ثقافة وفن

في مجموعة” مهر البراري” لرشاد أبو شاور” مقاربة سيميوطيقية إبراهـيم الحجري

قــراءة نــقــدية ” مأزق العامل – الذات بين المشهد الدرامي والخيار الثوري
في مجموعة” مهر البراري” لرشاد أبو شاور”
مقاربة سيميوطيقية
إبراهـيم الحجري*

“مهر البراري” مجموعة قصصية للكاتب رشاد أبو شاور، تتضمن عشرة قصص، سنتناولها بالتفصيل، وهي من الحجم الصغير، تمتد عبر ست وثمانين صفحة، صمم لوحة الغلاف الفنان حسيـب الجاسم، تعاملنا مع الطبعة الثانية 1/9/1979، التي تصدر بإهداء وتختتم بعرض لأعمال أخرى للكاتب.

الــــــعــــــــنــــــــــوان:

” مهر البراري” مقولة تتكون من كلمتين، الأولى نكرة، والثانية معرفة، والمضاف الى معرفة معرفة، الكلمة الثانية أزالت إبهام الكلمة الأولى، بل حددت معناها وخصصته، وبينت لنا أي مهر يقصد الكاتب، “المهر” كلمة لها معاني متعددة في اللغة العربية، فهي من جهة تعني الصداق، أو ما يقدم لأهل البنت عربونا عن الرغبة والإرادة القوية في الاقتران بها..

أما المعنى الثاني، فهو يشيرإلى مولود الفرس الأصيلة الذي لا يستعمل إلا في مناسبات خاصة كالحرب والسباق وألعاب الفروسية.. له مميزات خاصة تميزه عن باقي أنواع المهور، وتعطاه أهمية وعناية بالغتين، بل إنه سر العزة والسمو لمن يملكه، لأنه لا يمكن أن يملكه إلا فارس مغوار، شجاع…

لكن عندما يضاف البعد الدلالي لهذه الكلمة (مهر) إلى دلالة الكلمة الثانية (البراري)، سوف يتغير مدلولها بعض الشيء.. فالـبراري تعني الأراضي الفسيحة التي لا مالك لها.. بمعنى آخر أن المهر المتحدث عنه هنا ليس ملكا لأحد، إنه يعيش طليقا.. ولم يتربَّ في كنف بشر، لهذا فهو شبه متوحش ألفَ العَدو في البراري والتنقل بين المساحات الشاسعة، لا يضايقه فيها أحد من البشر.. إنه يكره أن يروض ويمتلك من طرف أحد.. وتظل القراءات منفتحة على تأويلات لا نهائية، ويبقى حق الحسم موكولا للنص، باعتباره الفيصل الوحيد الذي يمكن تحديد سياقه مع مقارنته بالاحتمالات القرائية للعنوان وباقي المؤشرات.

* ناقد وقاص من المغرب

تــصـــــمـــــيــم الـــغــــــلاف : 

ثلاثة ألوان تشكل فضاء التأثيث، الأبيض، الأسود (لون الكتابة) ثم الأزرق الباهت (لون السماء)، في الواجهة الشمالية الشرقية يُرسم اسم القاص بخط رقيق..ومباشرة تحته، يدرج العنوان بلون أسود غامق وحجم كبير.. ثم يُخصص الحيز المتبقي للصورة التي صمم شكلها ومحتواها الفنان حسيب الجاسم، فانطلاقا من الجنوب الغربي للصورة يبدأ تشكيل كائنين ملتصقين ببعضها كما يبدو، الأقرب كائن بشري نسائي، منسدل خصلات الشعر التي تلاعبها الريح.. هذه الفتاة يبدو عليها آثار الحزن من خلال قسمات وجهها المتجهمة، وجسمها النحيف، وانحناءة رأسها الغاصفة، وتقطيب ما بين حاجبيها.. للإشارة ، فالجسد الأنثوي لا يكشف مواطن الأنوثة.. أ و لنقل إنها مغيبة.. وما ظهر من الجسد إلا شكله الأعلى فقط..

وورد هذا الشكل الـنسوي بهذه الصورة ليس اعتباطيا.. فهذا يدل على أشياء كثيرة، ربما منها الظلم الذي تعانيه، والحيف الذي لا يبارحها.. وربما لتغييب رأيها.. وربما لعدم رضاها عما يحدث في مجتمعها.. وغير ذلك مما ستكشفه متون القصص. خلف الفتاة فرس هائج يلتفت بشكل عنيف، وآثار الغضب الجامح مرسومة على محياه.. فعيناه مفتوحتان بشكل كبير وفمه وأنفه يعلنان تمردا صارخا من خلال ملامحهما الفائرة الثائرة.. أما أهدابه الطويلة المرتعدة، فيتجاذبها الريح تارة ويعاودها شكل استدارته العنيفة تارة أخرى، هذان الجسدان يلتفان ببعضهما يشدهما حزام يطوق عنقيهما، حزام بلون الدم.. بين المهر الهائج والوجه النسائي الحزين تختفي دلالات النص وأبعاده، أما في أسفل الصورة فيثبت المقر الخاص بالطبع والنشر.

