الأرشيفوقفة عز

حكاية “العزابية” في مخيم عين الحلوة – نضال حمد

هل تتذكرون وتتذكرن الشقيقان الأعزبان ولقبهما بالمخيم “العزابية” سكنا في مخيم عين الحلوة بعد نكبة فلسطين وعاشا فيه حتى مماتهما؟

على فكرة كانوا ثلاثة أشخاص “عزابية” بالمخيم وهم من منطقتين مختلفتين في فلسطين. إثنان منهم إخوة وهما سليمان والحاج حسين ربما كانا من عائلة عبد الرازق في سبسطية بفلسطين المحتلة. أما بلدتهما سبسطية فهي فلسطينية تاريخية وأثرية. بحسب البعض في المخيم لالم يكن يوجد في مخيم عين الحلوة لاجئين من سبسطية غيرهما في لبنان. أما الشخص العزابي الثالث فهو دياب العزابي وهو من قرية عين غزال، التي لجأ معظم سكانها الى العراق وسوريا.

في مخيم عين الحلوة كانت بداية رحلة ما بعد النكبة للشقيقين الأعزبين، حيث إستقرا في غرفة صغيرة على رأس مدخل سوق الخضار بالمخيم. عاشا فيها وبقيا هناك حتى مماتهما لا أدري في أي سنة.

أذكرهما منذ طفولتي حيث كنت أراهما كلما مررت من السوق باتجاه بيتنا أو باتجاه مدرستنا. وأذكر لباسهما الفلسطيني الشعبي والتقليدي، القمباز الأبيض والطاقية البيضاء التي توحي بأن لابسها من الحجاج أو الختايرة من كبار السن. لازال عالقاً في مخيلتي مشهد الحاج حسين وهو يحمل إبريق الوضوء البلاستيكي بيده ويتجه للوضوء تم للصلاة في الغرفة التي كانت هي الصالون وغرفة النوم والمطبخ للشقيقين وكنا في المخيم نسمي مثل هذه الغرف “الخُشِة”.

منذ بدأت أكتب سيرة بعض شخصيات طفولتي ونشأتي في المخيم كان موضوع “العزابية”، هكذا كنا نسميهما بالعامية المخيمية، دائم الحضور وعلى سلم أولوياتي الكتابية. رغبت كثيراً أن أكتب عنهما، لكنني لم أكن أملك معلومات كافية للبدء بالموضوع. لذا وضعته على قائمة الانتظار.

بعد فترة سألت عنهم الأخ صالح العلي المقيم في المغرب فقال لي أن شقيقه دياب في السويد ربما لديه معلومات كافية. لكن قبل أن أجري اتصالاتي بالأخ دياب، الذي تبين لي فيما بعد أنه موسوعة مخيمية، بذاكرة حية وقوية، بالرغم من أنه غادر مخيم عين الحلوة سنة 1974. كتب لي شقيقي جمال من المخيم طالباً مني أن أكتب عن العزابية فأخبرته أنني بصدد القيام بذلك.

أما الأخ دياب ففي معرض حديثه لي عن العزابية قال:

الحاج حسين أدى فريضة الحج في العهد العثماني ومشياً على الأقدام حيث كان معظم ضيوف الرحمن يفضلون المشي الى أرض الحرمين كي يكسبوا ثواباً أكبر. فالحاج حسين كان متديناً جداً أما شقيقه سليمان فكان مسلماً عادياً. حاولت أن أتواصل مع أحد المعمرين أو الموثقين من سبسطيه ولكن دون جدوى. السبب هو إعتقادي أنهما من أصل بوسني والله أعلم. أضاف دياب العلي: “قد يكون جدهما جاء مع أحمد باشا الجزار، الذي أصبح والياً على عكا والذي استطاع مع أهالي عكا من هزيمة نابليون شر هزيمة وحينها أقر نابليون بفشله في غزو المشرق العربي والاسلامي”.

علمت أيضاً من بعض الأصدقاء في مخيم عين الحلوة أن “العزابية”، أنهما كانا يتلقيان صدقات ومساعدات من أهالي المخيم وبالذات من الجيران. الذين كانوا يشعرون ا وبأنهما وحيدين وبلا معيل وستات بيت، فكانوا يقدمون لهما طعاماً مما يطبخون وشراباً مما يشربون. لذا عاشا حياتهما دون أن يشعرا بالوحدة أو الجوع. فكل مطابخ الجيران كانت مطابخهما.

