من هنا وهناك

براءتي انتحار شعر علي حتر

من القصيدة التي اكتملت (تفعيلة بحر الرجز)

 

عن مواطن  بريء لم يفكر يوما بالقتال

براءتي انتحار

شعر علي حتر

ماذا هناكْ

مالي أرى الشارع في ارتباكْ

يعج بالصراخ والعراكْ

تملؤُه الرّهْبهْ

من كل ما يدورْ

أو كل ما يوشك أن يدورْ

والناسُ..

أهلي الطيبونْ..

ماذا بهمْ؟

مالي أرى الأهداب والجفونْ

مرهقة تعْبهْ

 مذهولة حزينهْ..

حائرة.. تفتقد السكينهْ

هل هذه مدينتي.. نَفْسُ المدينهْ؟

أمس فقط..

لم أبتعد حقْبهْ

كنت أرى مدينتي..

شوارعي.. أزِقَّتي..

بردا وطمأنينهْ..

مالي أراني اليوم حيثما أسيرْ..

أسمع أجراس الحريقْ

واللطم والزعيقْ

وغصة البكاءْ

وضجة الإسعاف تملأ الأنحاءْ..

من في الزوايا كامنونْ؟

من هؤلاءْ؟

ذوو الوجوه اللاثمهْ

والقاتمهْ..

من أي صوْب أقبلوا..

كيف تراها انتشرت وجوههم

في حيِّنا.. تختالْ

وكيف في أعماقنا توغلوا..

تلك الوجوهْ..

ليست كَمنْ يأتوننا

زُوّار َصيْفٍ كل عامْ..

بالحب والسلامْ

لِم السواد لفّهم حتى العيونْ؟؟

لم السواطير مُدلّاة من الحزامْ

عيونهمْ ترنو.. ومن تحت القناعْ

تُحْدق بالغيظ إلى الكبار والصغار..

ويلِيَ.. لا أعرف منهم واحدا

هل تعرفون صاحبأ من بينهم أو جارْ

جيرانِيَ القُدامُ في مدينتي..

في الأمس عنها ارتحلوا..

دون وداعْ..

قالوا بهمس.. إنما رحيلهم.. قد كانْ

خوفا على الأطفال والنساءِ..

والكهولْ..

لله درُّهم..

لإنّي ما فهمت قولهم..

ولا أزالْ

تكلموا عن خوفهم

من سطوةٍ مع الظلام قادمهْ

جائحةٍ وداهمهْ

ومن خلايا نائمهْ..

وما فهمت قولهم..

ولا أزالْ

كيف خليةُ تنامْ؟

وما هي الخلية التي تنامْ..

…..

أكبر من فهمي الكلامْ

…….

أرجع للسؤالْ

ماذا هناكْ

تلك الوجوه اللاثمهْ..

خلف القناعْ

كامنة وجاثمهْ

وما الذي أثارها؟؟

ابتدأتْ.. يا للعجبْ

تُلعلع الرصاص في الهواءْ..

في كل قرنة من المكانْ..

لا أعرف السببْ

مَنْ قرّر استنفارها؟؟

وهل دعاها للنفير داعْ

….

أكبر من فهمي الكلامْ

…..

“مالي ومالهمْ”

قرب الجدارْ

لا بأس أن أسيرْ

لأنني بريء..

وقرب ذلك الجدار اعتدت أن أسيرْ

وأطلب الستر والاستتارْ

ورغم أن الدُرّة الصغيرْ

مزقه الرصاص مرة..

لِصْقَ جدارْ

في وضح النهارْ

“أبعدْ عن الحائط يا ختيارْ”

اللاثم الجبارْ

جلجل صوتُه..

ورشاشُهُ نحو جُثَّتي أدارْ

ذكّرني بالدُرّة الصغيرْ

فانْصعْتُ للأمّارْ..

وربما..

لو لم تخُرْ قوايَ..

لذتُ بالفرارْ

…………….

الفرن دون نارْ

ولا أرى الفرانَ في الجوارْ..

والولد الأجيرْ

بالحاجبين لي أشارْ

وخافتا بصوته..أكمل باختصارْ

“ما جاءنا الطحينُ في هذا النهارْ

حتى لجارنا الخَضّارْ

لم يصلِ الخُضارْ”

ما عاد لي بالخبز رغبهْ

فأنني أتيت أُرجِعُ الحفيدْ

للبيت بعد المدرسهْ

أرْجِع بالصغير أوَّلاً..