” الـــجـثــــــة العارية”

يستفتح القاص أحداثه بسرد وصفي لحالة أسرة بئيسة تعيش الفقر والاستغلال البشعين، وسبب ذلك شخصية تتواطأ مع اليهود لاستغلال أراضي الفلاحين ومنتوجاتهم، واقتناء الحقول منهم بأثمان بخسة، استغلالا لظروفهم المادية الوعرة، ونستكشف تيمة الفقر من خلال مجموعة من الوحدات المعجمية التي تصب في نفس الحقل الدلالي (الفراش الرث، ما هذه بحياة (ثلاث مرات)، حافية القدمين، ثوبها كالح، تمنى لو أن الأرض تنشق وتبتلعه..) ص 5 (ألم تقترضي من أهلك؟ – والله يا ابن الحلال ما معهم نقود، أطلق آهة ثقيلة، ظلت يده مع النصف دينار في جيبه، كأنما يخاف أن تهرب الورقة النقدية) ص6. تسبب هذه الأحاسيس الكئيبة شخصية معاكسة، بشعة (الحاج يعقوب هو السبب قالت: الله ينتقم منك يا حاج يعقوب- وحش كاسر، حدأة ملعونة، يعرف متى يكون الفلاح محتاجا، فينقض، ويفترس- الأب عمل مع الأتراك، والابن يبيع الأرض لليهود، أخس، الكلب، اللئيم لا يشبع.. مذنب – المرأة باكـية – الأولاد جياع غـيــر مدللــيــن) ص 6-7.
في مقابل هاته التـعابـيـر الـتي تبين حالة الفقر والإملاق اللذين يعاني منهما الرجل وزوجته تكثر المقولات الدلالية التي ترصد حالة البذخ والغنى عند أسـرة الحاج يعقوب (منيرة زوجته مرتدية ثوبها المطرز بالحرير الفاقع، واضعة قلادة ذهبية في عنقها- رائحة القرنفل تفوح من جسدها، والحناء تضمخ راحتي يديها…)

ص 9.
(لكن أرضي كثيرة، وأملاكي شاسعة، إنها تكفي ليعيش منها مئات الناس) ص 10 (الرعاة، بعضهم تكسبه بإطعامه الطعام، وبعضهم بالضرب على رأسه) ص 15.

(في كل قرية يوجد حاج يعقوب، وأن تغيرت الأسماء) ص5.

الملحوظ أن القصة تتضمن متناقضات كثيرة بين أسرة فقيرة من جهة، وأسرة غنية من جهة أخرى، وبين نوعين من أصناف الشخصيات، شخصيات عربية تريد العيش الكريم، وتتطلع إلى حياة أفضل وواعية بمن يسبب لها المضايقات المادية والمساومات الرخيصة من أجل طمس هويتها، الأسرة الأولى هي أسرة الحواش محمود الفقيرة، وأسرة الحاج يعقوب الغنية، ويمكن أن نمظهر هذا الصراع بين التيمتين على الشكل التالي:

التضاد
الفقر الغنى
تناقض
تداخل في تداخل في النفي
الإثــبــات
تناقض
لا غنى لا فــقــــــــر
تحت التضاد

يحتدم الصراع بين مجموعتين من الشخصيات، شخصيات إيجابية ترفض الواقع المر الذي تعيشه، يتبدى ذلك من خلال الحماس الذي تبديه، ومن خلال مناقشاتها وحواراتها، ومن خلال جرأتها في مواجهة الحاج يعقوب، وطموحها الانتقامي من الشخصية المعاكسة لبرنامجها السردي (لن أرتاح حتى أجهز على روحه النجسة) ص 17.

(تعرف يا علي، والله إنني فكرت أكثر من مرة، ما رأيك في ذبحه، ودفنه، والتخلص من شروره) ص 15 من بين هاته الشخوص ينسل العامل الذات (محمود الحواش) ليقتل الحاج يعقوب، وينال المكافأة ويسحب منهم التتويج، لكن بمساعدتهم طبعا، حيث توفرت لدى البطل مجموعة من القيم الجيهية التي جعلته أحق بالقيام بقتل الحاج الطاغية، هــذه القـيــم تـتـمثـل فــي (الإرادة ، الواجب، التأهيل، القدرة) ، ويمكن تجلية المسار السردي للبطل على الشكل الآتي:

المرسل العامل-الذات المرسل إليه
الواقع الاجتماعي محمود الحواش الطبقة الواعية
العامل المعرقل الموضوع العامل المساعد
-الحماية اليهودية قتل الحاج يعقوب – شبكة الرفاق
-غنى الحاج -الخنجر

