من هنا وهناك

من يصدّق؟! انظروا، فهذه هي غزة! – بقلم د. أيوب عثمان

من يصدّق؟! انظروا، فهذه هي غزة! –   بقلم د. أيوب عثمان

 

  من يصدق أن هذه هي غزّة؟! من يصدّق أن هذه الصامدة الممانعة والمهاجمة معاً في آن ولثلاثة عشر يوماً- حتى اللحظة- هي غزة… غزة الضعيفة المستضعفة…غزّة الصغيرة الفقيرة… غزة المحاصرة في برها وبحرها وجوها؟! من يصدّق أن غزّة هذه التي رغم محاصرتها من البحر والبر والجو هي ذاتها التي تُقصف على مدار الساعة جواً وبحراً وبراً لليوم الثالث عشر، ودون هوادة؟! من يصدق أن هذه هي غزّة التي عاشت ثلاث حروب شنتها دولة الاحتلال العسكري الإسرائيلي أقل من ست سنوات، فيما لم تصمد أقوى الجيوش العربية ستة أيام؟! من يصدّق أن غزّة التي صمدت  لواحد وعشرين يوماً في الحرب التي أسمتها دولة الاحتلال “حرب الرصاص المصبوب”، عام 2008/2009، هي ذاتها غزّة التي أوصلت صواريخها في الحرب التي أسمتها “عمود السحاب”، عام 2012، إلى مسافة 80 كيلومتراً في عمق دولة الاحتلال، فدكّت قلبه في تل أبيب؟! ومن يصدّق أن غزة التي طوت صواريخها 80 كيلومتراً في حرب “عمود السحاب”، عام 2012، هي غزة التي تطوي صواريخها الآن 160 كيلومتراً في عمق الكيان الصهيوني، وهي غزّة التي لم تترك بُعداً ولا مكاناً ولا مستوطنة ولا مدينة إلا ودكّتها دكّاً بصواريخها التي جعلت هذا الكيان العاتي المغتصب والمستنطع يهرول كله بقادته وسادته وساسته إلى الملاجئ والمخابئ؟! من يصدّق أن هذه هي غزّة التي طور شعبها المقاوم مقاومته التي اقتحمت سماء دولة الاحتلال العسكري الإسرائيلي بطائرة “أبابيل” ذات النسخ الثلاث منها الاستطلاعية والهجومية القاذفة والهجومية الانتحارية؟! من يصدّق أن حلم قطاع غزّة قد جسدته مقاومته الباسلة إلى حقيقة، فاستحالت طائرة الاستطلاع الفلسطينية التي انطلقت من- ثم عادت إلى- غزّة المحاصرة الفلسطينية من حلم فلسطيني إلى حقيقة قائمة تمثّل كابوساً فلسطينياً يقضّ مضاجع دولة الاحتلال العسكري الصهيوني؟!

  من يصدّق أن غزّة الصغيرة الفقيرة الضعيفة المستضعفة تواجه بمقاومتها جيشاً وصفوه بأنه لا يقهر فقهرته غزّة الصغيرة المحاصرة في ثلاثة حروب في أقل من ست سنوات: أما في الحرب الأولى 2008/2009، فقهرته بصمودها وبدماء شهدائها، وفي الحرب الثانية 2012، قهرته بصواريخها التي دكّت قلب كيانه على مدى 80 كيلومتراً، أما في الحرب الثالثة 2014 والمستمرة، حتى اللحظة، دون أن يعرف أحد متى تضع أوزارها، فقد قهرته بصواريخها التي طال مداها 160 كيلومتراً في  عمق كيانه، كما قهرته بما هو أكثر بطائراته- التي وإن أُسقط بعضها، فإن بعضها قد عاد إلى حيث انطلق عوداً حميداً مظفراً، ناهيك عن عمليات التسلل الإبداعية من خلف خطوط هذا الجيش الذي  قيل- عبثاً وادعاءً- إنه لا يقهر، وعن حرب البحر والأنفاق والضفادع؟!

  انظروا: هذه هي غزّة!!! غزّة هذه الغارقة في فقرها وجوعها وعتمتها ومرض أهلها وقلة حيلتها في دوائها وكسائها وغذائها، وتلوث مائها وفساد هوائها، هي التي تصمد فتصد الهجوم وتردّ على القصف وتهاجم وتنقل المعركة إلى عمق الكيان الصهيوني بصواريخها وطائراتها…؟! من يصدّق أن غزّة هذه هي التي تمرغ الآن وستمرغ الشرف العسكري لدولة الاحتلال بما فيه شرفها النووي في ديمونة؟!

