الأرشيفكتب

عائلة العالول تُسلّم “أمانة” تركها ضابط عثماني منذ الحرب العالمية الأولى

عائلة فلسطينية تُسلّم تركيا “أمانة” تركها ضابط عثماني منذ الحرب العالمية الأولى

نابلس- بعد 105 أعوام أو يزيد، تعود الأمانة لموطنها تركيا، وتكتمل حكاية توارثتها عائلة العالول النابلسية أبا عن جد، ويزاح عن كاهلها حمل ثقيل ظلت حتى ساعات قليلة مسؤولة عنه طوال تلك المدة، وتحتفظ به كما لو أنه واحد من أبنائها.

اليوم الخميس وخلال مراسم عسكرية وبحضور رسمي فلسطيني وتركي وجمع غفير من عائلة العالول ومختلف المؤسسات الأهلية في مدينة نابلس شمال الضفة الغربية، سلّمت عائلة العالول السفير التركي لدى فلسطين أحمد ديمرير “عهدة” وضعها ضابط عسكري تركي أمانة لديها قبيل انتهاء الحرب العالمية الأولى.

وللجد الأكبر عمر العالول ترجع أصول القصة التي رواها للجزيرة نت أبناء العمومة راغب وإسماعيل العالول نقلا عن والديهما، حيث كان مطيع ذيب العالول -شقيق الحاج عمر- مجندا في الجيش العثماني آنذاك، وقد ساعد الضابط التركي وأرشده -بناء على طلبه- لوضع “العهدة”، وهي 152 ليرة تركية، عند شقيقه عمر بصفته تاجرا معروفا وحافظا لأمانات كثيرة في خزنته حينها.

عاطف دغلس-الحاج راغب االعالول يخرج الامانة من خزنته- الضفة الغربية- نابلس- مصنع الطحينة حيث مكان الامانة- الجزيرة نت4الحاج راغب العالول يخرج الأمانة من خزنته (الجزيرة نت)

ويقول الحاج راغب العالول (74 عاما) إن ما يعرفه أن الضابط التركي وضع الأمانة وقال إنه سيأخذها بعد عودته من الحرب، لكن هذا لم يحدث حتى الآن، “وصار لزاما علينا إعادة الأمانة لأصحابها، وما يريحنا أن الحكومة التركية وبصفتها صاحبة الولاية هي من سيتسلم العهدة”.

وقبل سنوات عدة ذاعت قصة الأمانة عندما زار وفد سياحي تركي مصنعا لإنتاج الطحينة تملكه عائلة العالول في البلدة القديمة بنابلس، حينها كشف الحاج راغب للوفد عن الأمانة وصار بعدها يبحث مع الجهات الفلسطينية الرسمية عن قنوات للتواصل مع الأتراك، وهو ما حدث فعلا.

وفي “خزنة الأمانات” الحديدية المتينة التي يقدر عمرها بأكثر من 120 عاما داخل مصنع العائلة حُفظت العهدة، وحفظ مفتاح تلك الخزنة في خزنة أخرى لا تقل متانة، في صورة تعكس حرص العائلة على ما استودعت عليه؛ فقد عُرفت بحفظها أمانات الناس في المدينة حتى مطلع تسعينيات القرن الماضي، حيث لم يكن هناك بنوك عاملة.

عاطف دغلس-الحاج راغب العالول يعرض ورقة نقدية من الامانة امام خزنته- الضفة الغربية- نابلس- مصنع الطحينة حيث مكان الامانة- الجزيرة نت3الحاج راغب العالول يعرض ورقة نقدية من الأمانة (الجزيرة نت)

ويقول نجل العائلة وضاح العالول إنه وبعد أن أغلقت البنوك أفرعها عقب حرب عام 1967، “وضع البنك العربي أمانات في خزنتهم”.

وحتى اليوم، ظلت قطعة القماش التي لفَّ بها الضابط نقوده الورقية -وهي من فئات 5، و1، ونصف ليرة- على حالها، ولم تخرج إلا لمرات معدودة وبغرض إعلامي فقط، ويردف الحاج راغب قائلا: “الأمانة ثقيلة ولم تقو الجبال على حملها، لكنا حفظناها وأديناها لأهلها”.

وإن عادت الأمانة لموطنها، فإنها لم تعد لصاحبها الذي تجهله عائلة العالول حتى الآن، ولم تعرف عنه سوى أنه “وضعها وذهب دون عودة”، تماما مثلما تجهل أية معلومة عن ابنها المجند مطيع، ولا تتناقل سوى شهادة نقلها آخر من رآه من أبناء نابلس في معركة جناق قلعة، “وكان مصابا ويحمل مصابين آخرين من رفاقه”.

