ثقافة وفن

أمانة من ناجي العلي – باسم سرحان

 

أمام باب منزله في لندن وقبل اغتياله بيومين أو ثلاثة أيام قال لي ناجي العلي “أحملك أمانة. كائنا من كان قاتلي، أن قاتلي هو ياسر عرفات”.

ذهبت أنا وابني في زيارة خاصة إلى لندن واستضافنا الأخ ناجي العلي في منزله. عندما وصلت إلى بيته قادما من الكويت وجدت ناجي متوترا ومضطربا إلى أبعد الحدود، ويعيش ثورة غضب عارمة. بادرني بالقول “إنهم يهددونني بالقتل”. سألته من هم. قال “السفلة أولاد …..”. وسرد لي قصة المكالمات الهاتفية التي وردته من عدد من المثقفين الفلسطينيين في أعقاب نشر كاريكاتير “رشيدة مهران”. كانت معظم المكالمات تأخذ طابع التهديد المبطن بالحرص على حياته. ذكر لي ما ورد في كل مكالمة (مشكلتي أنني لا أسجّل) وذكر لي عدة أسماء لا أزال أذكر منها الشاعر محمود درويش وبسّام أبو شريف وشخص من قريته يدعى أبو فارس (نسيت اسمه) كان مسؤولا في حركة فتح الانتفاضة وما لبث أن التحق بياسر عرفات في تونس. قال إن أبو فارس خاطبه من باب صلة القرابة وحذره بأن خطرا داهما يهدد حياته. وقال أن أحدهم (لا أذكر اسمه) قال له “يا ناجي هذه فرصتك الأخيرة للبقاء على قيد الحياة. أرسم رسما تمدح فيه الختيار” (أي عرفات). وقال لي ناجي أنه ردّ عليهم جميعا بالشتائم والسباب. ولم يذكر ناجي إطلاقا أن أحد هؤلاء المحذرين أو المنذرين قالوا له إن “الموساد” سيقتله أو أنه مستهدف من “الموساد” أو من “إسرائيل”.

ثم قال لي “اتصل بي الأخ أبو إياد (صلاح خلف) وقال لي حرفيا: يا ناجي لقد صدر القرار. أخرج فورا من بريطانيا، أو على الأقل أخرج واختفي في إحدى القرى البريطانية”. [هذه كانت أبلغ رسالة من المسؤول الفلسطيني الأمني الأول الذي عرف حتما بالقرار الذي أصدره ياسر عرفات شخصيا باغتيال ناجي العلي].تداولنا فيما يجب أن يفعله ناجي. وكانت زوجته السيدة وداد حاضرة جميع هذه الأحاديث والمداولات. بادرني بالقول: إنهم سيقتلونني فماذا أنتم فاعلون في حركة فتح الانتفاضة؟ كيف ستحمونني؟

اتصلت هاتفيا حوالي منتصف الليل بالدكتور راجي مصلح (صديق ومسؤول في حركة فتح الانتفاضة) وطلبت منه إبلاغ الأخ أبو خالد العملة والأخ أبو موسى (قادة فتح الانتفاضة) بأمر التهديد بالقتل الذي تلقاه ناجي العلي من عدة أشخاص في تونس. بعد نصف ساعة تقريبا اتصلت ثانية بالدكتور راجي مصلح فقال لي أن حركة فتح الانتفاضة تستطيع حماية ناجي العلي في سوريا وليبيا فقط، وأنها لا تستطيع حمايته إذا عاد إلى لبنان. وأضاف: أن تقدير الأخ أبو خالد العملة هو أن التهديد حقيقي وأن على ناجي أن يغادر لندن فورا.

كنت أتحدث مع الدكتور راجي من هاتف منزل ناجي العلي وهو إلى جانبي. أبلغته برأي قادة فتح الانتفاضة فال لي: لا أستطيع العيش في سوريا أو ليبيا لأنني سأبقي حيا ولكن ميتا لأنهم سيمنعونني من مواصلة التعبير الحر المطلق بالرسومات.