   إزاء هذه الحرب المجنونة التي تصبهّا دولة الاحتلال العسكري الإسرائيلي صباً على قطاع غزّة الذي يحتويه الفقر والجوع والمرض وتلِفُّ العتمة أهله وأرضه وسماءه وكل أنحائه، فإننا نتساءل: ألا يرى قادة العرب أن قطاع غزّة الذي يدافع اليوم- من كل أنفاسه وجنباته وأرجائه من خلال أطفاله وشيوخه ونسائه ورجاله الذين يحتضنون مقاومته- عن شرف الأمة العربية وعن مجدها وعن ماضيها وعن يومها وغدها، هو الرئة التي تستنشق الأمّة منها هواء العز والمجد والكرامة في وقت نراها فيه وهي تستسلم للقهر وللذلة والمهانة؟! ألا يرى قادة العرب أنهم-وهم يتركون غزة لحالها ولمصيرها وللاستقواء الصهيوأمريكي عليها- خائنون لدينهم ولشعوبهم ولأوطانهم؟! أليس من حقنا أن  نندهش من هذا الغياب القصدي العربي الرسمي، وأن نستنكره في ذات الوقت أيضاً؟! ألم يجل في خاطر القادة العرب أن يغضبوا غيرةً على فلسطين والأقصى، وحرصاً على غزّة وحماية أهلها؟! ألا يجرؤ القادة العرب أن يُسمعوا دولة الاحتلال والولايات المتحدة الأمريكية ومن سار في ركابها ما يجعلهم يفكرون ويعتبرون …؟! ألم يفكر القادة العرب أن موقفاً عربياً واحداً موحداً- مهما كان صغيراً- يجعل المستخفين بنا وبديننا وبعروبتنا يرتعدون خوفاً منا ويجعلهم يحجون إلى رضانا؟! ألا يفهم القادة العرب أن من هان على نفسه هان على غيره؟ أما مِنْ غضبةٍ  لقادة العرب يعلنون خلالها أن العصر العربي ها قد بدأ، لا سيما بعد أن طال أمد العصر اليهودي فتمدد وامتد واستبد؟! أيُصِرُّ قادة العرب على الاستمرار في إضاعة عروبتهم وإهانتها بضياع هيبتهم وضياع ما تبقى من رجولتهم ومجد تاريخهم؟! ألم يجل في خاطر هؤلاء القادة العرب- ولو مرّة واحدة- أنهم قادة أمة العرب التي وصفها القرآن الكريم بأنها “خير أمة أخرجت للناس”، وأنهم قادة أمة تعلمنا منذ كنا طلبة في المرحلة المدرسية الإعدادية أنها “أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة”، وأنهم قادة هذه الأمة التي تغنَّت بها إذاعة صوت العرب من القاهرة، وقت المد الناصري الثوري، بأنها أمة “أمجاد يا عرب أمجاد”، وأنهم قادة أمة علمنا دينها وثقافتها أن “المسلم للمسلم كالبنيان المرصوص يشدّ بعضه بعضاً، إذ اشتكى منه عضو تداعى له سائر الأعضاء بالحمى والسهر”؟! ما الذي يراه قادة العرب الآن؟! أيرون أن ترك غزة إلى حالها، هكذا، عسى أن يُقَتَّل أهلها  فيرتاحوا منها ومن أهلها التي قال بعض القادة العرب- دونما خجل أو حياء- أن رؤوسهم قد تصدعت منهم ومنها (أي من غزّة وأهلها)؟!

  ليطمئن قادة العرب أن غزّة باقية وأن أهلها باقون: أما غزّة، فبإذن الله ستبقى وستنتصر، وأما أهلها فهم بإذنه لغالبون. سينصر الله غزّة حتى إذا ما رآها قادة العرب أو سمعوا عنها تذكروا على الفور ضعفهم وخستهم وانهزامهم وخيبتهم وانكسارهم وانهزامهم وجبنهم في الوقت الذي يرون فيه ويسمعون أن غزّة باقية متألّقة، وبإذن الله، منتصرة.

  أما هؤلاء القادة العرب الذين هم ليسوا إلا رجالاً جوفاً مخصيين، فإنهم لا يستحقون إلا ما قاله فيهم شاعر العراق العربي أحمد مطر:

وجوهكم أقنعة بالغة المرونة

طلاؤها حصافة، وقعرها رعونة

صفق إبليس لها مندهشا، وباعكم فنونه

وقال : “إني راحل، ما عاد لي دور هنا، دوري أنا أنتم ستلعبونه”

…………………………………

وغاية الخشونة

أن تندبوا : “قم يا صلاح الدين، قم”

…………………………….

كم مرة في العام توقظونه

كم مرة على جدار الجبن تجلدونه

أيطلب الأحياء من أمواتهم معونة

دعوا صلاح الدين في ترابه واحترموا سكونه

لأنه لو قام حقا بينكم فسوف تقتلونه.