يقول العزيز دياب العلي” لقد كان سليمان رحمه الله مولعاً بتربية القطط وبلبس الخواتم الفضية حيث كان له خاتم في كل أصبع”.

أما أنا فأقول أن هذا الشيء كان ربما ناتجاً عن عدم وجود أطفال وأبناء لهما، فكانا يتسليان مع القطط وينعمان بالراحة والاطمئنان معها. هذا مجرد اعتقاد مني أنا الذي كنت أرى تلك القطط أمام منزلهما في طفولتي وبداية صباي.

بحكم الجيرة وقرب البيوت من بعضها فقد كان بعض الجيران وسكان المخيم من الكبار والشباب يسهرون يومياً عند العزابية. من هؤلاء طبعاً محدثنا الأخ دياب العلي الذي كان يسهر هناك… وعن ذلك قال لي: ” كانت السهره في بيتهما من أجمل السهرات حيث الهدوء والصفاء وراحة النفس والبال. كما وكان الشاي مشروبهما المفضل، يقدمانه للضيوف حيث كان حينها أناس طيبون، بسطاء، يقومون بزيارتهما كل مساء وبشكل يومي تقريبا. مثل ابراهيم الأعرج (أطلق عليه لقب الأعرج حيث فقد رجله في  تفجير للارهابيين الصهاينة في مدينة حيفا عندما كان في العاشرة من العمر)… من الضيوف والساهرين أيضا كان هناك الحاج أبو غانم البني من بلدة السميرية ومجموعة من جيل الشباب الصغار حيث كان بعضنا يتفاءل بهما”.

كل الذين كانوا يقطنون في منطقة سوق الخضار من جهة الشارع الفوقاني كانوا يعرفون العزابية خير المعرفة بحكم الجوار. أما بقية أهل المخيم فكانوا يعرفونهما لأنهما كانا وحيدين وبلا أهل وعائلة وعشيرة وحمولة بالمخيم. وبقيا يسكنان في نفس الغرفة في المخيم حتى توفيا. لم أعد أعرف منذ غزو لبنان صيف سنة 1982 أية أخبار عنهما.

في معرض حديثه قال دياب العلي:

” في ليلة امتحان البكالوريا قضيت السهرة عندهما وأحضرت إبريقاً من الشاي من صنع والدي رحمه الله والذي كان يمتلك مقهى قريب منهما. أذكر أن أحد الضيوف سألني مستنكراً: غدا امتحانات البكالوريا أليس من الأفضل أن تراجع بعض المواد بدل السهرة هنا؟…غضب سليمان من الضيف وقال له: أنت مش عارف حالك مع مين عم تحكي، أنت عم تحكي مع ولد شاطر، قبضاي وسينجح غصب عنك… وأنا دعوت له وسأدعو له في صلاتي، بكره بتشوف لما تطلع النتائج. فيما بعد رويت ما حصل لوالدي فضحك وأستبشر خيرا. ثم كان من نصيب الشقيقن الأعزبين سليمان والحاج حسين هدية على قد الحال.

توفي الشقيقان في وقت كان فيه معظم أبناء جيلنا والأكبر منا قليلا قد انتشروا في دنيا الله الواسعة بحثاً عن لقمة العيش ومساعدة الأهل. هكذا قال لي دياب العلي الذي عبر عن حزنه لعدم تمكنه من وداعهما. لكنه أكد لي بأن الناس الطيبون في مخيمنا قاموا بالواجب. على رأسهم المرحوم أبو فاروق عمر الأسدي والخال أبو خالد علي الصالح وثلة من رجال المخيم الأفاضل.

هذه كانت حكاية الشقيقان سليمان وحسين الأعزبان واللذان أطلق عليهم في المخيم لقب “العزابية”. أما العزابي الثالث فهو دياب العزابي من بلدة عين غزال بفلسطين المحتلة. وسوف نتحدث عنه في الحلقة القادمة.

 

إعداد وتقرير موقع الصفصاف – وقفة عز

نضال حمد في 17-10-2021