تركت ابني في بيت ناجي وسافرت بمفردي في زيارة لأصدقاء خارج لندن بعد أن اتفقت على مقابلته عصر يوم عودتي في مقر جريدة “القبس” الكويتية. حال عودتي إلى لندن عصر يوم 23 تموز/يوليو 1987 اتصلت هاتفيا بمنزل ناجي لأسأل عن عنوان “القبس” فردت عليّ ابنته الكبرى “ليال” وقالت بصوت مرتعش أطلقوا الرصاص على والدي وهو الآن في مستشفى (نسيت اسمه). أوقفت تاكسي وذهبت إلى المستشفى حيث وجدت عددا من الأشخاص أذكر منهم الشاعر أحمد مطر. مكثت حتى وقت متأخر من الليل، ولم يكونوا يسمحوا لأحد بدخول الغرفة التي يرقد فيها ناجي (باستثناء زوجته التي كانت في الغرفة ولم تخرج). نمت ليلتها في منزل ناجي العلي وكان في المنزل أحد أقربائه أو أقرباء زوجته (لا أذكر اسمه) الذي قال لي “أخيرا قتله ياسر عرفات” (وكان هذا الرجل يعمل في دوائر منظمة التحرير الفلسطينية). لم أمكث بعدها في لندن بل غادرت على عجل إلى دمشق ومنها إلى الكويت.

خلفية تهديدات عرفات لناجي العليمثلي مثل ملايين الفلسطينيين والعرب كنت أحرص كل صباح على قراءة رسم ناجي العلي في صحيفة “السفير” اللبنانية ثم في صحيفة “القبس الكويتية”، لكنني لم أتعرف شخصيا على ناجي العلي أو أقابله إلا في الكويت عام 1984. يومها، وفي عز الصراع مع ياسر عرفات ونهجه الاستسلامي كتبت في صحيفة “الوطن” الكويتية مقالا موجزا بعنوان “ناجي العلي ثروة وطنية وقومية”. وقال لي صديق مشترك ناجي العلي يريد أن تزوره في منزله. كانت هذه الزيارة فاتحة تعارفنا وصداقتنا الشخصية، رغم أننا نلتقي فكريا وسياسيا. وذات يوم هاجمني بعض الكتاب الفلسطينيين من أنصار ياسر عرفات في إحدى الصحف الكويتية. اتصل بي ناجي العلي ودعاني إلى منزله وقال لي فكرت بأن يكون عنوان رسم الغد في القبس “ردّ على باسم واحد اسمه باصم” لكنني غيّرت رأيي لئلا يبدو الأمر تبادل الثناء بيننا.

وذكر لي ناجي بعد أسابيع حادثتين حصلتا معه. قال إنه كان ذاهبا إلى عمله في جريدة “القبس” عندما حاول سائق شاحنة كبيرة الارتطام بسيارته وتحطيمها (أي قتله) لكنه نجا من الاصطدام بأعجوبة. وقال ناجي أنه يشك دون أن يجزم بأنها محاولة لاغتياله بحادث سير (وهو أسلوب معروف لدى بعض المخابرات العربية).

أما الحادثة الثانية فكانت تهديدا مباشرا وصريحا. قال لي أنه كان في مكتبه في صحيفة “القبس” يحضّر بعض الرسومات عندما دخل عليه رجل فلسطيني وقال له: أنا من جهاز أمن الـ 17 (أمن الرئاسة التابع لعرفات) وحضرت لأبلغك تحذيرا نهائيا، إن لم تتوقف عن الرسم ضد الختيار سنقتلك.

وقال لي ناجي: عندها فقدت صوابي وهجمت عليه أشتمه وأصرخ في وجهه ووجه جهازه القذر وكل من أرسله لتهديدي ففر هاربا من مقر الجريدة.

