وقفة عز

الشهيدان زاهر ومنير ..فاطمة تسأل: من قتل أبي وعمي؟ – نضال حمد

Bilderesultat for ‫فاطمة تسأل: من قتل أبي وعمي؟ نضال حمد‬‎

نضال حمد

منذ طفولتي تعرفت الى زاهر السعدي من خلال وجودنا معاً في الصف الأول الابتدائي في المدرسة فقد تعارفنا هو تصادقنا هناك. ثم تعارفنا أكثر وأكثر من خلال انخراطنا في منظمة الشبيبة الفلسطينية، حيث بداية التكوين السياسي لكلينا. وازدادت الصداقة قرباً من خلال أزقة وحارات المخيم… ثم تعمقت أكثر وأكثر عندما كبرنا قليلا وخلال النضال على خطوط المواجهة والقتال لأجل فلسطين، في الجنوب اللبناني.

لم يكن يحب المدرسة كثيراً فترك مقاعد الدراسة مبكراً، ليصبح نبيهاً ومبدعاً في العمل الفدائي والثوري. ليقطع المسافات والمراحل الحزبية بسرعة فدائي يستعجل الشهادة. كان زاهر الجميل، صاحب الشعر الأشقراني في طفولتنا، شخصا صامتا وقليل الكلام لكنه كثير العمل. لا أذكر آخر مرة رأيت فيها زاهر. لكنني أذكر آخر مرة التقيت به في مواقع متقدمة بالجنوب اللبناني، فهذا الفدائي القدوة قضى معظم سنوات حياته القصيرة على خطوط المواجهة وفي الوديان والتلال والجبال وقواعد الفداء. يوم التقينا على مقربة من مواقع الصهاينة وصهاينتهم اللبنانيين من جماعة سعد حداد، كان هناك استنفار تحسبا لعملية إنزال صهيونية في منطقة مقابلة لمواقع الاحتلال الصهيوني وجيش حداد (لاحقا جيش لحد) قبل الغزو وحصار بيروت بثلاث أو أربع سنوات. لم يدم اللقاء طويلا لأن زاهر بقي فيما بعد في جنوب الجنوب وأنا توجهت الى عين الحلوة ومن ثم الى الفاكهاني وصبرا وشاتيلا في بيروت.. ولم نعد في تلك الفترة نرى بعضنا إلا نادراً.

الشهيد زاهر السعدي ابن مخيم عين الحلوة، رفيق الطفولة والمدرسة الابتدائية، رفيق النضال والميادين والمواقع والمدرسة الثورية..

كان زاهر حيويا وعمليا عرف أن فلسطين لا تعود بغير الكفاح المسلح. فسبقنا نحن أبناء جيله الى حمل البندقية والعيش في القواعد وعلى خطوط النار.

اغتاله قتلة مأجورين في مدينة صيدا اللبنانية أواسط الثمانينات من القرن الماضي واغتالوا أيضا شقيقه الشهيد منير السعدي.

ولد زاهر السعدي في مخيم عين الحلوة للاجئين الفلسطينيين في لبنان سنة 1963 من عائلة فلسطينية تعود أصولها الى بلدة طيطبة الجليلية المحتلة في شمال فلسطين المحتلة، وهي بلدة غير بعيدة عن بلدتي الصفصاف.

في مدارس المخيم تعلم زاهر ولم يكن ميالا كثيرا للدراسة والعلم. أقول ذلك بحكم أننا في مدرسة قبية الابتدائية في المخيم كنا في صف دراسي واحد من أول سنة حتى تَرك زاهر لمقاعد الدراسة وتوجهه للعمل الفدائي.

منذ ذلك الوقت بدأ حياته الثورية النضالية شبلا في معسكرات الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين. فعرف قواعدها ومعسكراتها في الجنوب اللبناني. وكان من المرابطين الأوائل على خطوط النار المتقدمة في مواجهة العدو الصهيوني. طَوَر الفتى زاهر نفسه وقدراته العسكرية والحزبية والتنظيمية حتى وصل الى مواقع متقدمة في القطاع العسكري والأمني التابع للجبهة.

قبل اعتقاله في سجن أنصار وعقب الغزو الصهيوني للبنان سنة 1982 أسس زاهر السعدي مع رفيقه الشهيد فيما بعد أحمد المقدح.. ومع مجموعة من رفاقه ورفيقاته مجموعة “محكمة الشعب” التي اهتمت الى جانب مجموعة “حتماً سنلتقي” بتصفية عملاء الاحتلال. وجلهم من الفلسطينيين واللبنانيين الذين تساقطوا وعملوا مخبرين لصالح الاحتلال الصهيوني. كانت المجموعة تطمح للعمل العسكري ضد قطعان الاحتلال في منطقة صيدا وفي المخيم وجواره. ثم وجد زاهر نفسه أسيرا ومعتقلا في معتقل أنصار الذي أقامه الصهاينة على الطريق الواصل بين مدينتي صور والنبطية جنوب لبنان سنة 1982. أقيم المعتقل خصيصا لإيواء آلاف الأسرى والمعتقلين من الشعبين الفلسطيني واللبناني. وبعد الافراج عنه في عملية التبادل عاد للعمل مع محكمة الشعب هو ورفاقه.

يقول المناضل عبد اللطيف حمد وهو أحد أبناء المخيم ويعرف زاهر جيدا أنه لن ينسى طوال حياته قصة زاهر مع المحقق الصهيوني، فقد سمع القصة اثناء اعتقالهما في السراي الحكومي، إذ بالصدفة تسنى له من مكان اعتقاله أن يسمع بعضا من التحقيق مع زاهر. وإليكم القصة كما كتبها عبد اللطيف على مدونتي في فيس بوك:

” أذكر موقفا لزاهر لن أنساه ما حييت حينما كنت معتقلاً في السرايّ الحكومي اللبناني، الذي تم تحويله مقراً للحاكم العسكري الصهيوني* ) كنت في الممر وكانت غرفه التحقيق بجانبي سمعت ضابط المخابرات الصهيوني يقول لزاهر:

إذا انقلبت الأيام وكنت أنت مكاني هل تقتلني؟

قال زاهر: أعطني المسدس من جانبك وسأقتلك في الحال..”.

هنا تنتهي رواية عبد اللطيف حمد التي يصدقها ويؤمن بها كل من عرف زاهر السعدي خير المعرفة، لأنه كان رجلاً منذ صغره، أسداً على هيئة شبل، قامته قصيرة لكن عزيمته صلبة ولا تنكسر. فكم رجل يعد بألف رجل و كم ألف تمر بلا عداد.

إنها شهادة رائعة عن بطولة وعنفوان زاهر السعدي فقد كان شهيدنا الفذ لا يعرف المساومة وكان بعضنا يطلق عليه لقب (وديع*) الصغير. نسبة للشهيد المعلم وديع ح – أبو هاني -.

تحرر زاهر من السجن الصهيوني في تبادل للأسرى سنة 1985 تم بين فتح والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين القيادة العامة من جهة والكيان الصهيوني من جهة أخرى. عاد الى مخيم عين الحلوة ليمارس العمل الفدائي من جديد. لكن مجهولين نصبوا له كمينا مسلحا في حي الأمريكان قرب مخيم عين الحلوة في الثامن من آذار، حيث أطلقت عليه النيران بغزارة مما أدى الى استشهاده.

وكان نفس العملاء في وقت سابق أقدموا على اغتيال شقيقه الأكبر منير السعدي والد الصبية فاطمة التي لازالت من منفاها الأمريكي البعيد تسأل: من قتل والدي وعمي؟..

يوم نشرت بعض صور الشهيدين زاهر ومنير السعدي عرفت بأنها ستنكأ جراح الأهل، جراح الذين أحزنهم طويلا غياب البطلين منير وزاهر. وجراح فاطمة ابنة الشهيد منير الوحيدة، هذه الطفلة التي لا تتذكر وجه أبيها حين غادر المنزل لقضاء حاجة ولم يعد أبدا. كانت فاطمة طفلة والآن أصبحت شابة جامعية. فاطمة التي رأت صور عمها ووالدها عن طريق بروفيل عمها وعمتها في فيس بوك، سرعان ما وضعت تعليقا باللغة الإنجليزية تحت صورة والدها وعمها قالت فيه: ” العم نضال أشكرك كثيرا على نشر هذه الصور وتعريف الآخرين بما تعرف عن الرجال العظماء. أنا فخورة بكل من والدي وعمي زاهر.”.

