وقفة عز

سنة ناجي العلي الجديدة – نضال حمد

اسمه ناجي العلي

، مهنته فنان الشعب من المحيط الى الخليج ، طلقته ريشته ومخزن رصاصه كاريكاتوراته، ولد كما قال حيث كانت ولادة المسيح ، بين طبريا والناصرة، في الشجرة بالجليل الفلسطيني الأعلى… ولم يبق من الشجرة سوى شجرات صبار صابرة على الوعد والمكتوب وصامدة تتحدى الحاضر والمستقبل، تحمل رائحة التاريخ المجبول بعرق الفلاحين، وتحمل تاريخ بلدة الشجرة. تتذكر الشجرة ويتذكر الصبار رحيل ناجي طفل العاشرة من تحت شجرته الى تحت رحمة السماء ومن ثم في خيام الشتات والعراء. في مخيم عين الحلوة، هناك كبر ناجي وكانت بداية الفكرة وشعلة الثورة ونار العطاء المغمس بالحبر الدموي، اكتشفه غسان كنفاني، فكان بطاقته الى العالم العربي، رحل غسان مبكرا وبعد سنوات لحق به ناجي العلي، بنفس الطريقة والأسلوب والتخطيط ، و بنفس الرصاص الهادف إلى كتم الأصوات الحرة. فالقتلة شركاء في قبر الحلم، في قتل الموقف، في ضياع الوطن والثورة، وشركاء في التصفيات وان اختلفت الجهات وإن تعدد القائمون على الاغتيال وأن تنوع المنفذون.

القبر رقم 230190

قال ناجي انه يذكر سنواته العشر الأولى ، سنوات الشجرة والجليل وفلسطين أكثر مما يذكر من بقية عمره. ذاك العمر الذي امتد به من الشتات العربي الى القبر اللندني، ففي مقبرة بضواحي لندن يرقد الشهيد ناجي في القبر رقم 230190 ، لم يسمحوا له بقبر في المخيم، ولم يسمحوا له بقبر في الشجرة تحت شجرته الباقية أطول عمرا من تاريخ الغوغاء والسخفاء.

مات ناجي بعد صراع طويل مع الرصاصات التي اخترقت رأسه،وبموته مات الذين أمروا بقتله، ماتوا وهم أحياء، لأنهم لا يجرئوا أن يرفعوا رؤوسهم ليواجهوا قامته أو ينظروا الى صورته، فهو فوقهم وأكثر متانة وقوة وصلابة منهم ومن مدارس موتهم.

الجريمة

(حوالي الساعة 13 : 5 من بعد ظهر أربعاء 22 / 7 / 1987 وصل ناجي العلي إلى شارع ” اكزويرت بليس” أ . س دبليو 3 ثم مشى عبر شارع ” درايكوت افنيو ” إلى شارع ” ايفز ” في وسط لندن حيث تقع مكاتب ” القبس – الدولية ” توجه سيراً على الأقدام في اتجاه مبنى مكاتب الصحيفة لقطع مسافة لا تزيد على ( 30 ) متراً ، وروى أحد زملائه في الصحيفة أنه رأى ناجي وهو يسير باتجاه المبنى من نافذة غرفته المطلة على الشارع حيث كان يتتبع خطاه شاب ” شعره أسود وكثيف ” يرتدي سترة من نوع ” الجينز ” لونها أزرق فاتح من طراز ” دينيم ” وبعد ذلك بثوان عدة سمع دوي ناري نظر على أثره من النافذة فوجد ناجي ملقى على الأرض ، في حين شاهد الشاب الذي كان يتعقبه يلوذ بالفرار إلى جهة مجهولة من شارع ” ايفز” الضيق.)

من هو المجرم؟

في حوار مع صحافي جزائري كشف مؤخرا الشاعر الفلسطيني المعروف عز الدين المناصرة عن اسم قاتل الفنان ناجي العلي، وقال انه العقيد عبد الرحمن صالح، الذي يعمل الآن في السلطة الفلسطينية … هل العقيد صالح هو فعلا قاتل ناجي العلي ؟

واذا كان كذلك فمن هم الذين أرسلوه لقتل فنان فلسطين الأول ولماذا؟.

وإذا كان الذي قتل ناجي العلي يعمل ضابطا في السلطة ، والذين هربوا من مواقع القتال في جنوب لبنان وبيروت والحبل والبقاع يعملون كذلك قادة وجنرالات في السلطة ، فمن سيحمي هذه القضية من هؤلاء ؟ ثم من سيحمي الوطن من محتليه الذين استبدلوا وجودهم المباشر بنوعيات لا تخيف أحدا بل تخاف هي نفسها من خيالها، لأنها تظنه شبح قاتل محترف أو مجرم يتتبعها لتصفيتها أو قتلها، تماما كما فعلوا مع ناجي العلي وغيره من الثوار والأدباء والرموز الشريفة.

الجينز الثوري..

وفقاً لرواية رجال الشرطة البريطانية أن ” الشاب المجهول الهوية “، الذي أصبح الآن معروف الهوية والاسم والرتبة ومركز العمل والسكن والجنسية، وقد بدل الجينز الثوري باللباس السلطوي. هذا الشخص القال بالتأكيد لم يكن وحده، إذ يقال أن هناك من شاركه الجريمة ومنهم من يعيشون أيامهم بوجوه وقناعات وطرق أخرى وفي بلدان عدة.