المواجهة مع عرفات

هذه حادثة بارزة ومميزة. يبدو أن آل الصقر (أصحاب جريدة “القبس” وهم من أسرة كويتية وطنية وعروبية تدعم المقاومة الفلسطينية دعما كبيرا) أرادوا تهدئة الوضع بين عرفات وناجي العلي. واقترح السيد محمد جاسم الصقر على ناجي العلي عقد حوار موسع مع عرفات. فهمت لاحقا أن ناجي تردد في الموافقة على اللقاء لقناعته بأن لا جدوي منه. لكن بناء على إصرار آل الصقر وافق وذهب بصحبتهم إلى قصر الضيافة حيث ينزل عرفات. وكان عرفات قد دعا إلى ذلك اللقاء قادة حركة فتح ومنظمة التحرير في الكويت. نسيت كافة التفاصيل التي رواها لي ناجي حول المواجهة الكلامية. لكن ما أذكره أن عرفات بادره بالقول: لماذا تهين شعبك بالرسومات يا ناجي؟ فردّ عليه ناجي: “أنت تهين شعبك حين تتكلم باللهجة المصرية وأنت قائد فلسطيني”. المهم أن المواجهة استمرت ولم يستطع عرفات كسر إرادة ناجي. والعبارة الأخرى التي أذكرها جيدا وقالها لي ناجي العلي بعد المواجهة (التي لم أحضرها ولم أدع إليها) أنه أثناء خروج عرفات وآل الصقر وناجي قبض عرفات على خاصرة ناجي وقرصها قرصة موجعة. وقال لي ناجي” إن قبضته آلمتني وشعرت أنها قرصة الموت”.

لماذا قتل عرفات ناجي العلي؟

حاول كثيرون التغطية على دور عرفات باغتيال ناجي العلي من خلال قصص العملاء الفلسطينيين المزدوجين (المخابرات الفلسطينية والموساد). وبعضهم تحدث عن تقاطعات لعدة أجهزة مخابرات عربية لها مصلحة في الخلاص من ناجي العلي. أنا أرفض كل هذه التحليلات.

أولا، أنا مع تدمير الكيان الصهيوني، لكن لا يمكن إقناعي بأن دولة إسرائيل وجهاز الموساد كان يجد في ناجي العلي مصدر خطر يجب القضاء عليه. ولو افترضنا أن لجهاز الموساد دور في تصفية ناجي العلي فمن المؤكد أنه قد شارك بهذه المهمة كخدمة (إن لم نقل بتكليف) لعرفات أو لجهاز أمن عرفات. والآن ظهرت إلى العلن الخدمات المتبادلة بين الجهازين الأمنيين.

ثانيا، في رأيي أن المسألة لا تقتصر على انتقاد ناجي لمحمود درويش أو رشيدة مهران، بل إن الانتقاد اليومي المتواصل لسياسة عرفات التفريطية بالحقوق الوطنية الثابتة للشعب الفلسطيني وتعرية ما يقوم به عرفات من تنازلات مجانية وانحرافه عن الخط الوطني الذي قامت عليه حركة فتح هو السبب الحقيقي في قرار الاغتيال، خاصة وأنه كان يستحيل على عرفات تحمل ناجي العلي وهو (أي عرفات) يعرف مسبقا ماذا يخطط ويعلم أنه سيأخذ القضية الفلسطينية إلى الهاوية ثم التصفية النهائية. قوة أي رسم من رسومات ناجي العلي تعادل قوة عشرات المقالات التحليلية والناقدة، وذلك ببساطة لأن موهبة ناجي وعبقريته مكنته من التعبير برسم يوصل رسالة جوهرية حالما يقع عليها البصر ولا يستغرق استيعابها أكثر من ثوان من قبل العامة والخاصة، ومن قبل الفلاح الفلسطيني البسيط شبه المتعلم والمثقف الفلسطيني على حد سواء.

ختاما، أعتقد أنني قد نقلت الأمانة ولو متأخرا كثيرا (كنت قد رويتها مرات عدة لأشخاص مختلفين). وأقول أنني حين أقارن بين هذين الرجلين الفلسطينيين أجد أن ياسر عرفات هو الرمز الفلسطيني الزائف وناجي العلي هو الرمز الفلسطيني الحقيقي والأصيل.

كاتب فلسطيني*

(رسالة الكترونية)

http://www.safsaf.org/08-2010/art/basem-serhan/naji-alali.htm

الآراء الواردة في المقالات تعبر عن رأي أصحابها ومواقفهم ولا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع.