الأرشيفوقفة عز

الشهيد المجهول عفيف الحنفي – أعداد نضال حمد وموقع الصفصاف

لا أعرفه، لم أره قط، لم أشاهد صورته، لم أسمع صوته ولم اقرأ إسمه في جريدة أو صحيفة أو مجلة أو كتاب ولا حتى في سجلات الأحياء أو الشهداء. فهو لاجئ من فلسطين، من مخيمات الشتات والتشرد، حيث ينابيع الثورة المستمرة…

هو من برتقال يافا وعنب الخليل وموز أريحا وبلح غزة وزيتون وتين الجليل…

هو فدائي مجهول، عاش مجهولا ومات مجهولا..

تربى في المخيم على حب الموت في سبيل فلسطين كما حب الحياة في سبيل تحريرها  ورؤيتها ولمس ترابها… ليتيمم برمل ساحلها من الناقورة والبصة والزيب إلى رفح…

عاش المعاناة قبل أن تلده أمه في بيوت التنك والطين وخيام العراء والمشردين… رضع حب فلسطين والحنين لتربة حطين مع حليب أمه، وشرب من كأس الحياة المُرة في كافة مراحل حياته الصعبة.

ولد شبلا من دهر أسد، نشأ وعاش رجلا في زمنٍ كثر فيه أشباه الرجال وتواجدوا في كل زقاق.. وتوزعوا على كل مفرقٍ،  يحرسون الحكومات والعروش والكروش… ويتجسسون على المخيمات وحيطان بيوتها المتداعية بسبب القوانين العنصرية… يتجسسون على الجهادية، أي الروح الفدائية، المشتعلة في قلوب وعقول أبناء التشرد والشتات، أبناء اللجوء والحرمان، في المخيمات على حدود الوطن… بجوار الأرض، لكن بعيدا عن القرية والبيت والحقل والدار والبيادر والمزرعة… بعيداً عن أعراس الجليل وليالي الحب والأغاني والمواويل والميجنا والعتابا وجفرا وظريف الطول وعاليادي اليادي… وعن كل ما يذكره ببلاده وبلادي- بلادنا التي سُرقت واغتُصبت ولازالت تذبح بسكاكين الظالمين، وبقوة العنف والإرهاب والأباتشي وطيور أمريكا المعدنية ودبابات “إسرائيل” الظلامية.

لا اعرف إن كانت له زوجة أو إذا كان له أطفال أو لازالت عائلته على قيد الحياة أم أنها قتلت أو أبيدت في مذبحة أو مجزرة من المذابح الأخوية والأخرى الصهيونية؟؟؟؟

 كل ما أعرفه أنه كان لاجئاً فلسطينياً في لبنان… مثله مثل إخوانه الفلسطينيين اللاجئين من النطبة سنة 1948…كان يغار على فلسطين من الهواء والريح والنسيم الآتي من حيث لا يدري. كان لا ينام من شدة الهم والغم وثقل الواقعة والكارثة التي حلت بفلسطين وشعبها.

كان يحلم بمساعدة الانتفاضة وبإيصال الدعم والإسناد والعدة والعتاد وكل ما يساعد شعبه المنتفض وانتفاضته المشتعلىة وأمته المستبسلة، المُصرّة على الصمود والاستمرار والديمومة.

كان يريد أن يعطي لفلسطين ما تبقى لديه وعنده من أحلام العصافير المغردة ومن معاني القيّم والالتزام والوفاء، في زمن الكماشات التي تكمش بنا وبأعناقنا بكل قوة… وفي زمن القطّاعات والمقصّات التي اتخذت من جسدنا مختبرا لصناعاتها الجديدة.

كان يريد لفلسطين أن تعلو في تألقها لتصل ببهائها إلى سماء الله العالية، لتكون أيضا عالية وأعلى من عروش الجيوش المهزومة أو الصامتة والأخرى العاجزة.

لم يكن يريد من الجوار العربي والأشقاء سوى المساعدة وتقديم يد العون الحقيقية لشعب يذبح بإسم الوحدة العربية، وبإسم الدفاع عن المقدسات الإسلامية والمسيحية.