أمام قوة العزيمة والإدارة ، وتوفر جميع القيم الجيهية، يندحر شبح العائق أ و المعارض، فيتصل العامل الذات بموضوعه ( قتل الحاج يعقوب والتخلص من شره) وبالتالي يحصل على المكافأة وهي رضا النفس والآخر،الأرض والأجداد الذين صاروا رميما بجوف هذه الأرض التي تباع بسخافة وغبن. العامل-الذات في النص محمود (الأحواش) تعرض لـمـجـمـوعـة مـن الحـالات والتـحولات التي يمكن تشخيصها كالتالي:

حالة نقص (انفصال) حالة سفر تــنـفـيذ تتويج (حالة اتصال)

حوار مع الزوجة بداية القيام بالواجب قتل الحاج يعقوب – عودة

– ارتخاء نفسي

إن بناء القاص لشخصياته على هذه الشاكلة لا يخلو من خلفيات وأبعاد فكرية، فالغاية منها هو تصوير الشخصية النموذجية التي تكون بمثابة مثال يحتدى، بما أن القصة خطاب/ إرسالية موجهة إلى طبقة معينة قصد تغيير الواقع الذي يبدو محبطا كما تصوره القصة. 

الأجــــــــــــــــــــداد : 

يورد القاص في البداية وصفا لمشاهد الحرب الضروس بين المقاومة الفلسطينية والجيش الإسرائيلي بكل مخلفاتها وآثارها من قتلى وجرحى وتدمير (تأتي الطائرات وتلقي بالقذائف، وترش الناس والبيوت والأشجار وكل شيء بآلاف الطلقات، ثم تروح مخلفة وراءها الدمار والنار والموت) ص 22 وتبقى الهجرة هي أمل النساء والشيوخ للإفلات من طقوس الموت الجماعي وعمليات التذبيح والتقتيل البشـعة، حيث تسقط القرية تلو الأخرى أمام صمود المقاومة المعزولة، وأمام تفاقم أحوال المهاجرين وضعف مؤونتهم وزادهم، ويبرز االعامل- الذات (مرشد عليان) الذي يشكل مرجع القبيلة وشيخها، رمزا للثقافة القروية واستمرارها، فيصرخ معلنا الجهاد والاستشهاد في سبيل الأرض وعدم التخاذل والتقاعس عن بذل المحال من أجل الحفاظ على التربة ورائحة الأرض (الأصل والأم) (اليوم طاب الموت يا شباب، الموت ولا الذل يا رجال، دافعوا عن عظام الأجداد) ص 23 ، تجسد هذه الوضعية حالة النقص عند العامل- الذات (البطل) الذي يستشعر الخيبة والمهانة تستشريان في عروقه، فتزيداه غضبا وتمردا وتبقى الرؤية الدينية هي الملجأ الوحيد: ( فرغ مرشد عليان من صلاته، فبسط كفيه. وتمتم ببعض الأدعية، ثم قلب نظره حواليه. 

-(يا رب هذا هو الجحيم ، الموت والنار والفرق ) ص  23

أمام تصاعد عمليات، القصف ، أنهكت قوى المقاومة، ورحلوا نساءهم وأبناءهم إلى المناطق الآمنة ، في حين فضل العامل – الذات (عليان) البقاء والصمود (لا أمل يابا يجب أن نرحل إلى أين؟ والأرض؟ وعظام الأجداد؟ هيه تقبل الهوان لشيبتي يا محمود؟) ص 24.

بعد رحيل الابن بأيام معدودات، استشعر حنين الأبوة، ورغبة معانقة الأب، فعاد ولكن، هيهات، فقد وجد الجثة والدم والتراب والبندقية فقط.. فيحمل (الجثة) ويواريها إلى جانب عظام الأجداد، ثم يأخذ البندقية ويواصل الكفاح. 

تيمة الانشداد إلى الأرض بالنسبة للشيخ(العامل – الذات) تتجلى حتى بعد الاستـشــهــاد (زحزح الجسد قليلا، فشعر بثقله، وانشداده إلى التراب، كانت اللحية البيضاء مغروسة في التراب كأنها الجذور، والدم قد امتزج بالتراب…) ص 25. 

إن تصوير الالتصاق بين الدم والتراب رمز للارتباط الوثيق بين العامل الذات والوطنية وجريانها في دمه، فالتخلي عن التربة هو بالضرورة تخل عن الدم والهوية، بل تجرع للذل والمهانة، وهو ما رفضه (البطل) عليان، وبالتالي فهو شخصية إيجابية في القصة، ورغم ورود البعد الدرامي في مشاهد البؤس والمعاناة، فإن خيارها الثوري وصمودها في الواجهة، وتشبثها بالأرض يجعلها شخصية تنال المكافأة (سحب الجثة إلى جوف القبر، ومددها إلى جوار العظام المتناثرة) ص 25.

