الأرشيفعربي وعالمي

الشعب يتلمّس طريقه – د. رضا مقني

مرّ الشّعب التّونسي منذ جانفي 2011 إلى يومنا هذا بعدّة تجارب سياسيّة. و راقب عن كثب و بتأمّل قد لا يلحظه البعض تطوّرات المشهد الحزبي و البرلماني و الحكومي وتدهور الأوضاع الاقتصاديّة و الاجتماعيّة التي نالت من حقّه في عيش كريم. و لم يلمس التّجسيد الفعلي للشّعارات التي رفعت خلال المسيرات و الاعتصامات قبل سنة 2011 وبعدها.
لقد عايشت الفئات الشّعبيّة وعودا عديدة روّجت لها قوى سياسيّة مختلفة بشّرتها بالتّشغيل وبالرّفاهة و الاستثمارات الضّخمة و تطوير البنية التّحتيّة و النّهضة الاقتصاديّة الصّناعيّة والفلاحيّة و التّمييز الإيجابي بين المناطق السّاحليّة و الدّاخليّة و الإصلاح التّربوي والرّعاية الصّحيّة و الضّغط على الأسعار.و ربطت هذه القوى مصير طموحات أوسع الجماهير بنجاح ما سمّي “بالانتقال الدّيمقراطي”و العمليّة الانتخابيّة و صياغة الدّستور مؤكّدة أنّ ذلك هو طوق النّجاة. بل إنّها لم تترك فرصة تمرّ إلاّ و ذكّرتنا أنّ”الدّيمقراطيّة التّونسيّة أنموذجا استثنائيّا “و أنّ”دستور تونس من أفضل الدّساتير العالميّة “.
انتبهت أوسع الجماهير لما حصل على المسرح السّياسي منذ الانتخابات الأولى التي نظّمت في أكتوبر 2011.و اكتشفت رداءة الأداء السّياسي لمكوّنات المشهد ممثّلة في حركة”النّهضة” و حلفائها مثل “المؤتمر من أجل الجمهوريّة”و “حزب التّكتّل” و ما دعي “بالعريضة الشّعبيّة”و تابعت دعوات في البرلمان للسّحل و بتر الأطراف و التّكفير لتستفيق يوم 6 فيفري 2013 على جريمة اغتيال المناضل شكري بلعيد و تنتبه لخطورة الوضع وأكذوبة التّعايش السّلمي السّياسي و الفكري بين مختلف الأحزاب السّياسيّة.
لقد عمّق حذر الجماهير و خوفها من القوى السّياسيّة المسيطرة على مؤسّسة البرلمان والحكومة تصاعد العمليّات الإرهابيّة و اغتيال محمد البراهمي و الاعتداء على الاتّحاد العام التّونسي للشّغل في مناسبتين مع تشجيع بعث منظمات موازية للمركزيّة النّقّابيّة و فتح صفحات جريدة”الفجر”لقيادات هذه المنظّمات.
دفعت الأحزاب التي صعدت فجأة للرّكح السياسي ثمن مراوغاتها و تنكّرها لوعودها الانتخابيّة.فانقرضت أحزاب مثل “المؤتمر من أجل الجمهوريّة” و “التّكتل”و”العريضة الشّعبيّة”و كانت نمورا من ورق. كما تراجع عدد النّاخبين الذين اختاروا حركة”النّهضة”من 5،1 مليون سنة 2011 (89 نائبا)إلى 900 ألف سنة 2014 (69 نائبا).وتمكّنت حركة”النّهضة” رغم ذلك من المحافظة على وجودها التّنظيمي و على مؤسّساتها بحكم قوّة الماكينة الدّاخليّة وعلاقاتها المتشعّبة و المتينة محليّا و عربيّا و دوليّا و قبلت، خوفا من تكرار سيناريو مصر،بما دعي بالحوار الوطني ثمّ لاحقا بعد انتخابات 2014 بالتّنسيق مع “حركة نداء تونس” في عدّة قرارات سياسيّة مصيريّة و أبرزها قرار المصالحة.
