عربي وعالمي

في سيكولوجيا حنين بيروت الى المحتل الفرنسي – د.عامر صالح

في سيكولوجيا حنين بيروت الى المحتل الفرنسي الذي يشبه حنين بغداد

كانت التفجيرات في مرفأ بيروت ليست حدثا لوجستيا فقط أشاع الخراب فيما حوله وعطل الحياة اليومية بالكامل وأرجعها الى عقود مضت او عودة الى اللاحضرية وتقهقر بيروت الى حياة بدائية سبقت تألقها في محتلف مجالات الحياة الادبية والثقافية والعمرانية والسياسية, بل انه نكوص في الحضارة المادية وما تفرزه من نكوص سيكولوجي يعود بالتفكير الى مراحل سبقت نهضة بيروت الجميلة واستقلالها من الاحتلال الفرنسي, ولكن لا توجد فنتازيا مبتذلة خارج فهم الظروف الموضوعية التي انتجت انساق من التفكير الغرائبي الذي يدفع بأتجاه العودة الى الماضي.

على الرغم من انتهاء الانتداب الفرنسي على لبنان عام 1943 وانسحاب آخر جندي عام 1946 بعد أكثر من 20 عاما من الاحتلال، ترددت أثناء جولة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في حي الأشرفية اللبناني، أمس الخميس، هتافات باللغة الفرنسية التي يجيدها اللبنانيون جيدا تقول: “تحيا فرنسا”، كما كانت هناك دعوات بعودة الانتداب الفرنسي، تأكيدا على عدم الرضا عن النظام الحالي, وهناك ألحاح شعبي يطلب بعدم تسليم أي مساعدات دولية الى الحكومة اللبنانية مباشرة لأنها” كما يقول البيروتيين ” ستسرقها كما هي في سابقاتها من المساعدات, فهل الشعب اللبناني المعروف بحسه المرهف وفطنته كان غبيا في مطالباته !!.

لقد عانى الشعب اللبناني كثيرا، وتغلب على الكثير من المآسي من قبل، ابتداء من المعارك الضارية بالوكالة إلى حرب أهلية كارثية دمرت وسط بيروت. وأظهر الشعب اللبناني قدرة فائقة على التحمل؛ لكن يبدو أن صبره نفد الآن، خاصة بعد كارثة انفجار مرفأ بيروت يوم الثلاثاء الماضي. اليوم يعيش لبنان حالة اللادولة, بل هو ركام دولة أسست لها المحاصصات الاثنية والطائفية في اطار مشروع ابقاء لبنان ضعيف وأسير للمليشيات الطائفية والكارهة اصلا لبناء دولة المواطنة العابرة للطوائف والاديان, وبالتالي فأن الصراع بين الدولة والفوضى هو صراع لم يستكين, بل ان كفة اللادولة هي الارجح في النموذج اللبناني الذي يسير على سنته النموذج العراقي.

ان الفشل في النهضة الاقتصادية والاجتماعية المعاصرة وبناء دولة المواطنة هو احد اسباب نكوص المواطن اللبناني بل وحتى العراقي في ترحمهما على الاحتلال والرغبة في عودته, فأنعدام الخدمات الانسانية الاساسية من صحة وتعليم وكهرباء هي مقياس جوهري لجهد الحد الادنى لأي نظام انساني عادل, والعدالة ليست في ابتذال واجترار الشعارات, بل في خطوات ملموسة لتحسين ظروف العيش والارتقاء بها بما يجعله انسانيا غير متؤسف على الاحتلال وعودته, وما يتحقق على الارض اللبنانية والعراقية هو مخزي ومعيب ولن يمت بصلة لنهضة الانسان واشباع حاجاته الاساسية الاولى, فالفساد وسرقة المال العام والرشوة والمحسوبية في كلا  البلدين يستنزف موارد البلدين ويجعلهما في صدارة البلدان الاولى في العالم من حيث الفساد وعدم الاستقرار, فهل تحرير فلسطين يمر عبر بوابة الفساد الاداري والمالي لبيروت وبغداد.

عندما نستنكف من الاحتلال الفرنسي للبنان ونشك بتضامنه, وكذلك في العراق نمتعض ونشك عندما يعلن المحتل الغربي والامريكي وقوفه مع الشعب العراقي ” وهو مزاج مشروع في اغلب دوافعه ” علينا ان نقدم قوة المثل في بناء دولة المواطنة الجامعة لكل التنوعات الاثنوظائفية بعيدا عن التخندق الميليشياوي, دولة قوية وليست دولة عميقة تنفرد فيها ميليشيات سائبة في ادعاء تحرير فلسطين, ويعرف القاصي والداني أنه اذا اريد تحرير فلسطين فأن اول ما تحتاجه هو دول قوية مساندة ومتماسكة في الداخل, وفيها اشباع الحد المعقول من الامن والحاجات الاساسية الانسانية, من صحة وتعليم وخدمات, وفيها وحدة القرار المصيري وليست كل يقرر مصيره بمفرده, فالدول لا تنتصر على اعدائها إلا بوحدتها وتماسكها الداخلي, وبديمقراتياتها النزيه وليست المزوره, فأرادة الشعوب هي الفصل بين الحق والباطل.

