الأرشيفعربي وعالمي

المقاومة بين السلبيات والإيجابيات – منير شفيق

ملحوظات حول مقالة “ثغرات لا بدّ من سدّها في جدار الصمود الفلسطيني في غزة”، بقلم الأخ د. أحمد العطاونة، كتبت بمناسبة “مرور مائة يوم على معركة طوفان الأقصى”. ونشرت في “الجزيرة نت”، في 17 يناير/ كانون الثاني 2024.

بداية، تحدد المقالة أن الوضع الفلسطيني في مرحلة الصمود، فيما معركة “طوفان الأقصى” عملية هجومية كبرى، وجاءت فاتحة للخروج من “جدار الصمود” لبدء مرحلة الدفاع- الهجوم الإستراتيجي، أو بلغة الإستراتيجية، نقلت المقاومة الفلسطينية من مرحلة الدفاع الإستراتيجي، والهجوم التكتيكي، إلى مرحلة “شبه التوازن الإستراتيجي” – مرحلة الإعداد للهجوم العام.

وهذا ما يفسّر تركيز المقالة على الثغرات التي تواجه المقاومة والقضية الفلسطينية، وتهدّدهما بأشد الأخطار، وذلك بدلًا من التركيز على الإيجابيات، التي تسمح بانتصار المقاومة والشعب في غزة على حرب الإبادة والعدوان. فكسْب الحرب الدائرة، لا يخدمه إبراز ثغرات في الوضعَين: العام والخاص. وهي ثغرات لا يمكن معالجتها فورًا، كما سنرى. فمن يخوضُ حربًا يريد الانتصار فيها، يُبرز الإيجابيات في جبهته، والسلبيات في جبهة عدوّه.

إشارة غامضة

وفي المقدمة التمهيديّة للمقالة، تقول: “بأن طوفان الأقصى تستحق كل ما قيل فيها من إشادة”، ثم أسرعت لتقول: “لو وجدت الإرادة الكافية للاستثمار فيها لشكّلت منعطفًا تاريخيًا يقود إلى تغيير الواقع السياسي للعديد من الدول العربية والإسلامية في المنطقة، ولكانت بداية النهاية لحقبة من الهيمنة والاستعمار والعربدة في المنطقة كلها”.

والسؤال، هذه الإشارة الغامضة إلى “عدم وجود الإرادة الكافية”، إرادة مَنْ في معركة “طوفان الأقصى”، أفلا يخشى أن تكون “ضربة تحت الحزام” للقيادة- القيادات المعنية في استثمار معركة طوفان الأقصى، والتي ما زالت محتدمة، ما انتهت بعد؟. ثم لاحِظوا المطلوب من هذه “الإرادة الكافية” بأن تغيّر “الواقع السياسي للعديد من الدول العربية والإسلامية…” ولإطلاق “بداية النهاية لحقبة من الهيمنة والاستعمار والعربدة في المنطقة كلها”. مما يعني أن توفير هذه “الإرادة” تعجيز وأيّ تعجيز؟

والآن ما هي الثغرات التي لا بدّ من إبرازها من أجل “التحرك الفوري لسدّها ومعالجتها”؟

الثغرة الأولى: “عدم انخراط كافة المكوّنات الفلسطينية في المعركة” ويقصد الضفة الغربية، وأراضي الـ48 والشتات الفلسطيني.

هذا الحكم الإطلاقي، كما هو حال كل حكمٍ إطلاقي عمومًا، يحمل ظلمًا، ويتنكر هنا، بصورة خاصة، للضفة الغربية، مقاومةً وشعبًا، وما قدّمته، وتقدمه، يوميًا من مواجهات، وشهداء وجرحى، ومعتقلين بالآلاف. والوضع في تصاعد وتواصل. ويظلم أهل الشتات، وما قدموه بهذا القدر أو ذاك. ثم لا يَعذُر فلسطينيي الـ48، ووضعهم الصعب للغاية، وهم الذين لم يقصروا مثلًا في حرب “سيف القدس”، وينسى أن تحت الرماد جمرًا ولهيبَ غضب.