في القسم الثاني من القصة يظهر عامل الذات (شيخ آخر) كان له نفس البرنامج السردي حيث الابن وزوجته يرغبان في الرحيل، أما هو فيريد العودة إلى مسقط الرأس بحثا عن عظام الأجداد ورائحة الأرض (أنا لن أرحل..) ويضيف (ومن قال لك أنني سأبقى هنا، سأعود إلى ذكرين)، وأمام الحالة التي يعيشها العامل – الذات (حالة نقص) لم يدق طعم النوم، ومع بزوغ خيوط الفجر الأولى، استسلم لعتاب ضميره، واستجاب لنداء الأجداد، وترك الأبناء في نومهم الثقيل وعاد (انطلق يسير على الطرق الترابية بين التلال والجبال صوب القرية)، ص 29.

صفوة القول إن البطلين تعرضا لنفس الوضعيات السردية:

حالة نقص (انفصال) صمود حالة اتصال 

– خيبة-هزيمة – قيام بالواجب – استشهاد

– تشرد – شعور بالذل – عودة على الأصل – الخـلــود 

– استسلام الآخرين – تمسك بالهوية – التخلص من عتاب الضمير 

– الشعور بالارتياح

كما أنهما قطعا نفس المسار السردي:

العامل – المرسل العامل – لذات العالم – المرسل غليه
الواقع المتردي العجوزات الإنسان الفـلسطيـني
الغيور على وطنيته

العامل المساعد الموضوع الـعامل المعرقــل
– الضمير العودة إلى الأرض – القوات الصهيونية
– العزيمة – خاذل الشباب
– توفر البرنامج الجيهي – كــبـر الـســـن

ويمكننا أن نرسم شكل تمظهر الدلالة في النص القصصي، الذي تتجاذبه تيمتان أساسيتان من خلال التوارد الحشوي لمجموعة من المقولات المعجمية التي نختزلها في مقومين سياقيين هما: 

التضاد

الرحلة العودة

تناقض

تداخل في تداخل في النفي

الإثــبـات

تناقض

اللا عودة اللا رحلة 

تحت تضاد

يدين البعد الفكري للنص التوجه المستسلم الذي يهون عليه التخلي عن الأرض مفضلا الحياة الذليلة على الموت الشريف، ويمجد في المقابل الخيار الثاني الذي يضحي بالنفس في سبيل الوطنية والأرض (يا ليت الموت أتاني هناك في القرية، لكان ذلك أكرم وأشرف خاتمة لحياتي) ص 29.

مـــمــنــوع الـــتــدخــيــن : 

يركب مسار البطولة في هذه المرة سائق قد افتقد زوجته وابنه في الحرب مع اليهود، ويتهمه البعض من زملائه بالتجسس لإسرائيل، وقتل المطربة اسمهان. في طريق رحلته إلى القدس كسائق لحافلة ركاب تعرض لمضايقة عسكري إسرائيلي، فقتله، ورمى به في الغاب بمساعدة شبكة من رفاقه، ثم أكمل الرحلة. 

ولعل ما دفع السائق أبو فايز للانتقام، هو شعوره بالذل والمهانة نتيجة حالة النقص التي تعرض لها(يا مصطفى ماذا تريدون من الرجل؟ لقد تعب كثيرا في هذه الدنيا، أنا أعرفه، أنا علمته السواقة في حيفا، لقد فقد زوجته وأطفاله في الحرب، وظل وحيدا حزينا) ص 31-32.

كما أن إحساسه بالنقص والقلق والتوتر، أشياء جعلته يكثر من السكوت (لكن أبا فايز.. أعوذ بالله، إنه لا يفتح فمه إلا ناذرا، يا رجل، اتزن كلامك بالذهب؟) ص 31 (أشعل سيجارة جديدة، ونفث الدخان مع آهة مديدة في فضاء الغرفة المعتم) ص 31.

حالة النقص هاته جعلته يتحرك لدفع المهانة والذل عن نفسه، وكانت الفرصة مواتية بعد مضايقته من طرف العسكري اليهودي، قتلُ هذا العسكري هو بمثابة قتل اليهود ككل، ولم لا؟ وهم الذين رحلوه عن أرضه وشردوه وقتلوا أطفاله وزوجته، وبتروا يد زميله أبي سليم (عشنا وشفنا، ها هم يحتلون أريحا، ويتجولون دون خوف) ص31 ، وتتضح حالة النقص عند العامل – الذات أكثر فيما قاله الراوي على لسان أبي سليم (أنا خسرت ذراعي فانسدت الدنيا في وجهي أما هو ( أبو فايز).. ليكن الله في عونه، لقد شاف الكثير.. وتحمل قلبه الكثير.. أبو فايز ذهب، ذهب أصلي) ص 32 ، وقد استطاع الانتقام بمساعدة عوامل مساعدة منها تحقق البرنامج الجيهي (الإرادة، القدرة، التأهيل، الواجب) ومنها أيضا التأهيل النفسي الذي زوده به أبو سليم، وكذا توفره على خنجر ثم تواجد الشبكة من الرفاق الذين خلصوه من الجثة وآثار الدم، العامل المساعد انتصر على العوامل المعاكسة المتمثلة في التهمة التي لفقها له بعض من رفاق الـســوء (قاطع التذاكر، مصطفى عايش، محمد فايق)، ثم خوف الركاب الذين يقلهم إلى القدس عبر حافلته، ويمكن أن نرسم خطاطة المسار السردي كالآتي:

