وقفة عز

الناموس في عالم السياسة

نضال حمد

الناموس تعني ناموس الرجل أي صاحب سرّه الذي يطلعه على باطن الأمور وما يستره عن غيره. وهو مشتق من نمس بالكلام إذا أخفاه. وهي أشد من همس. ويقال : نمس الصائد إذا اختفى وأهل الكتاب يسمون جبريل عليه السلام بالناموس الأكبر لأنه يخفي حنين يلقيه إلى الرسل عن الحاضرين فلا يسمعوه. والناموس : حشرة صغيرة ومزعجة.

أما الناموس السياسي فهو من أخطر أنواع النواميس الصغيرة والكبيرة المفرحة والمزعجة التي وصلت لما وصلت اليه بفضل سمسرتها لأهل الحكم، ووضع نفسها في خدمة الحاكم خدمة له ولنفسها وللنواميس الأخرى، التي تكاثرت بفضل تفاعلها الإيجابي مع سلام الشجعان العجائبي. هذا السلام الذي جاء بها والذي سيأخذها معه حين يتم استبداله بالسلام الحقيقي والواقعي والمشرف والعادل والشامل والكامل المتكامل. السلام الذي ستفرضه الانتفاضة الشعبية الفلسطينية بمقاومتها وتضحياتها وصمودها عاجلا أم آجلا.  

كنت أود الكتابة عن جائزة نوبل وكيف أنها تمنح عنوة وعن سابق إصرار للكتاب الذين كتبوا أو لازالوا يكتبون عن أشياء لها علاقة بالمحرقة وبما فعلته النازية باليهود الأوروبيين، وبالأوروبيين أنفسهم وإن كانت الويلات تلك توزعت على الجميع لكن بتفاوت.

أحسن الصديق الأديب الفلسطيني رشاد أبو شاور فعلا حين كتب مقالة كاملة وحامية في ” فصل المقال” العدد الحالي عن هذا الموضوع… الذي لطالما ظل حكرا على مجموعة من الناس الذين تمرسوا في البحث عن الكُتاب والأدباء من أصول يهودية لكي يمنحوهم تلك الجائزة بكافة فروعها، وبالأخص الفرعين السياسي والأدبي. فالأجندة التي مازالت تضم تلك الأسماء الفائزة أو التي منحت الجائزة تكفي وتوفي بالغرض. فإذا لم يكن الفائز يهوديا فهو صهيوني بالفكر أو متصهين بالكتابة والانتماء السياسي والاعلامي. إلا في حالات فريدة ومتفرقة لم يخل فيها الأمر من رائحة سياسية لها علاقة باليهود والصهيونية وأمريكا والمحرقة والعداء للشيوعية سابقا وللإسلام لاحقا. فتلك أصبحت ثابتة من الثوابت التي تحكم اختيار الفائز أو الأديب الذي يتم اختياره من قبل أصدقاء (إسرائيل) في لجان نوبل التي تسيء باختياراتها لمعنى الجائزة ومعاني السلام.

تم منح الجائزة للأديب اليهودي الأمريكي المتعجرف ألي فيرزل وكذلك للكاتب التورنيدادي البريطاني المتصهين نايبول، والآن للمجري اليهودي ايمري كيريتش الذي قضى عمره يكتب عن المحرقة… حيث توقفت عقارب حياته هناك ولم تتقدم إلى الأمام إلا بدفعات صهيونية، كانت ولازالت تدفع به وبأمثاله للكتابة عن الماضي اليهودي، وعذاباته من أجل التغطية على الحاضر اليهودي واجراماته… اجراماته المتمثلة بأعمال وأفعال (إسرائيل) الصهيونية. أي الوطن الروحي لكل صهاينة يهود العالم كما يدعون. وجائزة نوبل ألفرد للسلام لا تختلف كثيرا عن جائزة الفريد نوبل للآداب فكل جوائز نوبل كانت تمنح للذين يعادون المعسكر الاشتراكي سابقا… مثل ليخ فاليسا قائد نقابات عمال بولندا المعروفة باسم التضامن” سوليدارنوش” وغيره من أمثال غورباتشوف المسؤول الأول عن هدم المعسكر الاشتراكي من أجل حفنة من الدولارات الأمريكية والماركات الألمانية.

هذه الجائزة مخصصة لكل الذين يعملون من أجل عالم على الطريقة الأمريكية والصهيونية. حيث الفكر الأمريكي هو الفيصل والروح الصهيونية هي الجوهر.

فهل هناك بشاعة في الحياة أكبر من أن يحصل مجرم دولي وقاتل إرهابي كما مناحيم بيغين” مجزرة دير ياسين وغيرها من المذابح “على جائزة نوبل للسلام؟ … نالها مناصفة مع الرئيس المصري المقتول ولا اسف عليه، أنور السادات، الذي كان حاكما مستبدا وأرعنا ومتخلفا، تفرد بالسلطة ووضع الحياة النيابية والديمقراطية جانبا، وفرض سياساته بالقوة والقمع، وفتح السجون على مصراعيها، وقمع شعبه بلا رحمة… كما سمح لقوات أمنه بتجويع الناس واعتقالها والزج بها في السجون، فقط لأنها تظاهرت رفضا لسياساته العقيمة، التي لا تخدم القضية العربية، ولا الأمن القومي المصري، ولا تجلب سلاما سوى لأعداء مصر.