نهجان متباينان

هنا فارقٌ بين نهجين: نهج يقول للمقاوِم الفلسطيني والشعب في غزة “ترككم الشعب الفلسطيني، ولم ينخرط بكل مكوّناته معكم”. ونهج يقول الشعب الفلسطيني بأغلبيته الساحقة معكم، وهو يحاول أن يصعّد مشاركته يوميًا في نصرتكم، وأن الرأي العام الفلسطيني يحيطكم بحبٍ وإعجاب وتأييد، غير محدود، ويتفطر ألمًا وغضبًا، وهو يرى المجازر. وقد وقف بحزم إلى جانبكم، ملتفًا حول “طوفان الأقصى”، أمس واليوم وغدًا. وإن غضبه القادم لشديد.

والأنكى أن المقالة تفسّر حكمها الإطلاقي “عدم انخراط كافة المكوّنات” بالقول: “لعل هذه من أهم الأزمات التي عانى منها النضال الوطني الفلسطيني على مدى عقود طويلة، إذ لم تتمكن قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية، ولو لمرة واحدة، من أن تجند كل مكوّنات الشعب الفلسطيني في كافة أماكن تواجده في معركة مشتركة في مواجهة الاحتلال”.

ولكنْ السؤال: إذا كانت هذه الأزمة معوّقة إلى هذا الحد، فكيف يفسّر ما وصلته المقاومة اليوم، من منعة وقوّة وتقدّم، إلى حد مواجهة جيش الكيان الصهيوني في غزة، ندًا لند، وبتفوّق عليه؟ وسؤال ثانٍ لماذا يشدّد على هذه الثغرة، وغزة في أَوْج حربها ما دامت هذه الأزمة مزمنة، ولم تتمكن قيادة وطنية من حلها. أفلا يعني هذا تعجيزًا فوق تعجيز؟. لأن المقالة تطالب بحلها فورًا.

الثغرة الثانية: وهي المتعلقة بالسلبية التي يمثلها “الأداء السياسي للقيادة الرسمية الفلسطينية م.ت.ف، والسلطة الفلسطينية”. وهنا أيضًا كيف يجب أن نقدّر مدى خطورة هذه الثغرة، مع ما وصلته المقاومة، بالرغم من وجودها، على مستوى عالٍ جدًا، تخطاها “طوفان الأقصى”.

والأنكى مع إبراز هذه الثغرة، تضع المقالة أملًا في معالجتها، بقولها: “إن الوقت ما زال متاحًا والضرورة ما زالت ملحّة لتحرك وأداء سياسي يرقى لمستوى هذه المواجهة”. ولهذا لننتظر هذا الأمل في تقدير المقالة لهذه الثغرة، إن كان سيتحقق؟

مواقف حكيمة

الثغرة الثالثة: النص: “إن الانقسام الفلسطيني أيضًا ثغرة كبيرة في المشهد”. والسؤال: أيضًا، لو كانت هذه ثغرة بالخطورة التي تصفها المقالة، لما كان “طوفان الأقصى”، وما كانت المقاومة بهذه القوّة. بل أثبتت التجربة، بالعكس أن وجودها كان سببًا إيجابيًا في تطوّر المقاومة.

لو تناولنا هذه الثغرة من زاوية أخرى، لوجدنا التهويل بموضوع الانقسام، يؤدي، عمليًا، بوضع طرفيه في سلة واحدة. وفي هذا إساءة للطرف- الأطراف المقاوِمة. وفيه إبعاد للخلاف السياسي والإستراتيجي، أي إبعاد لما يجعله مسوّغًا ولا مفرّ منه.

ثم لنقرأ هذا التوبيخ للفلسطينيين، وبإطلاق (ليس فيه “إلّا الذين”، والـ “ومنهم من”) تقول المقالة: إذا كان في ظل هذه الدماء الغزيرة والمجازر التي لا تتوقف لا يستطيع الفلسطينيون تجاوز انقساماتهم فمتى يمكنهم ذلك؟”. هنا لم تلحظ هذه “الثغرة” بأنَّ من بين من تعنيهم، مقاومي غزة وشعبها وقيادة المقاومة فيها، الذين وحدّوا صفوفهم، في الأقل. والأهم لم تلحظ بأن الأغلبية الساحقة من الفلسطينيين، وقيادات الفصائل والنخب توحّدت مواقفها، في دعم “طوفان الأقصى” والمقاومة، والشعب في قطاع غزة.