المرسل الذات المرسل إليه
الواقع الاجتماعي أبو فايز – الضمائر الحية
والسياسي – الإنسان الغيور على القضية

الموضوع

المساعد الانتقام المعرقل
– توفره على موسى – التهمة
– شبكة الفدائيين – خوف الركاب
-أبو سليم –الحافلة – سوء ظن الرفاق به

ترسم القصة نموذجا آخر لشخصية إيجابية رغم مأساتها الاجتماعية والسياسية، فهي لم تنس الأرض والواجب الملقى على عاتقها، إنها الشخصية المنشغلة بالانتقام، والتفكير في الهوية والقضية وهذا ما افتقدته باقي الشخصيات التي باعت قضيتها، بل تناستها مفضلة الحياة الذليلة على الاستشهاد من أجل إعادة الأرض واسترجاع الاعتبار على النفس المفتقد.

غريب في المدينة :

منذ البداية يتضح البعد الدرامي للقصة, يظهر العامل الذات (البطل) وهو في حالة إجازة, يريد أن يستريح قليلا من تعب العمل, لكن أين هي الراحة في جو يملؤه ضجيج الطائرات وانفجار القنابل؟ 

(وفجأة دوى انفجار هائل وانفلتت الخطوط البيضاء وراء الطائرات المعادية, استند إلى الحاجز الحديدي, أرسل نظرات طويلة, أشعل سيجارة امتص منها بعض الأنفاس ثم قذف بها إلى البحر) ص 38 – 39. 

(تناهت صافرات الإنذار إلى مسامعه) ص 39.

كان يجوب الشارع تائها شاردا ومستلبا, مشردا لا بيت ولا سيارة يحس بالاختناق والذوبان والإهانة خاصة عندما راودته امرأة فاعتذر لعدم وجود بيت ولا سيارة, فسخرت منه وانصرفت, فتيمة التشرد طاغية على المتن القصصي (وأنا لا بيت لي) (كان لي بيت في أريحا.. وضاع..) ص 41. (تزوج؟.. وأين نحيا؟ وكيف؟ كل يوم في بلد..) ص 42. 

ورود موضوعة المرأة والزواج داخل القصة ليست اعتباطية, إنها ترمز إلى الاستقرار الذي غدا مستحيلا بالنسبة لذات البطل نظرا لعدم توفر الحوافز المساعدة على ذلك (البيت, العمل والاطمئنان, السلم…). وإذ تكثر الرموز الدلالية الموحية بالتشرد داخل النص، يجدر بنا أن نقوم برسم خطاطة تجسد النواة التصنيفية التي تحكم البؤر الدلالية داخل النص القصصي, وهو شكل لتمظهر الدلالة العميقة. 

التشـرد الاستقرار

لا استقرار لا تشـرد

ومع كثرة المثبطات والعوامل المعاكسة, استحال الاتصال بين العامل الذات والعامل–الموضوع, الذي هو تحقيق الاستمتاع والاستراحة من عناء العمل الدؤوب, (أنا الذي واجه الموت عشرات المرات وخاف دون أن يبكي) ص44. يطرح تساؤلا ضمنيا صارخا, إذ كيف ينبغي لعسكري افتقد أرضه واستقراره وقُتل أجداده وآباؤه، أن ينعم بإجازة؟؟ لذا فهذا الفشل هو عامل إيجابي لأنه جعل العامل-الذات يعود إلى القاعدة للدفاع عن القضية وعن الأرض. 

إن القصة تقول بصراحة: لا راحة بدون أرض ولا استقرار في ظل هيمنة الآخر ويمكن رسم تفاعل العوامل كالتالي: 

الواقع النفسي العامل الجنود المرابطيــن 

الذات في القواعد العسكرية 

يوسف

الاستراحة – الاستجمام

– القصف المتواصل توفر شهر الإجازة. 

– عدم توفر الإمكانيات

– الابتعاد عن الأهل 

– الإحساس بالغربة

العري تحت المطر : 

يظهر العامل- الذات في القصة في وضعية افتقاد دون اتصال بموضوعه, وهو الرغبة في الزواج من شخص فنان تعتقد أنه يحبها, لكنها اكتشفت أنه يشتهيها فقط (أنت تشتهيني فقط) ص 45. 

(يعاملني كأنني بغية) ص 46. (وتحب نصفي السفلي) ص 47

(- ولكنك قلت لي مرارا أنك تحبني؟ 

– كنت أكذب.) ص48. 

هذه المرأة (سهام) طلقها زوجها الأول بعد أن ولدت منه ابنا, لذا فهي لم تعد تثق بالرجال, وها هي تجربة أخرى تؤكد لها ذلك، حيث يرفض قرينها الزواج منها مفضلا أن تكون له خليلة فقط وتنادمه, تشاركه اللذة… تغمره دفئا.. كان يحب رؤيتها عارية تماما.. 

