من هنا وهناك

سوريا والمقاومة أعادانا للتاريخ – الجزء الثاني – د. راضي الشعيبي

 

ليس هدفنا في هذا المقال الطويل سرد التاريخ، فليس هناك وقت ولا مُتَّسع. بل نريد تذكير أولئك الذين يجهلون التاريخ، فإن كانوا لا يعرفون شيئاً عن ماضيهم، فمن المستحيل أن يعملوا أو يحققوا شيئأ لحاضر ومستقبل أوطانهم ورفاهية وأمن وسلامة شعوبهم، أو قدرة الدفاع عن الحقوق المسلوبة. “فمن التاريخ تُستخلص العبر”.

جدير بالذكر قبل أن نتطرق إلى فردوسنا المسلوب المحتل – فلسطين العربية – التي تمثل مجد الأمة العربية والإسلامية وعزتها وكرامتها، الإشارة إلى أعداء أمتنا التقليديين على مدى حقبات التاريخ الماضي والمعاصر وربما المستقبل، وأن نشير بصراحة ووضوح للعملاء والأجراء الخونة الذين باعوا ضمائرهم من أجل السلطة والجاه والمنفعة وتحقيق مصالح ذاتية ومالية.

على الكاتب والمفكر والشاعر والمثقف والمعلم والإعلامي أن يكون حراً طليقاً لا يتبع إلا لمبادئه الوطنية والقومية والعقائدية، وأن يكون صادقاً مع ذاته ومِصداقاً يسرد الحقيقة دون جُبن أو خوف أو مجاملة، وأن لا يتناغم مع الأنظمة الديكتاتورية الفاسدة ومُسايرتها، لئلا يحولوه إلى كاتب مرتزق يُدوّن ما يُملى عليه، وألا يكون طبلاً أو بوقاً لهذا أو ذاك. وألا يكون إمَّعة وأن لا يَتَزلَّف إلى الحكام، وألا يكون مشحوناً بالتعصب المذهبي الطائفي والإقليمي البغيض. قال عمر رضي الله عنه: “رحم الله اِمرئاً أهدى إليَّ عيوبي”، والمقولة الشهيرة أعطني صحافة وأقلاماً حرة، أعطيك حكماً صالحاً.

إن مركز الكاتب والإعلامي والمفكر والمثقف هو قيادي وريادي وتنويري. إن حرية الأقلام والإعلام تضمن لنا منع التسلل الفكري والثقافي الأجنبي العدائي واللاأخلاقي إلى حظيرة الوطن، وهم السور الحصين الذي يحمي أنظمة الحكم الثورية والوطنية.

الكل مُلم وعالم بالجريمة النكراء التي اقترفتها بريطانيا العجوز، والتي تُعتبر اليوم ذنب الولايات المتحدة المافوية بحق وطننا وشعبنا، يوم كانت إمبراطوية عظمى. ولكن قلة ضئيلة جداً تعلم مواقف فرنسا الاستعمارية العدوانية العنصرية ودورها الرئيسي في إقامة دولة الكيان الصهيونية اليهودية العنصرية على أرض فلسطين التاريخية، فردوسنا المفقود، إلى تزويدها بأسلحة الدمار الشامل والعلوم النووية الخفية لبناء ترسانتها الحربية النووية.

كانت طموحات الجنرال الثوري التي تداعب نابليون بونابارت عالية السقف لتحقيق الحلم الذي كان يرواد ويداعب لويس الرابع عشر بمد جغرافية الإمبراطورية الفرنسية إلى أبعد الحدود، حتى لو أدى ذلك إلى صدام مسلح مع الإمبراطورية البريطانية، ومن أجل تحقيق ذلك قام بحملته على مصر التي كانت تستهدف غرضين: أولهما احتلال مصر لتكون نقطة انطلاق للزحف منها إلى بلاد الشام، وبوجه خاص فلسطين، مستخدماً شعار “الحرب خدعة”. إنه كان يحمل رسالتين: الأولى خاصة بمصر وشعبها، مُدَّعياً أنه الصديق الحميم والوفي لخليفة المسلمين العثماني وإنه يحرص على الدفاع عن سلطنته التي يتطلع إليها المماليك في الداخل والمسيحيون في الخارج. وادَّعى بأنه اعتنق الإسلام، وعندما توجه إلى الزحف نحو الشام عابراً إليها من فلسطين، أوقف جيوشه عند أسوار عكا ويافا والقدس وأخرج من محفظته الرسالة الثانية، وهي اليهودية التي كانت نداءً منه إلى اليهود العالم أجمع، وفحواها:

من نابليون بونابارت، القائد الأعلى للقوات المسلحة للجمهورية الفرنسية في إفريقيا وآسيا إلى ورثة فلسطين الشرعيين:

أيها الإسرائليون، أيها الشعب الفريد الذي لم تستطع قوى الفتح والطغيان أن تسلبه نسبه ووجوده القومي، وإن كانت قد سلبته أرض الأجداد فقط.