و رغم تراجع عدد نوّاب حركة”النّهضة”سنة 2014 أمام صعود “حركة نداء تونس”(86 مقعدا)و 1.279944 صوت إلاّ أنّها بقيت الرّقم الثاني في المشهد البرلماني و الفصيل المؤثّر في القرارات السّياسيّة الأمر الذي جعل الباجي قائد السّبسي يتراجع عن مقولته الشّهيرة”نحن والنّهضة خطان متوازيان لا يلتقيان“.
لقد راهن جمهور واسع من المثقفين و النّاشطين السّياسيّين و النّقابيّين و”اليساريّين”السّابقين على “حركة نداء تونس” و دعوا للتّصويت لها و لانتخاب الباجي قايد السّبسي لمنصب رئيس الجمهوريّة ضدّ المنصف المرزوقي و حمّة الهمامي تحت شعار ما سمي آنذلك “Le vote utile”.لكن الجمهور الواسع منح أصواته أيضا لإفراز سياسي جديد تمثل في “الجبهة الشّعبيّة” التي حصدت 15 مقعدا و نال النّاطق الرّسمي باسمها حمة الهمّامي المرتبة الثالثة في الانتخابات الرّئاسيّة.
لم يغب المال السّياسي الفاسد و النّزعات الجهويّة و العروشيّة عن انتخابات 2014 .و لئن اندثرت “العريضة الشّعبيّة” التي حصلت سنة 2011 على 26 مقعدا لكنّها تركت مقاعدها “للاتّحاد الوطني الحرّ” الذي يقوده سليم الرّياحي فحصد 16 مقعدا ثمّ غاب عن المشهد بعد مدّة في سيناريو يشمئزّ منه المتابع للشّأن السّياسي.
لم تشهد المدّة النّيابية 2014 – 2019 تحوّلا جذريا في العمل البرلماني بشكل يكون فيه قادرا على اتّخاذ قرارات خادمة ملبّية لمطامح النّاخبين الذين راهنوا أساسا على “حركة نداء تونس”في حين تطلع جزء آخر لمبادرات الجبهة الشّعبيّة” التي لم يكن ثقلها بالحجم المناسب إضافة لبداية ظهور خلافات في صلبها.و تتالت بعد فترة وجيزة الانشقاقات في كتلة “نداء تونس” و تمّ التّخلي عن رئيس الحكومة الحبيب الصيد لصالح يوسف الشّاهد الذي سرعان ما “تمرّد”على رئيس الجمهوريّة و شكّل حزبا سياسيّا ليتشظى نداء تونس بهذه الصّورة و كتلته إلى مجموعات صغيرة تقودها “زعامات”تصوّرت أنّها ستضفي على المشهد إضافات جديدة.
لقد استفادت حركة النهضة من الوضع. و استغل قادتها الحاضرون صباحا مساء في المشهد الإعلامي ليؤكّدوا وفق تصوّرهم على “قوة” الحركة و “تماسكها خلافا لعدّة أحزاب من اليسار و اليمين التي أصابها داء الانشقاقات و الصّراعات و تحوّلت إلى”أكواخ حزبيّة”حسب تعبير أحدهم.
انقرضت “الجبهة الشّعبيّة”التي راهن عليها طيف واسع من القوى الدّيمقراطيّة و التّقدميّة وأساء المتصارعون لليسار التّونسي حين رذّلوا المشهد بأساليبهم الرّديئة في خوض الصّراع و إدارة الاختلافات و تركوا السّاحة السّياسيّة مرتعا للمال الفاسد وللتّجمّعيّين الذين أعادوا تنظيم صفوفهم في الحزب الدّستوري الحرّ.