عفيف الحنفي تحرك بعدما تحرك فيه شرايينه الدم الفلسطيني وبعدما رأى العجز العربي بأم عينيه، وبعدما ضاقت به الحياة وأصبحت الدنيا سوداء قاتمة وحمراء مشتعلة وظالمة مثلما هم ذوو القربى… قرر أن يعمل على مسئوليته وبعيدا عن المحسوبيات والتنظيمات والدعايات، فركب سيارته ومن ثم بغلته، ليعبر المناطق التي عرفها وعرفته أيام الفدائيين والتلاحم المصيري المشترك… على الطريق تذكر الشهداء الذين سقطوا على مقربة من البلاد التي أحب ولازال يحب… تذكر أيضا أسرى الدوريات والعمليات من الفلسطينيين والعرب وكافة الأمم التي أفرزت مناضلين، ناضلوا وقاتلوا لأجل حرية الوطن وعودة أهل فلسطين إلى كل فلسطين…. وتذكر تضحيات أهل هذه الأرض الطيبة، شمال الجليل وجنوب لبنان، التي لازالت تحوي رفات وقبور المئات من الشهداء… وتذكر تمسكهم البطولي براية الصمود والمواجهة.

عفيف الحنفي الفلسطيني اللاجئ من مخيم عين الحلوة تذكر أهله وما رواه الكبار عن سفر اللجوء من فلسطين إلى الجوار العربي… ومع ذاكرة الزمن البطيئة والأيام التي مرت بلا طعم سوى طعم الهزيمة تلو الهزيمة، وبقيت كذلك حتى انتصار المقاومة وطرد الاحتلال من جنوب لبنان، ومن ثم اندلاع الانتفاضة الثانية في فلسطين المحتلة.

في هكذا جو وهكذا وضع حمل عفيف الحنفي في كيس كبير كيس الهدايا كما بابا نوال في أيام الأعياد… كانت هدايا الغائبين والمشردين واللاجئين إلى الصابرين في الجليل والى المنتفضين في كل فلسطين… هدايا من المخيمات التي تصر على التمسك بحق العودة إلى المناضلين الذين يناضلون دفاعا عن حرية وسلامة فلسطين… من أجل نظافة البيت الفلسطيني… ورفضا لمنطق الذل والهزيمة والاستيطان والاحتلال والتنسيق معه.

عفيف الحنفي حمل الكاتيوشا كأغلى هدية بعدما قام شارون بهزيمة القمة العربية، من مكتبه حيث كان يدير جيشه الذي أخذ ينكل ويذبح بالفلسطينيين في الضفة الغربية.

لم يكن عفيف الحنفي من الذين يحللون الأمور بأعين الكاميرا الأمريكية ولا برؤى القمم العربية… ولا حتى بالنظرة السلطوية كما الحال في بلادنا العربية. كان يريد مساعدة أهله بأي طريقة كانت… وفعل هذا على الرغم من كافة الحواجز والعوائق والموانع والسدود والحدود ومعرفته بالعقاب في حال تم اكتشاف أمره.

بعد حين استطاع الأمن في الدولة الشقيقة الإمساك به واعتقاله. لكنه لم يستطع تقديم الدليل المادي الذي يدينه بنقل الكاتيوشا. فعفيف لم يعترف بالتهمة الموجهة إليه واستطاع الصمود لمدة ثلاثة أشهر تحت التعذيب الشديد وفي دهاليز السجون الشقيقة… ثم أفرجوا عنه لعدم وجود إثباتات كافية، فخرج من السجن وفي عقله كما قلبه بقيت فلسطين أقوى من عفن العرب ومن أقبية التعذيب ودهاليز السجون وأساليب المخابرات السادية.

عند عودته وعلى الطريق من السجن إلى البيت في المخيم المحاصر أو المعاقب، توفي عفيف الحنفي جراء نوبة قلبية شديدة وحادة ألمت به. مات عفيف الحنفي ومعه ماتت حملات التضامن العربية مع الانتفاضة الفلسطينية.. وماتت الشعارات العريضة والكبيرة. ومع موته الذي لم يتحدث عنه أحد ولم يُثر ضجة أو أزمة… هذا الموت الذي كانت من أسبابه تلك الشهور الثلاثة التي أمضاها في الدهاليز والأقبية بحثا عن الدعم المفقود والآخر الممنوع.

استشهد ابن المخيم الفلسطيني، اللاجئ الذي لازال ينتمي لكامل تراب الوطن الفلسطيني وهو يدافع عن حق الانتفاضة في تلقي الدعم والإسناد من العروبة، التي فقدت حتى قدرتها على الدعم ولو بالكلام أو عبر المظاهرات والمسيرات والندوات.

نم هانئا يا عفيف القلب واللسان والعقل… يا عفيف الحنفي…

نم هانئا فجيل الانتفاضة لازال يعاندهم ولازال يقاتلهم… وسوف يبقى يقاومهم حتى زوال الاحتلال وعودة أهل البلاد إلى كامل التراب الذي أحببت ولازلنا كلنا نحب.

نضال حمد كتبت في أيلول – سبتمبر2002

اعادة نشر في 15-2-2022