  من يصدّق أن العجز والتردي والخذلان العربي الرسمي قد بلغ  حاله هذا المبلغ المخزي؟! من يصدّق أن النظام العربي الرسمي لم يعد قادراً إلا أن يختار تركه قطاع غزّة لمصيره وحيداً، يقاتل وحيداً يحتويه جوعه ويغرق في فقره وفي قلة أسباب الحياة فيه، حيث لا غذاء ولا دواء ولا كساء ولا كهرباء، مع فساد الهواء وتلوث الماء؟!

  يا طواويس العرب… أيها الرجال الجوف

   إن ما يجري في فلسطين كلها، وفي قطاع غزّة تحديداً، لا ينبغي له أن يكون شأناً  داخلياً لا علاقة لكم به، إذ نراكم تنفضون أيديكم  ورؤوسكم ووجوهكم منا تمهيداً لفك وصلكم بنا طمعاً في فك اشتباك تاريخي مع عدوكم التاريخي الذي هو في الاصل عدونا الذي هجرنا من أرضنا، ثم لاحقنا ولاحق كل من آوانا، ثم أعمل ذبحاً وفتكاً وقتلاً وتقتيلاً وتفخيخاً فيه وفينا، ومرغ شرفنا وشرف أمتنا في أوحال تخاذلكم وضعفكم وخوفكم وخوركم وانهزامكم وانكساركم وضياع هيبتكم وانكشاف الخواء في طاوسيتكم وافتضاح أمركم وتآمركم. إن غزّة الصغيرة هذه التي تحتويها العتمة فتغرق في دماء أهلها الذين يعانون العطش والجوع والفقر والمرض ويقتلهم الحصار والقصف بالحمم وكتل النار والدمار، إنما يؤكد أهلها أن هذه الدماء التي يغرقون فيها ليست إلا لتبدد العتمة وتضيء الدرب لشعب فلسطين الذي غلَّق دروبه الاحتلال العسكري الإسرائيلي بالتأييد الأمريكي والإسناد الأوروبي، فضلاً عن الخذلان والتآمر العربي.

  أما آخر الكلام، فليعلم كلّ من في رأسه عقل يتفكّر ويتدبّر أن هذه العتمة التي تَلِفّ اليوم غزّة سوف تتسع في وقت قريب لتَلِف بلاد العرب إن لم يعِ طواويسها القادة حكاية الثور الأبيض الآن الآن… وليس غداً! أما غزّة الصغيرة هذه، والمنتصرة بإذن ربها، فها هي منتصبة قامتها، شامخة رأسها، لن تركع ولن تموت، وإن ماتتـ فإنها لن تموت إلا واقفة ولن تركع. ها هي تقول للمتفرجين على أبنائها وهم يذبحون قصفاً وقنصاً وتقتيلاً  وحرقاً، والمتخاذلين عن نصرتها وللمتآمرين مع محتليها:

أنا مِـن تُرابٍ ومـاءْ

خُـذوا حِـذْرَكُمْ أيُّها السّابلةْ

خُطاكُـم على جُثّتي نازلـهْ

وصَمـتي سَخــاءْ

لأنَّ التُّرابَ صميمُ البقـاءْ

وأنَّ الخُطى زائلـةْ

ولَكنْ إذا ما حَبَستُمْ بِصَـدري الهَـواءْ

سَـلوا الأرضَ عنْ مبدأ الزّلزلةْ!

**

سَلـوا عنْ جنونـي ضَميرَ الشّتاءْ

أنَا الغَيمَـةُ المُثقَلةْ

إذا أجْهَشَتْ بالبُكاءْ

فإنَّ الصّواعقَ في دَمعِها مُرسَلَهْ!

**

أجلً إنّني أنحني

فاشهدوا ذ لّتي الباسِلَةْ

فلا تنحني الشَّمسُ

إلاّ لتبلُغَ قلبَ السماءْ

ولا تنحني السُنبلَةْ

إذا لمْ تَكُن مثقَلَهْ

ولكنّها سـاعَةَ ا لانحنـاءْ

تُواري بُذورَ البَقاءْ

فَتُخفي بِرحْـمِ الثّرى

ثورةً .. مُقْبِلَـهْ!

**

أجَلْ.. إنّني أنحني

تحتَ سَيفِ العَناءْ

ولكِنَّ صَمْتي هوَ الجَلْجَلـةْ

وَذُلُّ انحنائـي هوَ الكِبرياءْ

لأني أُبالِغُ في الانحنـاءْ

لِكَي أزرَعَ القُنبُلَـةْ!

 

 

بقلم: الدكتور/ أيوب عثمان

 كاتب وأكاديمي فلسطيني

  جامعة الأزهر بغزة

اترك تعليقاً