فلسطين

المعتقلون الإداريون وتعليق خطوتهم النضالية – عبد الناصر عوني فروانة

 

في الخامس عشر من شباط/فبراير الماضي، أعلن المعتقلون الإداريون في معتقلات الاحتلال (الإسرائيلي) وبتوافق فصائلي وإجماع وطني ودعم مؤسساتي، شروعهم بمقاطعة المحاكم العسكرية (الإسرائيلية)، مقاطعة شاملة ونهائية، وغير مسقوفة زمنياً. كخطوة نضالية موحدة احتجاجا على طبيعة هذه المحاكم وتعاملها ورفضاً لاستمرار “الاعتقال الإداري” الذي يُعتبر شكلا من أشكال الاعتقال التعسفي، والذي بات يشكل سياسة (إسرائيلية) ثابتة ووسيلة للعقاب الجماعي في التعامل مع الشعب الفلسطيني منذ العام 1967. هذه الخطوة النضالية حظيت بدعمنا واهتمامنا العام ووقفت المؤسسات المعنية بجانبها، كما كل الخطوات التي يخوضها الأسرى دفاعا عن حقوقهم، لكنها خطوة كانت تستدعي أكثر مما نالته، وكانت بحاجة الى نشاط في الوطن وخارج حدوده،  بل كان من المفترض أن يرافقها حراكا رسمياً وفصائلياً، قانونيا وحقوقياً، إعلامياً وشعبيا، على كافة الصعد، لدعمها وإسنادها والبناء عليها، وصولاً لتحقيق أهدافها، على قاعدة: أن من العوامل الأساسية لنجاح أية خطوة نضالية داخل السجون تتطلب حراكاً ودعماً خارجياً.

ويوم أمس، وبعد سبعة شهور من بدء الخطوة، أعلن الأسرى الإداريون تعليق خطوتهم النضالية هذه لمدة ثلاثة شهور، دون احداث أي تغيير في السياسة الإسرائيلية في تعاملها مع هذا الملف، وبمعنى آخر دون تحقيق الهدف الذي انطلقت من أجله تلك الخطوة النضالية، بالرغم من أهميتها والجهود التي بذُلت دعماً لها. لهذا قلت بالأمس وأجدد اليوم القول: أنه لا يكفي إعلان تعليق مقاطعة المحاكم العسكرية من قبل المعتقلين الإداريين، وإنما الأمر يحتاج منا ومنهم، بل ومن قيادات الحركة الأسيرة كافة، إلى وقفة شاملة وجريئة لتقييم المرحلة السابقة، والوقوف أمام اسباب ودوافع قرار التعليق، والتوافق حول رؤية وطنية يشارك فيها الجميع لمجابهة “الاعتقال الإداري”، محلياً ودولياً، أو على الأقل إذا قرر الأسرى استئناف خطوتهم في العاشر من كانون أول/ديسمبر القادم، إذا لم تتجاوب إدارة السجون، وأنا لا أعتقد أنها ستتجاوب مع مطالب الأسرى في ظل المعطيات التي تشهدها السجون وفي ظل التصعيد الإسرائيلي بحق الأسرى.

وعودة الى “الاعتقال الإداري” الذي بات يشكل أداة قمع ووسيلة للعقاب الجماعي. خاصة إذا ما علمنا أن سلطات الاحتلال قد أصدرت أكثر من (52000) أمر بالاعتقال الإداري، منذ العام 1967، وأن قرابة ثلثها كانت أوامر اعتقال جديدة، فيما شكّلت قرارات تجديد الاعتقال الإداري نحو ثلثيها، والتي كانت عبارة عن أوامر تجديد مدة الاعتقال الإداري لمرة ثانية أو ثالثة أو أكثر، حتى أن كثير من الفلسطينيين، اعتقلوا لأكثر من مرة، وأن العديد منهم جُدد لهم الاعتقال مرات عديدة دون رادع، وقد أمضى بعض المعتقلين خمس سنوات، بل عشر سنوات وما يزيد في سجون الاحتلال رهن ما يُسمى بـ “الاعتقال الإداري”، حتى أصبح الكثيرون من المعتقلين الإداريين سجناء إلى أمد غير معلوم.

لقد اعتقلت إداريا لأكثر من مرة، بلا تهمة أو محاكمة، ودون معرفة اسباب اعتقالي، وعايشت المعتقلين الإداريين وما تسمى محاكم الاستئناف الصورية في معتقل النقب الصحراوي، وتابعت هذا الملف منذ عقود، من خلال عملي ونشاطي واهتماماتي، ويمكن التأكيد على أن “الاعتقال الإداري” قد طال كل الفئات العمرية والاجتماعية: ذكوراً وإناثاً، رجالاً وشيوخاً وأطفالاً، مرضى وأصحاء، وأن دولة الاحتلال تستند إلى المادة (111) من أنظمة الدفاع لحالة الطوارئ التي فرضتها السلطات البريطانية في أيلول/سبتمبر 1945. كما ولم يقتصر استخدام “الاعتقال الإداري” على المعتقلين الجدد، بل استخدم كذلك ضد كل من لم تثبت إدانته في غرف التحقيق- رغم صنوف التعذيب المختلفة – عقابا له على صموده. فلطالما تمت إحالة شخص ما إلى الاعتقال الإداري، من داخل زنازين التعذيب. ولطالما عوقب بالاعتقال الإداري معتقلون فور انتهاء مدة محكومياتهم، أو بعد خروجهم من السجن مباشرة أو بوقت قصير للغاية. وفي أحيان أخرى استخدمت سيف التهديد بإحالة المعتقل للاعتقال الإداري لغرض الضغط والمساومة أو الابتزاز.