إن مراقبي مصائر الشعوب الواعين المحايدين، وإن لم تكن لهم مقدرة الأنبياء مثل أشعياء ويوئيل، قد أدركوا ما تنبأ هؤلاء بإيمانه الرفيع أن عبيد الله (كلمة إسرائيل في اللغة العبرية تعني أسير الله أو عبد الله)، سيعودون إلى صهيون وهم ينشدون، وسوف تعمهم السعادة حين يستعيدون مملكتهم دون خوف.

انهضوا بقوة أيها المشردون في التّيه، إن أمامكم حرباً مُهَوِّلة، يخوضها شعبكم بعد أن اعتبر أعداؤه أن أرضه التي ورثها عن الأجداد غنيمة تُقسم بينهم حسب أهوائهم… لا بد من نسيان ذلك العار الذي أوقعكم تحت نير العبودية، وذلك الخِزي الذي شل إرادتكم لألفَيْ سنة. إن الظروف لم تكن تسمح بإعلان مطالبكم أو التعبير عنها، بل إن هذه الظروف أرغمتكم بالقسر على التخلي عن حقكم، ولهذا فإن فرنسا تُقدم لكم يدها الآن حاملة إرث إسرائيل. وهي تفعل ذلك في هذا الوقت بالذات وبالرغم من شواهد اليأس والعجز.

إن الجيش الذي أرسلتني العناية الإلهية به ويسير بالنصر أمامه وبالعدل وراءه قد اختار القدس مقراً لقيادته، وخلال بضعة أيام سينتقل إلى دمشق المجاورة التي استهانت طويلاً بمدينة داوود وأذلتها.

يا ورثة فلسطين الشرعيين…

إن الأمة الفرنسية التي تتاجر بالرجال والأوطان كما فعل غيرها تدعوكم إلى إرثكم بضمانها وتأييدها ضد كل الدخلاء.

اِنهضوا وأظهِروا أن قوة الطغاة القاهرة لم تُخمد شجاعة أحفاد هؤلاء الأبطال، الذين كان تحالفهم الأخوي شرفاً لإسبرطة وروما، وأن معاملة العبيد التي طالت ألفَيْ سنة لم تفلح في قتل هذه الشجاعة.

سارعوا! إن هذه هي اللحظة المناسبة التي قد لا تكرر لآلاف السنين للمطالبة باستعادة حقوقكم ومكانتكم بين شعوب العالم، تلك الحقوق التي سُلبت منكم لآلاف السنين وهو وجودكم السياسي كأمة بين الأمم. فحقكم الطبيعي المطلق في عبادة إلهكم يهواه، طبقاً لعقيدتكم، وافعلوا ذلك في العلن، وافعلوه إلى الأبد.

    هذه لمحة موجزة عن دلائل الحقد والكره الفرنسي التاريخي للأمة العربية والإسلامية، واستعمارها البغيض التصفوي الذي يقوم على أُسس إلغاء الهوية واللغة والعادات والتقاليد والثقافة وحتى الأكلات الشعبية للشعوب التي تستعمرها، وإعدام القيادات الوطنية والفكرية إلى القتل الجماعي لكل المناضلين الشرفاء الذين يقفون في وجه احتلالها واستعمارها وسياستها العنصرية واستغلال خيراتها وثرواتها كما فعلت في الجزائر العربي العظيم. وبالأمس القريب في ليبيا العربية، ومشاركة ساركوزي في إعطاء الضوء الأخضر لقتل معمر القذافي وهو بين أيدي آسريه من الأجراء والعملاء. وما تقوم به اليوم من حماية لدولة الكيان الصهيوني ودعمها في جميع الأروقة السياسية الدولية، وإمدادها بالسلاح المتطور والمشورة والمعلومات الاستخبارية، والتآمر جهراً وسراً على سوريا العروبة المقاوِمة ودعمها للمتصهينين الفاسدين والمجرمين والتكفيريين الظلاميين. أصبحت قبلة الخونة من الحكام والزعامات السياسية المفبركة واليمينية التقليدية والطائفية والمذهبية الوهابية، والمسيحية المتصهينة. إنها الدولة العدائية التي تشارك أيضاً في إخفاء جريمة قتل الشهيد الرئيس ياسر عرفات مما يجعل من المستحيل كشف العصابة الإجرامية التي نفذت مخطط شارون والموساد. في أي طرف يقف محمود عباس والشرذمة التي تحيط به!!!؟

    ما زالت تتوالى علينا المؤامرات، كل واحدة أشد مكراً وكَيْداً من الأخرى، وأخذت تتوالد كل يوم في مستنقعات الفساد والإفساد والفجور، مئات الحشرات البشرية الموبوءة بالخيانة والعمالة مما سهل للقيادات السياسة الصهيونية والعسكرية تجذير الاحتلال وزيادة سيطرته على مساحات واسعة وشاسعة من الأراضي الفلسطينية، وبناء المستوطنات بالعشرات وتهويد القدس وحصارها بحزام من المستوطنات والمستوطنين أمام بصر وسمع عباس وزمرته وعلى رأسهم صائب الخائب.