وفي تعليق آخر سألت فاطمة ببراءة: من قتل أبي وعمي؟

اجابها أحدهم وهو على حق لأنه عرف زاهر وعمل معه في المقاومة تحت الاحتلال:

” انهم سفلة القوم يا فاطمة، العملاء الذين تاجروا بالقضية وما زالوا يتاجرون بها هم قتلة والدك وعمك وشهداء آخرين. “.

ومن ضمن ردود الأفعال والتعليقات على الصور جاء تعليق شقيقة الشهيدة زاهرة حيث قالت:

” زاهر البطل الشهيد، سيدي، قلبي، الله يرحمه ويرحم الشهيد منير. أنا فخورة بشقيقي الشهيدين.

نضال أنت تقوم بعمل جيد من خلال تكريمك للشهداء.”.

وأضافت في تعليق آخر:

” لقد نكأت جراح كثيرة يا نضال. لكن فلسطين تستأهل أكثر وأكثر! مع أنني ما نسيت شقيقي زاهر ومنير وكل الشهداء. المجد والخلود لشهداء فلسطين الأبرار هم السابقون ونحن اللاحقون . وأتمنى عليك نضال نشر المزيد من صور الشهداء التي لديك“.

شهادة الرفيق جمال حمد سابقاً والشيخ ابو محمد حمد لاحقاً:

أسأل الله له الرحمة والمغفرة

زاهر وما أدراك ما زاهر … طفل بقلب أسد وشبل أقوى وأشرس من أسد … فجر جنود اليهود في جبل الحليب وتطايرت أجسادهم … ثم اعتقلوه وسجل المواقف البطولية مع المحققين. حيث كما ذكر أخونا وابن عمنا عبداللطيف أن المحقق سأله ماذا لو كنت مكاني وأنا مكانك فهل ستقتلني فأجابه البطل نعهم سأقتلك وأعطني مسدسك لأقتلك الآن … هذا الموقف سمعه الأخ بتقدير الله حيث كانت زنزانته قريبة من غرفة التحقيق … ليكون شاهداً على مواقف ومآثر وبطولات الشبل الأسد زاهر السعدي … وهذا الموقف البطولي جعل زاهر يدفع الثمن الأكبر بين معتقلي أنصار العشرة آلاف …

أنا سأركز على هذه النقطة دون غيرها لأهميتها ليعلم شبابنا وأبنائنا مدى حقد اليهود وماذا يجري مع الأسرى من التعذيب المميت … بعد سنة ونصف من الاعتقالات والبطولات والمواقف والمآثر حصل موقفين مميزين وملفتين من زاهر…

الأول أمام 2000 معتقل هم نزلاء معسكرات أنصار.. وعند التقاطع بين المعسكرات الأربعة، قمنا بتحطيم الأسلاك وفتحنا المعسكرات كلها على بعضها بالقوة، فجاء قائد المعسكرات الصهيوني يفاوضنا على العودة الى المعسكرات والسماح بإعادة بناء السياج الفاصل، وهو عبارة عن 4 أمتار من الأسلاك الشائكة المتتالية، التي تحيط بكل معسكر وتفصله عن العالم الخارجي. لكننا رفضنا وكان السبب يومها أحد شباب الجبهة الشعبية القيادة العامة، الذي كان يعاني من الكلى ورفضوا معالجته، فقمنا بتحطيم المعسكرات والخروج الى الشارع الرئيسي الذي يفصل بين المعسكرات … فقام قائد المعسكرات “إلي هودي” بتهديدنا أنه لو لم نخلي الشارع فسيأمر الدبابات أن تدوسنا وتمعسنا … فقلنا له لسنا جبناء مثلكم وأركب أعلى ما عندك من خيل ولن نتزحزح من الشارع لو جاءت كل دباباتكم …