لقد عمّق الوضع حيرة الجماهير و ضياعها السّياسي أمام استفحال و اشتداد تدهور الأوضاع الاقتصاديّة و الاجتماعيّة للشّعب الذي يعيش كل يوم على وقائع مؤلمة و فواجع ضحايا قوارب الموت و تصاعد الانتحار و الجرائم الشّنيعة و قضايا الفساد التي طالت البرلمانيين و قيادات حزبيّة و وجوه إعلاميّة و ارتفاع مهول للأسعار و أزمات قطاعيّة. وبلغت الأزمة السّياسية ذروتها و فقد عموم الشّعب ثقته في ما دعي “الانتقال الدّيمقراطي” فامتنع 4.120312 بنسبة 58.30 %عن التّصويت في انتخابات 2019 في حين لم تكن هذه النّسبة سنة 2014 سوى 31.64 % .و أفرزت الانتخابات التّشريعيّة تراجع “حركة النّهضة”التي صوّت لها 561 ألف ناخب فقط و حصلت على 52 مقعدا فلم يتردّد قادتها في التّحالف مع حزب”قلب تونس”(38 نائبا)الذي نعتوه خلال حملاتهم الانتخابيّة بحزب المال الفاسد.
و أكّد انعدام الثّقة السّياسيّة في القيادات المتصدّرة للمشهد و العزوف عن الإقبال على التّصويت في الانتخابات التّشريعيّة ردّ فعل أوسع الفئات الشعبيّة على” الدّيمقراطيّة” التي اختزلت في انتخابات و حملات و وعود كاذبة مفصولة عن متطلبات الوضع الذي يستدعي ديمقراطيّة اجتماعيّة و اقتصاديّة و قرارات جريئة تتحدّى نهب رأسمال المالي و ضغوطات الامبريالية العالميّة التي تعمل على استغلال صعوبات الوضع في تونس من أجل الحصول على مزيد الامتيازات و السّيطرة الكليّة على الثروات الوطنيّة في تعاون وثيق مع الوكلاء المحليّين.
لقد عشنا منذ انتخابات 2019 إلى جويلية 2021 أسوأ ما يمكن أن يفرزه الخمج السّياسي إذ سقطت الحكومة الأولى و الثّانية و تحوّل البرلمان إلى حلبة صراع يومي. و تتالت المظاهرات الشّعبيّة كردّ فعل على سياسة الحكومة منذ شهر نوفمبر 2020 و اتّخذت أشكالا نضاليّة امتدّت من الاعتصام إلى الإضرابات العامة الجهويّة و المظاهرات في الأحياء الشّعبيّة و دعت عدّة أصوات يساريّة إلى حلّ البرلمان و إسقاط حكومة هشام المشيشي التي بقيت عاجزة عن معالج الأوضاع الصّحّيّة المتدهورة.
راقب الشّعب في ظلّ هذه الأوضاع قرارات قيس سعيّد يوم 25 جويلية 2021 و تعاطفت عدّة قوى سياسيّة مع الإجراءات الاستثنائيّة التي أعلن عنها رئيس الجمهوريّة خاصّة أنّ بعضهم دعّم قيس سعيّد في خلافه مع “النّهضة” و حكومة المشيشي و تعالت أصوات أخرى مطالبة بخارطة طريق و منبّهة لخطر ضرب الحرّيات العامّة و الفرديّة و لخطورة الوضع الاقتصادي و الاجتماعي.
و بقطع النّظر عن الجدل القانوني و الدّستوري الذي دار حول هذه الإجراءات، فإنّ الأنظار تتّجه لقصر قرطاج مترقّبة معالجة عميقة للملفّات الاقتصاديّة و الاجتماعيّة المتراكمة وللأزمة الماليّة التي تعيشها الدّولة في علاقة مع المؤسّسات العالميّة دون أن ننسى الأسلوب الذي ستدار به شؤون الدّولة داخليّا و خارجيّا في علاقة بملفّات اقليميّة حارقة تحاول قوى عديدة كسب تونس لصفّها.
إنّ الشّعب ليس غبيّا مثلما يردّد الكثيرون حين تسيطر عليهم نزعة التّشاؤم بل هو يراقب و يقيّم و يعاقب و هو مثلما ردّد الفنّان الملتزم الشيخ إمام قائلا :أنا الشّعب ماشي و عارف طريقي /كفاحي سلاحي و عزمي صديقي/أخوض الليالي و بعيون أمالي/أحدّد مكان الصّباح الحقيقي.
سيهتدي الشّعب لطريقه. فهو يعيش تجربة جديدة منذ 2011 و هو يتلمّس رغم المعاناة طريق خلاصه.
باحث في التّاريخ
:::::
صفحة الكاتب على الفيس بوك