هذا يعني أن الحديث عن الثغرات في وادٍ، والواقع والمقاومة في وادٍ آخر.

الثغرة الرابعة: وتتعلق: بـ “غياب الظهير العربي والإسلامي الرسمي، وضعف التفاعل الشعبي” وقد اعتبرته المقالة “خِذلانًا للمقاومة. ثم تذهب فورًا في نقد موقف قادة المقاومة (المرة الأولى والوحيدة تذكر المقالة وجود قيادة للمقاومة)، بسبب تعاليهم “على الجراح” واستمرارهم “في التعامل مع العرب والمسلمين، حيث يستمرون في مناشدتهم وشكرهم والإشادة ببعض مواقفهم على ضعفها”. وتتابع المقالة قائلة: “إنَّ ألمهم وشعورهم بالمرارة كبير جدًا”. ثم تُنحي باللوم، أيضًا على “أمّة يزيد عددها على مليارَي إنسان، ولديها من الإمكانات والمقدرات الكثير، تعجز عن مدّ يد العون لشعب مضطهد، هو بالأساس يقاتل نيابةً عنهم”.

أولًا: إن موقف المقاومة وقيادتها بعدم وصف المواقف الضعيفة، أو الموقف الشعبي، أو المواقف “غير الكافية”: “بالخذلان”، هو الموقف الصحيح والحكيم، راهنًا ومستقبلًا. فمن يخوضُ حربًا عسكرية عليه أن يبرز الإيجابيات مهما صغرت، لأهميتها في حشد أوسع جبهة حول المقاومة. وذلك بدلًا من تجميع السلبيات والثغرات وتضخيم خطرها. فجمع الإيجابيات يقوّي المعنويات، وجمع السلبيات يثبط ويخذل ويوهن، معيدًا للشعار “الفلسطيني” المدمّر: “يا وحدنا”، والذي قاد، مع أسباب أخرى، إلى اتفاق أوسلو.

ثانيًا: إن استخدام وصف “الخذلان”، لما يعتبر ضعفًا، أو “غير كافٍ” من شأنه أن يبذر العدائية. لأن تهمة الخذلان تقرب من حدود “الخيانة”. وفي هذا قِصرُ نظر، وتدمير للتحالفات راهنًا ومستقبلًا.

ثالثًا: من الظلم ومن الخطأ جمع كل من الموقف الشعبي وموقف الأمة، مع المواقف الرسمية. كما من الخطأ السياسي والشرعي التبخيس، وبإطلاق من أمّة الملياري إنسان (مسلم). وهي الأمّة التي أشاد بها القرآن.

إن المقاومة في فلسطين عمومًا، وفي غزة، خصوصًا حظيت بالكثير من أشكال الدعم المعنوي والسياسي والعسكري والمالي. مما ساعدها لتصل إلى ما وصلته الآن.

إن الرأي العام العربي والإسلامي، حتى لو لم يترجم إلى تظاهرات مليونية، في كل بلد عربي وإسلامي (لأسباب متعددة) سيظل عظيم الأهمية في مجرى الصراع مع العدو الصهيوني، راهنًا ومستقبلًا. وإن من يَجُسَّ نبض الشارع (وهو ما تفعله الدول الكبرى يوميًا)، يلمس مخزون الغضب الملتهب ضد جرائم الإبادة والعدوان، التي ارتكبت، وترتكب في غزة. وأضفْ مخزون الاعتزاز ببطولات المقاومة. ومن ثم من لا يضع هذا في ميزان القوّة الراهن والمستقبلي (الأمّة)، لا يعرف أهمية احترام الأمّة وتأثيرها حتى العسكري في الحرب، وإلّا هي العدمية التي لا تبقي للمقاومة، مؤيدًا أو صديقًا أو حليفًا أو شعبًا أو أمّة.

