الأرشيفثقافة وفن

صلاح أبولاي شاعر مقاوم.. وهي صفة تكفي – رشاد أبوشاور

لا يحتاج الشاعر إلى صفة تفخيميّة تكريمية تمنحه مكانة تضيف إلى صفته التي تحدد (مهنته) أو (صفته) شاعر، فالشاعر هو شاعر والاعتراف تحققه موهبته بحضورها، وهي مكانة لا تمنح ولكنها تحفر بدأب و(شغل) ومواظبة، فالموهبة الخام لا تكفي، وكثير من الشعراء يركنون إلى الموهبة ويكتفون بها و..ينتهون مع جفاف الموهبة وضمورها وعدم نموها وتطورها.
صلاح أبولاوي شاعر من جيل غير محظوظ، وهذه ليست شكوى منه، أو منّي شخصيا، ولكنها تشمل شعراء كثيرين، وجدوا في زمن الجفاف، زمن أفول المجلات الكبيرة التي كانت تحمل إبداعات الشعراء والقصاصين وتذهب بها إلى أقصى مكان في بلاد العرب، وتحضرني في مقدمتها( الآداب) اللبنانية ذات الحضور الكبير عربيّا.
الشاعر نادرا، في هذه الأيام، ما يعرف في البلد الذي يعيش فيه، فما بالك بوصول صوته إلى بلد مجاور، وبلد بعيد، بعد أن اختفت، وأوشك أن أقول ماتت المجلات الثقافية الواسعة الانتشار؟
ولكن الشاعر صلاح أبولاوي، وهو من شعراء زمننا استطاع رغم الصعوبات أن يوصل صوته في فضاء بلاد الشام، وأن يحضر..وما هذا بقليل، في زمن تسيّد التكنولوجيا التي تأخذ أبناء وبنات هذه الأيّام إلى هموم بعيدة عن الشعر قراءة وسماعا..والذين نادرا ما تلحظ حضورهم في الفعاليات الشعريّة والثقافية بشكل عام.
صدرت له عدّة مجموعات شعرية على مدى سنين، وهذا يعني أنه معني بحضوره الشعري، وبتوصيل صوته إلى القارئ العربي، أقله في الشرق، والكتاب المطبوع شعرا أو نثرا، لا بد أن يصل إلى بلاد العرب البعيدة، فثمة من يتابعون ويتلهفون على متابعة آخر المنجزات الإبداعية.
هو كشاعر يمكن أن يوصف بأنه شاعر مقاوم، منحاز، منتم، وهذه الصفات تجعله شاعر غضب، لأن فلسطين قضيته، ولأن المقاومة هي انتماؤه الذي لا يحتاج لإعلان عنه، والمقاومة خيار واع مكلف، وليست دعاية بل هوية ثقافية، وطنية، وقومية، وإنسانية، وهي لا تكسبه، بل لعلها تخسّره، فصوته المقاوم غير مرحب به غالبا على المنابر، وفي المحافل، حيث يثير القلق والشك حضوره المحرّض..
من قبل صدرت له المجموعات: الغيم يرسم سيرتي، ويدور الكلام تعالى، وإني أرى شجرا..وهذا العنوان يحيلنا إلى المرأة العربية زرقاء اليمامة التي حذّرت قومها ونبهتهم إلى أنها ترى شجرا يمشي فلم يصدقوها..إلى أن اجتاحهم قوم التبّع ودمرّوا كل ما يملكون!.
أليست (مهمة) الشاعر أن يرى وينبه ويحذّر من الشجر الذي يمشي..ولا يكتفي، بل يحرّض على خروج (القوم) من رقادهم وبلادة حياتهم ليدافعوا عن (حياضهم) وكرامتهم و..وطنهم..وفلسطينهم؟ّ!
هذا هو الشاعر المقاوم، سيما والعدو مكشوف، ومعتد، ومحتل لأعز وأعرق الأوطان، ومع ذلك يوجد من يعارض الاشتباك معه ودحره و..تحرير الجزء العزيز المستباح الذي يستخدمه العدو منطلقا للعدوان، وكم هي صعبة ومكلفة مهمة الشاعر المقاوم في زمننا، في بلاد العرب!.
ولأن بيروت رمز للمقاومة المنتصرة، فهي التي كنست الاحتلال حتى أقصى الجنوب ، ودفعته لتجرّع كأس الهزيمة المّر..وها هو صلاح ينشد لها:
بيروت لا تموت
ستنهض الأشجار من رمادها
وتنهض الحياة والبيوت
… …
فكّل شئ مات قبلها
وكل شئ بعدها يموت
ووحدها تظّل قلبا خافقا
بيروت
بيروت لا تموت
(ص 62-63 بيروت)
قصيدة مكثفة مركزّة مشحونة، فهي بيروت التي صمدت..ثم قاومت بضراوة، وهي التي احتضنت المقاومة الفلسطينية، و خيّبت رهان الاحتلال العابر..وباغتته بلطماتها حتى زعزعت تواجده واقتلعته في ملحمة تليق بتاريخها العريق..وتاريخ المقاومة اللبنانية التي ولدت رغم ( الهزيمة) العابرة.والتي ما زالت تقاوم على طريق القدس.
في مجموعة ( عنان) منح الشاعر صلاح أبولاي حيّزا وحضورا للقصيدة المكثّفة، وشحنها بمعان تغنيها بأوسع من الحجم الصغير، وهو يلتقي بشعراء سبقوه لخيار القصيدة المكثفة المركزة المشحونة…
في قصيدة (يافا) تكون (القفلة) البارعة هي سّر العلاقة بين الشاعر والقارئ والمتلقي، وهي تشبه أن تكون بيانا ختاميا لعلاقة جيل بأرض وطنه، وهنا تتجلّى روح المقاومة والانتماء:
يافا
بلغت من العمر خسين عاما
وسبعا عجافا
فهل سوف يمتد بي الموت
حتى أطل على بحر يافا
فإن رفرفت بعض روحي هناك
علّقت قلبي على سور جدّي
فما مرّ عمري جزافا
( ص 64)
هذه هي القصيد كاملة، وهي لا تحتاج لتفسير، فهي تصل إلى روح القارئ وعقله وتعزز انتماءه لوطن روحه سواء أكان فلسطينيا أو من أي بلد عربي مجاور أو بعيد..ففلسطين قبلة الأمة المحتلة وهي تنادي وتهيب بالمؤمنين أن يهبوا لتحريرها.
لعلها مناسبة أن أشير إلى أن أحد ألمع شعراء القصيدة، لا أقول القصيرة، بل المكثفة هو الشاعر الكبير محمد لافي الذي اتخذها( ميدانا) لإبداعه، وإن أبدع قصائد طويلة لا تقل جمالاً وعمقا، وهو ما يميّز الشاعر المقاوم المتألق صلاح أبولاوي.
ولأنه شاعر مقاوم فلا ينسى أبولاوي أخواته وأخوته في سجون العدو المُحتّل، فيكتب قصيدته الرائعة ( تنفّس) والتي يهديها إلى الأسير أمجد عواد، ويشير إلى رسالته من سجن ريمون الصحراوي..والقصيدة طويلة ومؤثرة وهي تبرهن على عمق (التواصل) الروحي بين الشاعر والأسير البطل، وأي أسير يتعرض للظلم والقهر في سجون الاحتلال…
يخاطب الشاعر الأسير البطل:
تنفس
إذا ما استعدت مشاعر حزنك
قبل اعتقال الهواء العليل
وقد أبلغوك – وإن صدقوا-
أن أمك صارت من الذكريات
وأن اباك قتيل
وأن زمانك ولّى
_ وهذا زمان عميل_
( ص 74)
وهو الشاعر المتلئ القلب بالمشاعر تجاه كل المقاومين في بلاد العرب، لا يمكن أن ينسى من رحل من أهله، وأقربهم إلى روحه والده الذي رحل قبل خمسين عاما عندما كان طفلاً، وكان أحوج ما يكون لرعاية واحتضان الأب:
بعد خمسين عاماً..أريد أبي
أريد أبي لا سواه
أريد أبي قبل أن التقيك
فإني أحب الحياة
لماذا تريد هلاكي
إذن كي أراه؟
الشاعر مشتاق لأبيه الذي رحل قبل 50 عاما، وهو يخاطب الموت بلوعة، و..لا يريد ان يموت قبل الأوان، فهو يريد رؤية أباه و..وأن يبقى حيّاً فلا يموت..فكيف سيتحقق الأمر؟