وخضعت فلسطين للحكم العثماني عام 1516، بعد معركة مرج دابق التي هزم العثمانيون فيها المماليك. وعام 1917 انتهى حكم العثمانيين لفلسطين لتحتلها بريطانيا بعد ذلك.

عاطف دغلس- ابناء عائلة العالول يعدون الامانة قبل تسليمها للسفير التركي- الضفة الغربية- نابلس- مصنع الطحينة حيث مكان الامانة- الجزيرة نت1أبناء عائلة العالول يعدون الأمانة قبل تسليمها للسفير التركي (الجزيرة نت)

مآل العهدة.. إلى أين؟

وحيث سلمت الأمانة في مقر محافظة نابلس، التقت الجزيرة نت بالسفير التركي أحمد ديمرير الذي أكد على متانة العلاقة وعمقها بين الشعبين الفلسطيني والتركي.

وقال إن عائلة العالول حفظت الأمانة بتفان وإخلاص، “وأصبحت بعد 105 سنوات من حقها، ولكن أخذنا لها يدل على هذا الارتباط الوثيق بيننا، وسننقل تلك القصة لبلدنا تركيا”.

وحول مآل هذه الأمانة ومستقرها مستقبلا، أوضح ديمرير أنهم وبالتعاون مع الحكومة الفلسطينية وعائلة العالول سينقلونها إلى مقر القنصلية بالقدس، باعتبارها “أرضا تركية”، ليقرر لاحقا أين ستنقل وتوضع، وقال إنه لم يسبق له أن سمع بتسلم دولته عهدة كهذه لجنود أتراك في أي من الدول العربية أو دول المنطقة.

عاطف دغلس-الحاج اسماعيل العالول يسلم الامانة لمجند فلسطيني ومن ثم تم تسليمها للسفير التركي- الضفة الغربية- نابلس- مقر المحافظة- الجزيرة نت8الحاج إسماعيل العالول يسلم الأمانة لمجند فلسطيني ومن ثم تم تسليمها للسفير التركي (الجزيرة نت)

وكتب على النقود “دولة علية عثمانية”، وكلمات تركية بالأحرف العربية. ونقلت وكالة أنباء الأناضول التركية عن خبراء أتراك أن قيمة تلك النقود كانت تعدل في ذلك الوقت حوالي 30 ألف دولار أميركي.

ويرتبط اسم نابلس -ولا سيما بلدتها القديمة- بحبل متين بالدولة العثمانية، كأحد “سناجقها” (مناطقها) الخمسة في فلسطين، حيث شُيدت مبانيها إبان حكمها قبل أكثر من 500 عام، ويدل على ذلك طرازها المعماري المتنوع ومعالمها الشهيرة ولا سيما قصور آل عبد الهادي وآل النمر والحمام التركي والمشفى الوطني والمدرسة الفاطمية.

وأكثرها بروزا “ساعة برج المنارة” التي أهداها السلطان عبد الحميد الثاني لأهالي نابلس بعيد ميلاده عام 1901، فصارت ميقاتهم وعلى دقاتها ضبطوا مواعيدهم حتى الآن.

وهي واحدة من 7 أخريات أهداها السلطان العثماني لأهالي حيفا ويافا وعكا والناصرة وصفد، بينما هدمت السابعة التي شيدت في مدينة القدس بعيد الانتداب البريطاني عليها.

عاطف دغلس-السفير التركي يلقي كلمة خلال مراسيم تسليم الامانة- الضفة الغربية- نابلس- مقر المحافظة- الجزيرة نت9السفير التركي يلقي كلمة خلال مراسيم تسليم الأمانة (الجزيرة نت)

مراسيم وتذكار عائلي

وسلمت عائلة العالول العهدة إلى جندي فلسطيني، قام بدوره بتسليمها إلى قائده، الذي سلمها إلى اللواء إبراهيم رمضان محافظ نابلس، الذي نقلها بدوره للسفير التركي وسط حضور إعلامي كبير.

وما جرى دلالة على “عمق وفاء” عائلة العالول خاصة والشعب الفلسطيني عامة، بحسبما قال المحافظ رمضان للجزيرة نت، والذي أضاف أن تاريخ الشعب الفلسطيني ووفاءه متجذر كشجر زيتونه.

وقبل أن تحط الأمانة رحالها في موطنها الجديد لدى الأتراك، سألنا عائلة العالول عما إذا احتفظوا بما يذكرهم بها، فردوا إيجابا، وقالوا إنهم عدوها جيدا وأخذوا صورا لهم ولأحفادهم معها، ووثقوا عملية التسليم من ألفها إلى يائها.

المصدر : الجزيرة نت