إن موضوعة الزواج – كما قلنا سابقا – رمز للاستقرار الذي يتلاشى ويختفي، أما سطوة موضوعتيْ العراء والتسكع تحت المطر, دون أن ننسى عدم رغبة الرجل في الزواج أو معاملته للمرأة كمتاع ومصدر للذة فهما موضوعتان فرعيتان. وهذه ترسيمة لمسار التحولات التي تعرض لها العامل- الذات (سهام):

هذه التحولات يمكن جدولتها في خطاطة تبين شكل تمظهر المسار السردي للعامل الذات:

 

هناك أشياء خفية تحول دون وقوع الانسجام بين شخصيتي القصة وتؤجج شعورها بالنفور من الاستقرار: لذا يبدو على سلوكاتها الغرابة والشذوذ. 

الانفصال : 

جاء العنوان -كما هو مثبت– منبئا بانفصال بين شاب يدعى الأستاذ يوسف وشابة تدعى مريم بعد أن ربطتهما منذ الصغر علاقة حب وثيقة، وبعد أن أصبح العامل الذات أستاذا بدأ يتهرب من وعده أمام إلحاح مريم على الإسراع بالخطوبة وإعلان الزواج لأن بطنها بدأت تكبر (بطني كبرت أنا خائفة) ص57. لكنه كان يجيبها دائما (وماذا أفعل لك؟ يجب أن أؤمن مستقبلي) ص57. وعند اكتشاف أسرتها بأنها حامل ذبحوها (ذبحوها يا للفاجعة!) ص54. وبقي صوت مريم يلاحقه كهاتف سماوي يقرأ تراتيل الخطيئة والذنب (نحن وحوش وأنت, أنت من أين أتيت؟ هل نزلت من السماء؟ بنات المدينة لسن أجمل من مريم, الله يجازي من كان السبب) ص56. وظلت هذه الكلمات تعاتبه وهو يرقب نعشها الرائح وصوت أمه ينبعث من بعيد (خذيني معك يا مريم.. يا خسارة شبابك) ص57.

فتوالي الوحدات المعجمية الدالة على (العتاب, تأنيب الضمير, الخوف, الشعور بالظلم..) تجعلنا نستكشف النواة التصنيفية التي تحكم النص كما يلي:

 

النص يكشف الصراع القائم داخل ذات البطل (يوسف) بين تيمتين أخلاقيتين (الخطيئة والفضيلة). ورغم مأساوية القصة فهي تبلغ رسالة أخلاقية تحارب فيها التلاعب بعواطف الآخرين وشرفهم (في العراء.. وبعيدا عن شجرة السرو التي كان يلعب مع مريم تحتها, ارتمى وحيدا.. في الصمت الرهيب) ص57.

هديل الحجل:
 

هذا الصوت أعني “هديل الحجل” بنغمة الحزن اللعينة التي يمتد إيقاعها في القصة منذ البداية – حتى في لحظة الاتصال بين أبي خالد, العامل-الذات وصديقته الأمريكية “بات” –
(-أحب الحجل.

-لكنه حزين ودائما يشعر بالخطر) ص 59. 

( فتح أبو خالد عينيه, أصغى, فارتفع نشيد الحجل وسط الدخان والنار) ص66. 

كان هذا الصوت يشكل إنذارا إما لفراق أو لمأساة أو إغلاقا لبداية القصف خاصة حينما يلتقي مع ارتجاج الأرض بقوة (تطاير أوراق الأشجار الذابلة) ص58. (أخذت تنكش الأرض المكسوة بالوراق الذابلة) ص 58. ورغم حالة الاضطراب هاته التي نغصت على العشيقين حالة استقرارهما واتصالهما الحميمي, فقد استطاعا أن يسترقا خلسات حب حميمية مع بعضهمـا.. لكن ذلك لم يدم طويلا أمام عزمهما على الرحيل واقتراب دوي القصف. ظلا على تواصل بالمراسلة كما تعاهدا لكن البطل يفاجأ بموتها وهو بالسجن في بلدها اللعين كما كانت تسميه (أمريكا), وبين الاتصال المسترق والفراق (الانفصال النهائي) تكثر المؤشرات الدلالية التي ترمز إلى اللا ستقرار (سألته:

-وأنت يا أختي متى نتزوج؟؟ 

-أنا.. أنا.. أنا يا شفيقة, مشواري صعب وطويل) ص64. 

وبناء على هذا, فإن المقولة الإثنية المتضادة التي تحكم شكل تمظهر الدلالة هي (الاتصال ≠ الانفصال)

 

الصراع القائم بين المقولتين (الاتصال ≠ الانفصال) يكشف عن بنية اختلافية يولدها تصادم القيم الصارخة التي تفرغ الإنسان الفلسطيني والإفريقي عامة من محتواه, بل إن طقوس ومراسيم الظلم والاضطهاد تنقل شخصيتي القصة من معاناة إلى أخرى: 

التشرد ===> طقوس الحرب ====> السجن ====> الموت 

السمكة تعود إلى الماء 

»إنه التعب والذهول, الشمس والدخان وهدير الطائرات يأتي من الفضاء، الأرض ترتج كأنها توشك على الانفجار«ص 67. 

