقوالاً ضدّه ويعزوها إلى قادة عرب؟ هذه عادة ذميمة.
يتذكّر الرفيق نوبار هوفسبيان عجمي من سنوات الدراسة في جامعة ولاية واشنطن في سياتل. خلافاً لما يُروى، لم يكن عجمي لا يساريّاً ولا متحمّساً يوماً. كان مناصراً عن بعيد وبحذر للقضايا العربيّة. لكنه كان بعيداً من أجواء الاحتجاج أو رفع الصوت فيما كانت أجواء العرب الأميركيّين تغلي آنذاك. وعندما تشكّلت جمعيّة العرب الأميركيّين الجامعيّين، والتي ضمّت كل الأساتذة العرب الجامعيّين وطلاّب الدراسات العليا، بقي عجمي بعيداً منها. الصديق ممتاز أحمد، رئيس الجامعة الإسلاميّة العالميّة، يتذكّر عجمي من الثمانينيات. يقول إنه كان يوافق على طروحات سعيد في «الاستشراق» ويستشهد بها لكنه تغيّر أثناء الاجتياح الإسرائيلي عام 1982. بدأت مسيرة الصهيونيّة واحتقار الذات العلني. منحته مكانة في أوساط الصهيونيّة النافذة. وقد عدتُ هذا الأسبوع لكتابات عجمي الأولى في أوائل السبعينيات عندما كان قد أنهى أطروحته للدكتوراه في مدينة سياتل، ولا تجد أبداً نفساً قوميّاً عروبيّاً أو يساريّاً. على العكس: كان عجمي منذ تخرّجه حذراً جدّاً في التعابير السياسيّة ويختطّ لنفسه مساراً سياسياً متصالحاً مع الصهيونيّة (راجع مثلاً مقالة «أشباح الشرق الأوسط» في مجلة «فورين بوليسي» في ربيع 1974 وقرّع فيها العرب لعدم قبولهم بإسرائيل، وراجع مقالة عجمي «إسرائيل وأفريقيا السوداء» في مجلّة «أفريكان ستديز ريفيو» في ديسمبر 1970). صحيح ان إدوار سعيد كان صديقاً لعجمي حتى منتصف الثمانينيات لكن سعيد لم يتجذّر وينحو ضد التسوية المّذلّة مع العدوّ إلا في أواخر الثمانينيات وبعد أوسلو تحديداً، كما ان الذي يعرف سعيد يعرف ان عوامل تحديده لصداقاته كانت أحياناً شخصيّة وليست سياسيّة (مثل صداقته مع سمير خلف، مثلاً، أي أن سعيد كان أحياناً يصادق من هو بعيد منه سياسيّاً ويعادي من هو قريب منه سياسيّاً – مثل الأكاديمي إعجاز أحمد). تقرّب عجمي من الصهاينة بالتدريج إلى ان كشف عن شخصيّته السريّة الليكوديّة في الثمانينيات.
لم تحظ وفاة عجمي بتغطية تُذكر في الصحافة العربيّة. وحدها جريدة «الشرق الأوسط» نشرت مرثيّة عاطفيّة عنه (ونقلها موقع «القوّات اللبنانيّة»)، كما نشر تركي الدخيل مقالة عنه في «عكاظ»، وقال إنه كان «منضوياً ضمن القضايا العربيّة». موقع «إيلاف» (وهو بات مزيج من السوقيّة الجنسيّة والترويج لآل سعود) نشر بكائيّة ممزوجة بهجاء لمنتقدي عجمي. طبعاً، جريدة «النهار» تزهو بأي لبناني يحظى بتغطية في الإعلام العالمي حتى لو كان مداناً بإدارة شبكة رقيق أبيض في مدينة نيس. وموقع «الجزيرة» الإنكليزي» نشر مرثيّة عنه من قبل باحث في… «مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلاميّة» وقال إنه كان «متعاطفاً مع العرب». وهناك استاذ لبناني نشر رثاء عن عجمي في جريدة «جيروزالم بوست»، وهي خير منبر لتكريم عجمي وأمثاله.
كسر عجمي حاجزاً ثقافيّاً مثل ما كسر أنور السادات حاجزاً سياسيّاً. لم تعد الصهيونيّة سبّة عند العرب في الغرب، أو حتى عند العرب القابعين في مضارب النفط والغاز. صار اعتناق الصهيونيّة (خصوصاً في الغرب) وسيلة وصول ووصوليّة عند بعض الطموحين. والصهيونيّة تحتاج لعدد محدود من العرب الأدوات، ولهذا هي تلفظ الكثير من المتقدّمين بطلبات انضواء. لكن إرث عجمي لم يمت معه: ستذكره الصهيونيّة الغربيّة كما تذكر أنور السادات. وسيتبرّع متموّلون يهود لإنشاء مراكز وكراسي جامعيّة باسم فؤاد عجمي (كما فعلوا باسم أنور السادات).
كيف يتحوّل عربي إلى ناكر لجلدته وكاره لذاته ومُتملّق لأعدائه؟ هذا موضوع يحتاج لدراسة نفسيّة لا سياسيّة. لم يكتب عجمي سيرته الذاتيّة والكلام عن تحوّلاته المزعومة يبقى في نطاق التكهّنات. لكن عجمي كان ظاهرة تستحق التوقّف عنها. عام 1990، عندما كان جورج بوش الأب يتحضّر لشنّ حرب ضد العراق، استدعى إلى مكتبه في البيت الأبيض أربع خبراء عن العالم العربي (وعرفتُ اثنتان منهم). روت لي واحدة ما حدث: قالت ما إن دخل عجمي إلى المكتب حتى بدأ بحماسة يدعو إلى شن الحرب ويزايد على بوش في الانحياز للعمل العسكري إلى درجة ان بوش طلب منه ان يتيح المجال للآخرين للتحدّث. لم تكن تبدر عن عجمي حماسة واندفاع إلا عندما كان يدعو إلى شن حروب ضد العرب. هذا رجل كان يتلذّذ بإهانة المشاعر العربيّة طمعاً بمزيد من الرضى الصهيوني. حاز من الرضى الصهيوني فوق ما كان يريد. مات عَلَماً من أعلام الرجل الأبيض. سجِّل أنه كان صهيونيّاً.
* كاتب عربي (موقعه على الإنترنت:
angryarab.blogspot.com)

اترك تعليقاً