كنت أنا وزاهر وعدد من الإخوة غيرنا من المفاوضين الرئيسيين … فقام بتنفيذ تهديده وجاءت الملالات مسرعة من بعيد بإتجاهنا … وكانوا يظنون أننا سنهرب ولكنهم تفاجأوا بثباتنا وعدم تزحزحنا … فتقدمت ملالة واحدة وبدأت بدفعنا وبدأنا بدفعها محاولين منعها ولكن الملالة وقوتها أكبر من قوتنا ولما بقينا خمسة فقط وتفرق الإخوة على جانبي الشارع، إتفقنا أن نقفز لأن الملالة بدأت تسرع لتحشرنا مع ملالة أخرى لتقتلنا معساً وليجعلونا عبرة لكل الأسرى … فقفزت أنا وزاهر عن اليمين وقفز أخوين آخرين عن الشمال فيما لم يستطع الأخ الخامس أن يقفز، فقد أسرعت الملالة وحشرته مع ملالة أخرى جاءت من الجهة المقابلة.. والأخ المذكور كان بطلاً وأسمه “أبوعبود” من الجبهة الشعبية القيادة العامة … فقمنا بمطاردة الملالات حتى تركوه وسقط على الأرض …

المهم أننا بعد.تهديد القائد الصهيوني بسحقنا بالدبابات إتفقنا أننا لن نتزحزح حتى لو قُتِلنَا جميعنا رغم علمنا بنفوس الناس، وأن الغالبية ستتراجع حين يحمى الوطيس … ساعتها إقترح زاهر أن نربط أيدينا وأرجلنا بالحبال حتى لا نستطيع الهروب… وفعلا قمنا بفعل ذلك أنا وزاهر وبعض الإخوة، لكنها أعاقت حركتنا كلياً فنزعناها حتى نتدافع مع الملالة … هذا موقف من مواقف الرجولة والبطولة عند زاهر …

موقف آخر أهم وأعظم … بعد فترة إستدعوا زاهر للتحقيق ولم يعد زاهر من التحقيق والزنازين والعذابات الهائلة إلا الى الباص حين تمت عملية تبادل الأسرى … كان واضحاً على زاهر وهو الرجل والفارس الصنديد، البطل المعروف، أنه منهار نهائياً من كثرة التعذيب الهائل الذي مارسوه ضده لكسر نفسيته وصموده الأسطوري …

المهم إلتقينا بالباص وكان زاهر مذهولاً وفرح فرحاً شديداً برؤيتي ورؤية الآخرين . جلس بجانبي في الباص وهو يقول لي مستحيل أن يفرجوا عنا.. هم ينقلوننا الى سجنٍ جديدٍ ولتعذيبٍ جديدٍ … فأقسمت له عشرات المرات أنه التبادل وأننا ذاهبون إلى البيوت… لم يصدق وقال لي بعد قليل سترى الأهوال التي رأيتها فجهز نفسك نفسياً… وبينما أنا أحاول اقناعه وهو ينفي بكل شدة، ويرفض قبول فكرة تبادل الأسرى ويصر أننا ذاهبون الى سجنٍ جديدٍ ولتجارب تعذيب جديدة مميتة… وأخيراً وصلنا الى المخيم فصدق زاهر بعد أن أنزلونا من الباصات وقالوا لنا: أنتم أحرار وهذا المخيم أمامكم… وأنطلقنا نتعانق ونطير فرحاً عبر مدخل المخيم على جسر درب السيم وصولاُ الى حي عرب غوير ثم الى عمق المخيم، حيث كان العرس الكبير. وللحكاية بقية ستقرأونها لاحقا إن شاء الله.

اسال الله لزاهر ولمنير ولأموات المسلمين الرحمة والمغفرة

والقصة القادمة عن منير إن شاء الله

التاسع من آذار – مارس2021

آخر تحديث وتعديل 9-آذار-2021

20-01-2012

فاطمة تسأل: من قتل أبي وعمي؟ 

Bilderesultat for ‫فاطمة تسأل: من قتل أبي وعمي؟ نضال حمد‬‎

Relatert bilde