وأشترِي الخبز إذا جاء الطحينْ

حين أعودْ

سألت صاحب الدكانْ

هل عادت الحافلة التي

في كل يوم.. تُنْزل الأولادْ

أمام دكانتهِ..

مال قليلا ثم قالْ

“لم يرجع الأطفالْ

ولم أرَ الأولاد والأحفادْ

فالحافلهْ

سائقها قتيلْ”..

ثم انثنى وقال هامسا..

“سائقها شهيدْ”

ماذا تقولْ..؟

مُدلّلي الوحيدْ

سوف يعود دون حافلهْ

ملتصقا يسيرُ.. بالجدارْ

يا ويلتي..

ماذا إذا شاهده الملثم المختالْ

وغافَلَهْ؟

كالدرة الصغير غافلهْ

وصَلْيَتَيْن ناوَلَهْ؟؟

…………………

تحدثوا في نشرة الأخبارْ

عن مصدرٍ..

لم يكشفوا مجاهلهْ

ألقى على رؤوسنا قنابلهْ

حلت بنا من السماءْ

نيازكا.. لاهبة مِن لا مكانْ

مِن مصدر مجهولْ..

على الرصيف.. انفجرتْ..

ومزّقت..

مجموعة من أبْرياءْ..

أنا بريءْ..؟

بالله ما.. معنى بريءْ..

…………

حين يضج الجو بالقنابل البلهاء

أسمعها.. تصرخ بي..

شامتةً وبازدراءْ

“ما من بريء عندنا..

وكل مَنْ يدبُّ فوق الأرض..

إمّا أن يكونْ

ضحيةً مبعثر الأشلاءْ..

أو أن يكونْ

في أحسن الأحوالْ

ضحيةً مقطع الأوصالْ

وعند قومنا..

من لم يكن ضحيةً

حتى مساء يومنا..

غدا يكونْ..

وكل من ما هان عنْدَ عِلْمنا..

غدا يهونْ”

وما فهمت قولها..

ولا أزالْ

كان لدى الجيرانْ..

ابنٌ من الذين يغرقونْ

في الصفحات والسطور والأسفارْ

كان يقول لي.. بحُرقةٍ المُلتاعْ

إنا نعيش في صراعْ

وإنهُ.. لا أبرياء في الصراعْ

كما يقول ثائر يرفض أن ينصاعْ

كبَّله السُفَّل منذ جيلْ

في قلعة الباسْتيلْ[1]

من بعد  أن سلَمه

وخانه الأشرارْ

كان يقولْ..

وليس في الصراع إلا خندقان..

إما يمين أو يسارْ

ولا خيارْ..

وكل مَنْ بينهما

إما يكون جاهلا..

أو بائعا.. غدارْ

أو أنه حمارْ..

لله درّ صاحبي.. سميته “الثرثارْ”

ويلي.. لِأني ما فهمت حينها ما قالْ..

ولا أزالْ

أكبر مني كل ما كان يقولْ

وكل ما في رأسه.. كان يجولْ..

…..

لكنني اليوم بدأت أفهم الكلامْ..

مِن بقعة حمراء تصبغ الرصيفْ

من مقتل الفرانْ

وغيبة الرغيفْ

من موت ذاك السائق اللطيفْ

سائق باص المدرسهْ

من جثة الطفل الذي

مزقه حُطام ذاك الباص ثم هرَّسهْ

من هَرَبِ الجيرانِ من حارتنا

بلا وداعْ

من خوفهم على الصغار والكهولْ

وخوفهم من فضِّ عفة النساءْ..

بدأت أفهم الكلامْ

من غربة الرجال والجنودْ

في الوطن المغدورِ لا على الحدودْ

براءتي انتحارْ

لا بد أن أختارْ..

سأدخل الصراعَ حتى لا أكونْ

ضحيةً ممزقًا..

أنا الذي ما كنت أفهم الأخبارْ

ما كنت أسمع الأخبارْ

فلتأخذوني معكم يا أيها الجنودْ..

فبعْدَ هذا اليوم..

لن أبقى ذليلا في قطيع الأبرياءْ

أو جموع الأغبياءْ

ولم يعدْ لي الحق أن أحتارْ

لأنَّني فهمتها..

يكل ما في الكون من دماءْ

لا أبرياء في الصراعْ

لا أبرياء في الصراعْ

 


[1] كارلوس

اترك تعليقاً