الأرشيفوقفة عز

محل الوالد أبو جمال حمد الحلقة الثالثة – ذكريات وحكايات من مخيم عين الحلوة

اعداد نضال حمد وموقع الصفصاف

بعد اغلاق المحل على الشارع الفوقاني عاد والدي للعمل من جديد في الإنروا فبقي لعدة سنوات حارساً لمدرسة رافيديا للبنات (هي ومدرسة نابلس في نفس المكان) في مدينة صيدا، وهي مدرسة للفتيات الفلسطينيات المقيمات مع عائلاتهن في صيدا وضواحيها وأحياءها. كنت ساعدته في البيع في الدكان بالمدرسة اثناء الفُرص بين الدروس واستمر ذلك لفترة من الزمن. فعلت ذلك لأنني ببساطة كنت معجباً بفتاة من المدرسة وكنت أحب كجيلي حباً عذرياً. كنت كما أبناء جيلي من الصبية المراهقين أحب بنفس الوقت أكثر من فتاة. ربما أن الفتيات بغالبيتهن كن يشعرن أو كن لا يشعرن بمشاعري اتجاههن، فمنهن من لم يلتفتن الى ذاك الفتى الحالم. على كلٍ فلنسمهِ حباً صبيانياً يعني من بعيد لبعيد. فقد كنت أبدي إعجابي الصبياني بفتيات مختلفات. تلك كانت سنوات المراهقة الطفولية والصبيانية… كم كانت بريئة وجميلة تلك المرحلة من عمري.

والدي الثاقب النظرة واللبيب الذي من الإشارة كان يفهم، فهم فورا مقاصدي وتبدلي وحرصي على مساعدته في عمله بالمدرسة. فقد جرب سابقاً معي كل الطرق لاقناعي بسماع ما يريده ويخططه لي، لكنني لم ألتزم ولو مرة واحدة بما أراده لي. (بصراحة مش عارف كيف بقي متحملني كل تلك السنين فقد كنت فتىً لا أطاق)… لأنني لم أسمعه ولم أعمل بنصائحه ولم أعرها انتباهي… وكنت في بعض الأحيان غبياً في تصرفاتي وأنانياً. لم أفكر به ولو مرة واحدة وهو الذي كان يفكر بي ليلاً ونهارا. لقد كنت أعيش في عالمي الصبياني الذي كنت أراه مثالياً، كما كنت أسبح في بحيرة الأحلام الثورية بعيداً عن مَصَبِ الأمنيات والأحلام الأبوية والعائلية.

محل والدي في المخيم كان قريباً نوعاً ما من حارتنا وكان يفصل بينه وبين بيتنا وزاروب حارتنا بستان اليهودي ومسافة مشي قصيرة على الشارع الفوقاني. كان مجاوراً لعيادة الأونروا التي تعالج فيها كل سكان المخيم وكُنا نسميها “الحِكمة”. كان موقع المحل أو المقهى أو النادي الصغير جداً معروفاً وجذاباً لكل من عرفه من الشباب والشبيبة، حيث تتوسطه طاولات البلياردو والبيبي فوت وعلى الجوانب ماكينات الفليبرز الحديثة. مع توفر مشروبات باردة وساخنة وسكاكر والخ…

يقول الصديق يونس شحادة الخطيب – أبو شادي- بالنسبة للفليبرز في المحل فقد كان يتنافس عليها المتنافسون، حيث كُنا نتنافس على الاستمتاع بهذه الآلة الكهربائية الممتعة. كذلك على تسجيل الأرقام والنقاط (السالدو) فمن يسجل الرقم الأعلى يكون هو الفائز والبطل الأول”.

كان الكثير من رواد المحل في سنوات السبيعنيات من جيل أبو شادي الخطيب وأخي جمال حمد والخ.  فقد كان الكثير من جيلهم وبالأخص الشباب، شباب الحارات القريبة والملاصقة للمحل.

في هذا يقول أبو شادي الخطيب: “كان بعض الرواد من عائلة الخطيب من بلدة الملاحة. كذلك الأصدقاء المختلفين من أهل الصفصاف وأهل سعسع وأهل طيطبا وأهل عرب الزبيد وأهل عكبرا… والعديد من أهالي المخيم من مختلف قرى فلسطين التي لم نذكرها هنا. حيث كان الجميع يجتمع في هذا المكان الجاذب لقضاء أوقات التسلية والترفيه. ففي ذلك الوقت لم يكن في المخيم، الكثير مثل هذا المحل. لذلك كان مقصداً ومتنفساً للشباب، في ذاك الزمن الجميل. كما كان حضور والدك المرحوم أبو جمال حمد، يزيد رونقاً على المكان.”.

كان والدي اثناء عمله في المحل المذكور يصنع البوظة العربية في بيتنا بالمخيم وتعاونه في ذلك والدتي. كنا نحن أولاده نشاهد ذلك ونتذوق البوظة بعد أن تقدمها لنا الوالدة، فقد كان ممنوعاً علينا أن نقترب من الأوعية التي كانت تحفظ البوظة فيها.

لقد كان والدي بالنسبة لي انسان يعرف كل شيء ويمكنه العمل في أي شيء. كان يقوم بنفسه بتصليح ماكينات الفليبرز حين تتعطل أو يصيبها خراب ما. في البداية كان يتسعين بشخص يقوم باصلاحها ثم عَلم نفسه بنفسه وصار هو يقوم بالتصليحات اللازمة عند الضرورة.

عندما سافرت الى بولندا وأقمت فيها وشاهدت كيف أن غالبية البولنديين يمكنهم القيام بأعمال عديدة ويشتغلون في كل شيء تقريباً، كنت أفكر بين يوبين نفسي معقول هؤلاء تعلموا كل هذه الأشغال. كما هناك مثل شعبي بولندي ” – بولاك بو ترافي – ” معناه بالعربية كالتالي: “البولندي بإمكانه عمل أي شيء”. يومها قلت للبولنديين لستم وحدكم تستطيعون، فوالدي أيضاً قام ويقوم بأعمال كثيرة واشتغل في مهن عديدة وكثيرة.

ربما مات والدي منزعجاً من نجليه، مني أنا ومن أخي، لأننا لم نكن مثله ضالعين بكل الأشغال والأعمال. فقد كان يريدنا أن نكون مثله وعلى الطريقة البولندية. يعني أن نعرف إصلاح أي شيء وفك وتركيب وعمل وشغل شغلات كثيرة والخ. للأسف فلغاية اليوم لسنا كذلك يا أبتي. لكننا نستطيع القيام بأشياء أخرى كثيرة ومثيرة للإعجاب. فمن المهم بمكان أن نكون صالحين وصادقين وطيبين وأصحاب مبادئ وانتماء. وأهم شيء محبة الناس واحترامهم وسمعة الانسان لأنها يجب أن تكون صافية كما الكريستال. أما محلك الذي لازال على الشارع الفوقاني في مكانه سيبقى شاهداً على عصرك وعصر جيلك وجيل الشباب من مخيمنا.

يتبع

اعداد نضال حمد وموقع الصفصاف

12-12-2021