لقد كان ترحيب اللبنانيون بزيارة ماكرون ” المحتل ” لا يوصف، حيث وقف في وسط الجماهير في بيروت وتحدث إليهم؛ بل إنه أزاح أحد حراسه جانبا من أجل أن يعانق سيدة لبنانية رغبت في ذلك. لقد اعتبره اللبنانيون “منقذا لهم”. لقد بادر بهذه الزيارة غير مبالٍ بالمخاطر، وأقلها إمكانية الإصابة بفيروس “كورونا” وسط جموع اللبنانيين الذين جاء إليهم للإعراب عن تضامنه وتضامن فرنسا معهم.

لقد كان ماكرون أثناء جولته يرتدي ربطة عنق سوداء، تعبيرا عن الحزن على ضحايا الانفجار المدمر الذي شهده مرفأ بيروت الرئيسي وأسفر عن مقتل من 135 شخصا “حتى لحظة كتابة المقال ” على الأقل وإصابة الآلاف، وتشريد حوالى 300 ألف شخص. وتقدر الأضرار بنحو 5 مليارات دولار، وهو مبلغ لا تمتلكه لبنان الآن، حسب بلومبرج. وفي حديثه للصحافيين في نهاية زيارته دعا ماكرون إلى إجراء تحقيق دولي لتحديد أسباب الانفجار، الذي تردد أنه كان نتيجة لوجود شحنة كبيرة من نترات الأمونيوم في أحد مستودعات المرفأ. وقال ماكرون: “نحن في حاجة إلى تحقيق دولي شفاف وصريح، لضمان عدم إخفاء أي شيء أو بقاء أي شكوك”, بالتأكيد فهناك من يشكك بنوايا ماكرون ويعتبر سلوكه دعوة لزعزعة لبنان واستقراره” وهو البلد الفاقد للاستقرار اصلا “.

غدا سيأتي مسؤول امريكي او غربي الى العراق على خلفية اي حدث ارهابي او تفجيرات بأسباب مختلفة لا سامح الله ” وخاصة للأسلحة والعتاد والمتفجرات السائبة المنتشرة في ارض العراق”  وسنرى كيف يحتضنونه العراقيون ليست محبة به ” فالمحتل لا يستساغ مهما كان ” ولكن فشل الحكومات العراقية المتعاقبة في تأمين الحد الادنى من العيش الكريم الى جانب اهدار المال العام والفساد الاداري ونخر مؤسسات الدولة العراقية, سيضع العراقيين في موقع المصفق على مضض لمن يأتي لنجدتهم سواء كان امريكي أم غيره, أنها آلية نفسية طبيعية تجسدها العودة الى الاعتزاز والتشبث بمرحلة سابقة برغم سلبياتها واشكالياتها بسبب من تدهور الحاضر وانعدام أفق المستقبل, أنها حالات من من الحنين المشروع وغير المشروع يجسدها عمق ازمة الحاضر غير القابلة للحل في المنظور القريب وما يرافقها من يأس وجزع لدى المواطن العراقي.

تفجيرات بيروت ألقت بظلالها على شكل مخاوف مشروعة لدى الشعب العراقي بسبب من تشابه بنية النظامين السياسيىن القائمين على ضعف الدولة وسيطرة الميليشيات التي تتدخل في اقحام الحكومة العراقية ورسم سياسات غير مستقلة من مختلف القضايا الاقليمية والدولية ودفع العراق الى المزيد من التخندق والارتهان لمختلف المحاور ذات عدم الاستقرار. والحل واحد في بيروت وبغداد والذي يكمن في حصر السلاح بيد الدولة وبسط نفوذ الدولة وان يكون القرار بيد الدولة حصرا. أنها سنة بناء دولة المواطنة الحاضنة للجميع بعيدا عن الاجتهاد المؤذي والمخرب للدولة والمجتمع, وكل الاجتهادات واردة ولكن تحت مظلة الوطن والقرار الوطني.

 

في سيكولوجيا حنين بيروت الى المحتل الفرنسي الذي يشبه حنين بغداد

 

د.عامر صالح