بهذا الفضاء الخانق يؤثث القاص حلبة متنه الحكائي, فيبدو البطل منهكا, مذعورا يحمل بندقيته الواهنة, ويرتدي البذلة العسكرية الثقيلة القاتلة بلا معونة, ولا عتاد.. العزلة والضيق, وجو الاختناق المليء بالقصف, النار, الموت, في هذا الفضاء يجد العامل- الذات نفسه ضئيلا أمام سرب الطائرات التي تطارده, وكثرة القذائف التي تتساقط على رأسه, فيكتشف تفاهته وعريه الصارخ, ووحدته القاتلة, وعرف أن الموت ملاقيه لا محالة, وأن الوصول إلى جنة عدن مستحيل (أريحا) »أريحا, هناك, وراء النهر, جنة عدن, لكن النهر بينك وبينها والموت أيضا.. والهلاك لا محالة«, وإذ عرف أن برنامجه السردي لن يتحقق وأن قواه خارت أمام نار القصف »النار أكلت الأشجار, الأغصان الخضراء غرقت في الدخان واللهب, القذائف تكتسح الأشجار الضخمة فتنكسر ويتطاير منها الشرر.. النار تتوهج في عينيه « ص67 –68. ونار الشمس الحارقة (التلال الرملية تلتمع، هناك تحت الشمس التموزية الجهنمية، ومن الرمال تحت قدميه يطلع اللظى فيشوي قدميه وساقيه).

أمام تشعب الأزمنة عند العامل- الذات يكبر شعوره بالموت يطوقه من كل حذب وصوب, وأمام التنبؤ باستحالة اتصاله بالعامل–الموضوع “العبور إلى أريحا” فضل إلقاء نفسه في النهر منتحرا على أن يعيش معزولا يتوفى ببطء على إيقاع عتاب الضمير, واختناق الجو بالحر والنار والحرب ومفارقة الأهل, فضل الموت الفوري على الموت بالتقسيط والكمد: 

حالة نقص ====> إحباط ====> موت. 

وإذا كان النص ككل يوحي بجو الحرب والموت، فإنه يخفي وراء طياته وأغواره حياة ضمنية تتمناها شخصيات وكائنات الفضاء القصصي من أرض ونهر وأغصان وأشجار وشخوص… فالتفاعل والصراع بين هذا الزوج الاختلافي هو الذي يولد دلالات النص ويمظهرها على النحو التالي:

 

يستجلي هذا المربع السيميائي المقولة الصارخة التي تتضمنها ثنايا النص القصصي الا وهي “إما العيش الكريم أو الموت الفوري, ما دام أن الموت في فضاء النص لا محيد عنه)
هل تحب رخمانينوف : 

(- هذا الرخمانينوف يرهق إنه موجع. 

-لا هذا الرخمانينوف يكثف عواطفك, يركز أحزانك, يعيدك إلى إنسانيتك, إنه لا يميعك ولكنه يغيرك) ص 76. 

على إيقاع هذه الموسيقى (رخمانينوف) الحزينة التي تذكر بالأرض. تنسج أحداث القصة ويبنى البرنامج السردي للبطلين أسعد وفهمي انطلاقا من توالي التحولات التي تحكم المتن الحكائي (حالة نقص, فقدان الوطن والابتعاد عن الأبناء والزوجة, عدم التوفر على بيت وزوجة…) ثم تتعمق الأزمة (قصف البناية, جرح سوسو التي يرى فيها فهمي صورة ابنته, احتراق جواز السفر..) وانتهاء بإنقاذ سوسو وإعادتها لأهلها سالمة بعد تضميد جرحها. 

وتمتلك تيمة الضياع ناصية اللغز القصصي خاصة بالنسبة للعامل الذات- أسعد، حيث افتقد الوطن وراح يجتر الخيبة تلو الخيبة (آه من هذا الوطن الذي يعذبنا كل لحظة، إنه يطاردنا) ص77.
نضيف إلىعدم القدرة على الزاوج (جبنت عن الزواج, تركت صونيا وجئت) ص77. وكذا عدم التوفر على مسكن (أريد أن أقاتل, وأريد بيتا وزوجة وسيارة و..) ص77.

ثم فقدان جواز السفر (- فهمي لقد احترق جواز سفري , تركته في الحقيبة) ص 79. إنه الضياع بكل بساطة (أنا في بحر هائج يا فهمي الأمواج العالية, وقاربي… آه من قاربي.. إنه يدور في الدوامة العاتية..) ص77. 