لقد توسعت دولة الاحتلال في استغلال أمر الاعتقال الإداري، الموروث من عهد الانتداب البريطاني، حتى أصبح على يديها، إجراءً عقابيٍاً جماعياً، ضد الفلسطينيين. بل إنها ذهبت إلى حد استعماله بديلا مريحا عن الإجراءات الجنائية العادية لتبرير استمرار احتجاز المواطنين دون تهمة أو محاكمة استناداً لما يُسمى بـ “الملف السري” الذي يشكل أساس الاعتقال، حيث السرية المفروضة على الأدلة والمواد، والتي لا يسمح للمتهم أو لمحاميه بالاطلاع على محتواها- مما يجعل من المستحيل رد التهم المنسوبة أو مناقشتها-. وما زالت تحتجز في سجونها ومعتقلاتها نحو (430) معتقلا إدارياً، بينهم نواب منتخبين وأكاديميين واعلاميين ومحامين وقيادات مجتمعية، ومن بينهم أيضاً أطفال ونساء وفتيات.

ويُعرَّف الاعتقال الإداري بأنه: عملية قيام السلطة التنفيذية باعتقال شخصٍ ما، وحرمانه من حريته، دون توجيه أي تهمة محددة ضده، بصورة رسمية، ودون تقديمه إلى المحاكمة وذلك عن طريق استخدام إجراءات إدارية.

وتوضح اتفاقية جنيف الرابعة، بما لا يدع مجالاً للشك، أن الاعتقال الإداري يُعد تدبيرا شديد القسوة، للسيطرة على الأمور، والوسيلة الأكثر تطرفاً، التي يسمح القانون الدولي للقوة المحتلة بإتباعها، تجاه سكان المناطق المحتلة.

فالإجازة الاستثنائية للاعتقال الإداري، تسمح للسلطات القائمة باحتجاز الأشخاص المحميين، وحرمانهم من حريتهم، رغم عدم توجيه دعاوي ضدهم، على اعتبار أنهم يعدون تهديداً حقيقياً لأمنها، في الوقت الحاضر، أو في المستقبل. وعلى عكس الإجراء الجنائيّ، فإنّ الاعتقال الإداري لا يهدف إلى معاقبة شخص على مخالفة قد اقترفها، بل يهدف إلى منع وقوع المخالفة مستقبلاً.

وعلى هذا، يعتبر “الاعتقال الإداري” إجراءً شاذاً واستثنائياً، لأن المبدأ العام للقانون يقول بأن حرية الأشخاص هي القاعدة. وذلك على افتراض أن نظام العدالة الجنائية، قادر على معالجة مسألة الأشخاص المشتبه في أنهم يمثلون خطراً على أمن الدولة.

وفي الوقت الذي أجاز فيه القانون الدولي اللجوء إلى الإجراء الأشد قسوة -الاحتجاز أو الاعتقال الإداري – كإجراء شاذ واستثنائي، فإنه وضع قيوداً وشروطاً صارمة على تنفيذه، ولأقصر فترة ممكنة، وحدد مجموعة من المبادئ والإجراءات القضائية، والضمانات الإجرائية التي تتعلق بوسائل الاعتقال الإداري واستمرار فترة الاحتجاز وحقوق المعتقل الإداري. كما حظر الاحتجاز الجماعي، أو تطبيقه بشكل جماعي، لأن ذلك يصل إلى مستوى العقاب الجماعي والذي يُعتبر جريمة. 

لكن سلطات الاحتلال الإسرائيلي أساءت استخدام إجراء “الاعتقال الإداري”، فاستغلت الإجازة القانونية المسموح بها في الظروف الاستثنائية، وتوسعت في تطبيقها، دون التزام بالمبادئ والإجراءات القضائية المنصوص عليها، ولا بالضمانات الإجرائية التي حددها القانون الدولي، تلك الضمانات التي أكدت على أولوية المبادئ والحقوق الإنسانية في كل الأحوال.

وإذا كان قانون الانتداب قد نظم الاعتقال الإداري، وحدد في نطاق ضيق حالاته، فإن إسرائيل توسعت في استغلاله بشكل لافت، حين لجأت إلى إصدار عدة أوامر عسكرية، تشرعه أكثر من كونها تنظمه، وتساعد على توسيع تطبيقه بما يخدم ظروف الاحتلال ويكرسه، حتى وصل عدد الأوامر بهذا الخصوص إلى (12) أمراً عسكرياً. لذا فان الواقع يقول: أن الممارسة العملية لإجراءات “الاعتقال الإداري”، لدى دولة الاحتلال، قد جعل منه حجزا غير قانوني ولا إنساني، ومخالف لروح ونصوص الاتفاقيات الدولية، بل وروح قانون الانتداب نفسه. فمن الناحية الفعلية، ومنذ العام 1967، جعلت إسرائيل الاعتقال الإداري قاعدة، لا استثناء، وسياسة ثابتة في تعاملها مع الفلسطينيين، ووسيلة للانتقام والضغط والعقاب الجماعي بما يخالف قواعد القانون الدولي الإنساني. الأمر الذي دفع عدد من المعتقلين الإداريين في السنوات الأخيرة الى خوض إضرابات فردية عن الطعام لأشهر عديدة وفترات متفاوتة لتسليط الضوء على هذا الملف و رفضا لهذا الشكل من الاعتقال التعسفي. ان كافة المعطيات والوقائع، الموضوعية والذاتية، تستدعي تدارك الأمور وتجاوز الحالة القائمة والتوافق حول رؤية وطنية شاملة لمجابهة “الاعتقال الإداري” والقضاء عليه. 

 

 

عبد الناصر عوني  فروانة

أسير محرر، ومعتقل إداري لأكثر من مرة، وكاتب مختص بشؤون الأسرى

10-9-2018