جبهات قتالية

الثغرة الخامسة: “عدم وجود دعم عسكري للمقاومة”، برغم الهوّة “في موازين القوى العسكرية؛ نظرًا للانحياز الغربي المطلق للاحتلال، وعدم جرأة أيّ من الدول العربية والإسلامية، أو حتى القوى الدولية… على تقديم دعم ملموس ومباشر ومادي للمقاومة الفلسطينية”.

المقالة هنا تقول: “بعدم وجود” دعم عسكري للمقاومة، وهي تعرف أن جبهة قتالية فتحت منذ الثامن من أكتوبر/ تشرين الأول في جنوبي لبنان. ودار فيها- ولا يزال- قتال عنيف. وقد ارتقى فيها ما يزيد على 170 شهيدًا من قادة وكوادر من حزب الله. ومسارها متصاعد.

وتعرف المقالة بأن اليمن دخل الحرب ضد أميركا وبريطانيا بسبب تعطيل الملاحة الدولية في باب المندب والبحر الأحمر. وذلك بسبب حظره للسفن القادمة أو المتجهة إلى الكيان الصهيوني. وذلك إلى جانب قصفه لأم الرشراش. وقد أعلن مشاركته في الحرب، إلى أن يوقف إطلاق النار في غزة.

هذا وتعرف المقالة بالصواريخ التي تطلق من العراق، وبأن الجبهة مفتوحة أصلًا في سوريا. وقد راح الكيان الصهيوني يحرض ضد إيران متهمًا إياها بأنها وراء كل ذلك.

على أن المقالة لا تعتبر ذلك “دعمًا ملموسًا ومباشرًا وماديًا للمقاومة الفلسطينية” ومن ثم، بناءً عليه، تعتبر الدعم الملموس والمباشر هو إعلان الحرب الشاملة من جانب الداعمين، وإلاّ فليس ثمة وجود لدعم. وبهذا يكون الدعم المطلوب تحويل الحرب على غزة، إلى حرب إقليمية شاملة، لتصبح عمليًا حرب المتدخلين، وإلّا فلا. أي ما عدا ذلك فليس، بدعم ملموس ومادي ومباشر.

وبهذا يكون المطلوب من قيادة المقاومة أن تخرّب علاقاتها بحلفائها وداعميها وتتهمهم بخذلان المقاومة. فيا للسياسة “الحكيمة” تُنصح بها المقاومة راهنًا ومستقبلًا. ولنصرخ “يا وحدنا”، وإلى أين المصير، فليس مهمًا.

على أن المقالة تفسّر “التوازن القائم” بالرغم من الفرق الكبير في القدرات العسكرية بأنه يعود “إلى البطولة والصمود والثبات الفلسطيني”، فالذي رجح المعادلة لصالح المقاومة: “هو الإنسان الفلسطيني المقاوم والاستثنائي”

وبهذا تُختصر المقاومة التي رجحت المعادلة لصالحها في بُعد واحد وحيد “هو البطولة والصمود والثبات الفلسطيني”، هو الإنسان الفلسطيني المقاوِم والاستثنائي. ولكن أين ذهبت المقالة بدور القيادة التي قادت وتقود هذا الإنسان الفذ، القيادة التي قادت عملية حفر الأنفاق، وما أدراك ما دور الأنفاق في هذه الحرب؟. وأين القيادة التي خططت وصممت وقادت المقاوِم الفلسطيني في السابع من أكتوبر/ تشرين الأول؟. وقادته في حرب العدوان البريّة، وأسهمت في تعزيز روح الصمود والثبات الشعبي. وأخرجت الإعلام الكاسح الذي مثله “أبوعبيدة”.

ثم أين ذهبت المقالة بكل العوامل الأخرى التي تراكمت لتصل المقاومة إلى هذا المستوى، تاريخيًا، وخلال الانقسام “المذموم” الذي جعل من غزة قلعة مقاومة جبارة. ثم دعك من عوامل الاهتراء في جبهة العدو وكيان العدو.

وبهذا فإن مقالة إبراز الثغرات، وعدم ذكر الإيجابيات ختمت مسارها لتسكن في وادٍ غير وادي المقاومة والشعب في غزة، بعد مائة يوم وراهنًا ومستقبلًا قريبًا.

28-1-2024