ثم توالت الجوائز فتم منحها لرابين مكسر عظام أطفال الانتفاضة الفلسطينية. ولشيمون بيريز الأب الروحي لنظام التسليح النووي الصهيوني، وبطل مذبحة قانا الشهيرة في جنوب لبنان 1996. نالاها مناصفة مع الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات، الأخير نالها كمكافئة له على تنازلاته الخطيرة جدا في اتفاقيات أوسلو … وعرفانا وشكرا له على مشاركته في سلام أوسلو، وتقديمه ما عجز حتى السادات عن تقديمه للصهاينة. عرفات في أوسلو تنازل عن كل الثوابت الفلسطينية، التي لم يكن أحد غيره ليجرأ على مسها. وعرفات هو نفسه الذي أطلق على اتفاقية اوسلو “سلام الشجعان” ومازال يتمسك بهذه التسمية رغم كل ما تمخض عن مجزرة أوسلو التفاوضية.

ايها السياسي أينما كنت عليك اجتياز امتحانات الولاء لبيت الطاعة الأمريكي والصهيوني أولا ومن ثم العمل لما فيه خدمة البيت الأبيض اللعين، حتى تستطيع أن تترشح من ضمن الذين يتم ترشيحهم من قبل لجان نوبل لنيل الجائزة. وهذه اللجان هي بطبيعة الحال لجان تهيمن عليها غالبية من الأوساط والشخصيات الأوروبية المعروفة بولائها الشديد (لإسرائيل) ظالمة أو مظلومة.

والآن نعود من صقيع اسكندنافيا ولعنات نوبل ومعهده الذي أمر من قربه على الأقل مرة أو مرتين في الأسبوع إما بالسيارة الخاصة أو بالأوتوبيس أو الترام. فمنذ حوالي السنتين أصبحنا نراه ونمر من قربه كلما تظاهرنا احتجاجا على ممارسات ومجازر (إسرائيل) ومواقف أمريكا، لأن السفارتين الأمريكية و(الإسرائيلية) موجودتان في نفس المنطقة تقريبا. حتى مركز نوبل في أوسلو أصبح محاطا بسفارتي أمريكا و(إسرائيل) كأن ما فيه من متصهينين لا يكفيه

وموضوع الناموس لازال كالكابوس إذ قبل أيام قال مسؤول أمني فلسطيني رفيع أنه استقال من منصبه لأنه يختلف في أسلوب العمل والرؤية مع رئيسه الذي كان له وحده الفضل في جعل هذا المسؤول مسؤولا، وفي توليه عدة مناصب أمنية وسياسية جلبت لشعبنا المزيد من الأزلام والمماليك والآلام. هذا المسؤول الرفيع والذي هو من معسكر النواميس المزعجة التي كانت صغيرة وكبرت حتى صارت نواميس كبيرة الحجم، وكثيرة الإزعاج، وقليلة العمل، وطويلة اللسان. الناموس الأمني ه قرر أن يلتحق بالنواميس الأخرى التي تركت سيدها محاصرا، وفضلت الابتعاد عنه والضغط عليه مع كل الضاغطين لدفعه على القبول بإملاءات أعداء الانتفاضة. وهذه الأنواع من النواميس السياسية ترفض التنحي جانبا وفقا لرأي الجماهير وعملا بما فيه خدمة القضية والوطن. لأنها بهذا سوف تخسر امتيازاتها الكثيرة وستعود لأحجامها الطبيعة الصغيرة.

 الآن أريد أن أترككم تقارنون ما بين موقف هذا المسؤول الفلسطيني وموقف السفير الإسباني في بغداد السيد فرناندو فارديلما، الذي قدم استقالته من منصبه احتجاجا على موقف حكومة بلاده المؤيد للحرب الأمريكية على العراق. وشدد السفير المستقيل على أن قراره بالاستقالة نابع من منطلقات أخلاقية ومهنية.

أنظروا مدى وضوح كلماته وكِبَر معانيها وكذلك مدى وفاء السفير فرناندو للبلد الذي عمل فيه، ولأخلاقيات المهنة، ولروحه الإنسانية الحيّة والعالية. فهذا السفير مثل الناموس الذي يحفظ سره ويحمي أسراره من تفاهات الاختباء وراء شعارات وكلمات سياسية ودبلوماسية كاذبة ومنافقة ومخادعة. لأنه الوفاء لبعض من السنوات التي عمل خلالها هذا الرجل، سفيرا لبلاده في بلد محاصر بالحرب وبحالة عداء واستعلاء ورياء أمريكي، تدعو للتقزز والقرف من أمريكا وكل من يدور في فلكها من الصعاليك والمماليك.

هكذا هم الرجال وتظهر رجولتهم وقت الشدة وفي الأزمات ووقت تحتاجهم الحقيقة. أما كلمة الحق التي فقدها عالمنا العربي بسبب عجز حكوماته عن قولها والتفوه بها أو حتى محاولة نطقها. وكلمات القادة العرب أحيانا تكون كاللكمات لأنها أي النواميس العربية الصغيرة جدا والمزعجة جدا… نواميس لا ترى بالعين المجردة، بل على المرء أن يستعمل مايكروسكوب حتى يستطيع رؤيتها.

والى أن تزول النواميس هنا وهناك علينا البحث عن سبل الخروج من أزماتنا بقناعاتنا وبعيدا عن تدخلات الأغراب والأعداء.

 

نضال حمد

18-10-2002