إن ما يتحقق للقارئ هو(تعاطفه) مع الشاعر الإنسان، مع شاعر فقد والده قبل خمسين عاما..وبلغ بعض الشوق حنينا كاويا ملتاعا لا حل له..فالأب مات منذ زمن بعيد..والشاعر لا يريد التخلّي عن الحياة لأنها يجب أن تعاش..وهو متشبث بها.
و..ماذا عن عنان الذي فعل، أو يجب أن يفعل شيئا ما متميزاً؟
يخاطب الشاعر (عنان) طفله المبتدع:
لست حبرا على ورق الصفقات
لست عبدا ليأمرك السادة الإمعات
كل عاصمة ما خلا القدس عاصمة ذئبة
وشتات يجرجرنا لشتات
يا عنان
(ص 56)
ليس أصعب من الكتابة عن الشعر، فمهما حاولت أن تكون منصفا، فأنت مقصّر، وليس لك إلاّ أن تثير شهية القارئ للقراءة والاستمتاع وحده معتمداً على ذائقته، وهذا ما أتمناه لمن يقرأ كلماتي المتواضعة التي أتمنى ان تحرّك رغبة قارئ محّب للشعر..فيسعى لقراءة ( فعله صغيرهم هذا عنان) التي صدرت حديثا في اخر العام 2022 عن منشورات ( الفينيق) – عمّان ورام الله.

16.02.2024