ترى كيف يفكر الآن القاتل الذي أطلق النار على ناجي العلي ؟

وكيف يتذكر خطواته وهو يسير بمحاذاته وهو يهم بإطلاق النار عن قرب على وجه ناجي ؟

وهل نظر في عينيه حتى رأى بياضهما ، كما كان فعل الإرهابي الصهيوني بارك يوم أطلق الرصاص على الشاعر الفلسطيني كمال ناصر في بيروت؟

وهل رأى رصاصته التي اخترقت صدغ ناجي الأيمن وخرجت من الأيسر ؟

وهل خشي القاتل عقاب أسياده بعدما رفض ناجي أن يموت على الفور وظل يقاوم الموت لمدة 38 يوما متتالية؟ وكيف عاش القاتل ال38 يوما التي عاشها ناجي بين الحياة و الموت ؟

يا لعار رجولتهم وبنادقهم التي اعتادت توجيه رصاصها للأشقاء والأصدقاء ، فتلك البنادق لم تكن سوى أدوات موت للإيجار، أدوات إعدام للأبرياء، رصاصها كرصاص الأعداء، لكنه اخطر لأنه يقتل الشرفاء ولا يمتد للأوغاد والعملاء. هؤلاء رجال بالاسم فقط لا غير، يسقطون في أول امتحانات الولاء لشعب الشهداء، يسقطون عندما يحتاجهم الوطن في فخ التعامل مع أعداء الوطن.

يوم السبت 29/ 8/ 1987

يوم السبت 29/ 8/ 1987 وبعد 38 يوماً من اصابته وبعد رفضه الخروج من عالم الأحياء ليدخل الى عالم الشهداء لمعرفته بصعوبة نقله الى قبر والديه في مخيم عين الحلوة، بقي ناجي يصارع الموت ويتحداه صامتا ، يتحداه بالبياض الذي كان يلفه في مشفاه الأخير، وبالشعر الأبيض الذي كان يغطي رأسه المصاب برصاص الأخوة الأعداء.

يوم استشهاده عم الخبر كل الدنيا فكان يوما حزينا لملايين البشر في فلسطين والعالم العربي، لأنه اليوم الذي اختطف منهم صباحاتهم الحنظلية، فقد كانوا يشترون الجرائد ليطالعوها من الصفحة الأخيرة حيث كاريكاتور ناجي العلي. لقد كان رسمه تحليليا أكثر من تحليلات السياسيين، كان يقرأ كقصيدة شعر أو خاطرة من نثر الكلام الحلو، كان مثل قصائد الشعراء المميزين، وأحلى من غناء الفنانين، كان حنظلي الثورة، كان يقرأ كأنه فنجان الفقراء المقلوب في زمن الوطن العربي المسلوب والشعب العربي المنهوب.

كان ناجي يقول :

” انا ارسم ولا اكتب احجية ولا أحرق بخور ،وإذا قيل ان ريشتي مبضع جراح، أكون حقت ما حلمت به طويلا. كما أنني لست مهرجاً ، ولست شاعر قبيلة – أي قبيلة – إنني أطرد عن قلبي مهمة لا تلبث دائماً أن تعود .. ثقيلة .. ولكنها تكفي لتمنحني مبرراً لأن أحيا . ” استشهد ناجي وهو يتأبط رسوماته اليومية، لم يكن يخاف الموت مع انه كان على موعد معه عند كل طلعة شمس، وكان يعرف أن الإخوة الأعداء هم الذين سيقتلونه ذات صباح او في مساء يوم ما، ورغم هذه المعرفة بالقاتل واقتراب موعد الشهادة، واجههم بكل كبرياء وبإرادة ابن مخيم حقيقي، تربى على الصدق والأمانة والانتماء لكامل تراب فلسطين، هذا الوطن الذي اختزله البعض ببضع كيلومترات من شبه حكم ذاتي محدود ومهدود.

يوم وجهت عائلته نداءها ونعته شهيدا للأمة تساءلت :

من الذي أطلق النار على ناجي العلي ؟

وأجابت :

( ليس مهما ذلك المأجور الذي نفذ الجريمة المروعة وإنما ذلك الوغد الذي أصدر أوامره بذلك. كما أنه ليس مهما أيضا (جنسية) ذلك الوغد، فقد يكون صهيونيا عربيا شيطانا…)

اغتيل ناجي العلي لأنه كشفهم وفضحهم وتحداهم وقال كلمة الحق التي كانت يجب ان تقال ، رسم العربي الحقيقي والعربي المتأمرك والآخر المتصهين، وفعل الشيء نفسه مع الفلسطينيين، فكان محكمة الشعب التي لا تساوم، لذا قدم أغلى ما يملك كي لا يساومهم وكي لا يدعهم يتلاعبون بمقدرات الشعب والأمة.

كان ناجي عنيدا على الحق ولا يسلم للمنبوذين وفق تقييمه الفلسطيني للناس وللعاملين في الثورة الفلسطينية. وكان حق الكلام وإعلان الموقف ورفع الصوت الحر عاليا من الحقوق المقدسة بالنسبة له ، أي كما حق الشعب الفلسطيني في كامل ترابه الوطني، وحق العشب العربي بكامل تربته العربية. 

12-7-1425 هـ