    كشفت لنا أحداث ما سماه ائتلاف التآمر الصهيوأمريكي الأوروبي الخليجي العرباني “الربيع العربي”، والذي قام بالتخطيط له والتنسيق لإثارته والإشراف على نجاحه، بل والمشاركة فيه، الصهيوني المخضرم اليهودي برنارد ليفي، أن الوعي العربي في غيبوبة وغياب مفجع. والأمر الأخطر من ذلك أظهر لنا العدوان الإسرائيلي الصهيوني اليهودي على غزة بهدف تصفية المقاومة العربية الفلسطينية والإسلامية، ونخص بالذكر الجهاد الإسلامي وكتائب القسام أن كثيراً من الأنظمة العربية العضوة في نادي التخاذل الجامع لها أعطت دعماً هاماً وتأييداً سياسياً للعدوان الإسرائيلي الوحشي البربري التدميري، وتسجل هذه السابقة للهوان العربي من جديد المواقف الخيانية الجبانة للحكام الذي نزعوا عنهم ثوب العروبة والإسلام وأعلنوا براءتهم من الهوية العربية والعقيدة الإسلامية الربانية الرحمانية وبدأوا يُظهرون علناً وسراً تطرفهم وعداوتهم للثقافة العربية والإسلامية أكثر بكثير من أعدائها التاريخيين.

    لم يجرؤ عباس عرّاب المفاوضات مع الصهاينة اليهود المحتلين منذ عام 1970 حتى اليوم على زيارة قطاع غزة الصمود، وهي المدينة التي حوته بعد النزوح من صفد، للاطلاع على الأقل على ما أحدثه أصدقاؤه الصهاينة على مدى السنين من التدمير والقتل وسيول الدم والدموع. من المؤكد أن ذلك يعود إلى جبنه وخشيته من رجال المقاومة الأشاوس لملاحقته لإخوتهم ورفاقم في المقاومة بالضفة الغربية، والتنسيق الأمني والقمعي مع الموساد لقتلهم أو أسرهم. أو بسبب خوفه من شعبنا الصامد المقاوم الرافض لمفاوضاته مع العدو والذي قَزَّمه وهمشه واستخفه وتهكَّم عليه وأهانه وخدعه، وأدار له ظهره، معيداً إلى الأذهان مسرحية علي بابا والأربعين حرامي، لأنه يتحكم في أرزاق من يعارضه ولا يوافقه، وكأن الأموال الممنوحة هي وقف عليه وعلى أولاده وزمرته، رافعاً راية أسياده “فرق تسد”. فقد أطال رحلة العذاب لشعبنا الصامد واصطف إلى جانب أعداء العروبة في محور الشر ومع العربان الغربان. أعمته وحجبت عنه الرؤيا صورة الدولار التي ارتسمت على كلا شبكية عينيه. لقد سلك عباس ومعه عريقات والشرذمة العميلة شعاب متعرجة مظلمة في رحلة مأساوية تمَّت على مرحلتين: الأولى قبل أوسلو والتي ركزت على اغتيال وتصفية جميع القيادات الوطنية المناضلة والمقاومة للاحتلال، وبالتخصيص الفتحاوية العروبية العظيمة والخالدة، التي كانت متمسكة بالثوابت الوطنية الفلسطينية وبالميثاق الوطني لمنظمة التحرير، والتي أطلقت الرصاصة الأولى لانطلاق ثورة التحرير. كل هذا كان تمهيداً وتعبيداً للطريق من أجل الوصول إلى أوسلو.

    من هي الفئة المجرمة التي تعاونت وخططت مع الموساد لاغتيالهم وأسر آخرين من القادة!!!؟  نترك ذلك للمقطع القادم.

 

                                د. راضي الشعيبي

 

  • قال الكاتب والصحفي الكبير الأستاذ محمد حسنين هيكل: الاهتمام بالسياسة فكراً أم عملاً، يقتضي قراءة التناريخ أولاً، لأن الذين لا يعرفون ما حدث قبل أن يولدوا محكوم عليهم أن يظلوا أطفالاً طول عمرهم.

اترك تعليقاً