إذ بين الضياع والاستحقاق تتيه السيولة الدلالية الخفية للنص الذي يبوح بمعاناة الإنسان الفلسطيني المثقف متمثلا في شخص أسعد (الفيزيائي المتخرج من جامعة عالية بدون شغل ولا زوجة ولا مسكن) ويمكن أن نصوغ تمظهر الدلالة (النواة التصنيفية) على الشكل التالي:

 

مهر البراري: 

نظرا لأهميتها، فقد اتخذت القصة عنوان المجموعة ككل, بل حتى الصورة المدرجة في الغلاف تبرهن على أهميتها، وعامل-الذات هذه المرة مهر افتقد حريته وأصبح أسيرا في يد فلاح لا يحترم حقوق الحيوان (يبدو أن صاحبه لم يكن يطعمه تبنا, ربما رباه على أعشاب البراري الخضراء الريانة بماء السماء ولكنه أخيرا سيجر النير ويساعد في الحراثة) ص83. (سيظل هذا المهر عنيدا لبضعة أيام, لكنني سأجوعه وأطعمه الشعير, ثم أجوعه وأطعمه التبن.. ثم أضع النير على منكبيه العريضين, وأجعله يجر سكة الحراثة) ص85 .

العامل-الذات يشعر بالإهانة ويتعطش للانعتاق من سجنه ويطمح إلى الخروج من حالة النقص والاتصال بموضوعه, خاصة وأنه علم بمصيره عند هذا الإنسان القاسي القلب الذي يستغل الحيوان وبعد أن يهرم ويكبر يقتله ويتخلص منه (انتهى أمره, لم يعد يستحق الطعام الذي يبتلعه كل يوم…) ص87, فاستشعار المهر بهذه الإهانات هو الذي جعله يثور غضبا ويتحين الفرص للانفلات والهرب (فأهوى بقائمتيه على الغربال فتناثر التبن الناعم وتدحرج الغربال بعيدا) ص83. (إنه حرون لقد اقتدته طيلة الطريق, ولم أتمكن من امتطائه) ص 82. (نفر عنقه وتطلعت عيناه إلى الآفاق والبراري البعيدة) ص81. كل هذه المقولات المعجمية تبدي استياء المهر من الوضعية التي يعيشها ورغبته في الاتصال بموضوعه “الانعتاق والتحرر” ، وكانت المرأة دائما بجانبه وشكلت العامل المساعد بالنسبة له (والله حرام, هذا جواد عربي أصيل.. الحراثة والدراسة تليق بالبغال والكدش.. حرام) ص83. (والجواد القديم.. إنه مريــض ولكن يمكـن أن يشفى.. ألفنــاه حتى كأنــه منا) ص 83- 84.

فتوارد هذه المقولات الدلالية ومقولات أخرى توحي بالشفقة والرحمة التي توليها المرأة للمهر, وهذا هو سر ورودها جنبا إلى جنب مع المهر في الصورة الخارجية المدرجة على الغلاف.

وأمام اندحار العوامل المعاكسة المتمثلة في الرجل والباب البراني للحظيرة, انطلق الفرس هاربا من سجنه إلى البراري البعيدة (ثم إنه انطلق عابرا البساتين, باتجاه البراري البعيدة) ص 86.

ويمكن أن نسوق البرنامج العاملي الذي يحكم المسار السردي للعامل الذات كالتالي:

 

 

إن المهر هو رمز للعربي الأصيل الذي لا يرضى بالذل والمهانة, فهو يأبى الاستغلال ويصبو إلى الانعتاق منه بأي وسيلة كانت. ويبقى المهر بطلا ناجحا استطاع تحقيق الاتصال بموضوعه الأساسي (الانعتاق) والتحرر, وللإنسان العربي في ذلك عبرة (الخيل في نواصيها الخير إلى يوم القيامة).

لكن أهمية هذا النوع من المقاربات تكمن في كونه يختزل النص إلى مجموعة من التيمات والموضوعات المتضادة, التي تتصارع دخل النص مولدة بؤرا دلالية عميقة تستشف الخلفيات العامة للنص الثاوية خلف السطور. وكما هو ملحوظ فإن مجموعة “مهر البراري” تتضمن عبر قصصها مقولات إثنانيــة متقاربــة (التشرد ≠ الاستقرار) (الرحيل ≠ الصمود) (الذل ≠ الإهانة) (حياة ≠ موت) (الخطيئة ≠ الفضيلة) (الضياع ≠ فرض الذات) (الاتصال, الانفصال). وكل هذه المقولات الاختلافية المتصارعة تكشف الحالة المأساوية لشخصيات المجموعة القصصية التي لا تنفصل عن معاناة الإنسان الفلسطيني الذي يعيش ضياعا بين خيارات الصمود والمواجهة والهروب والتملص من المسؤولية. إن مجموعة “مهر البراري” تجيب عن العديد من التساؤلات التي تعري وتفضح بشدة العقليات التي تبيع قضيتها كرها أو طوعا, كما أنها تعمق الشعور بالمهانة خاصة حينما ترتبط الأرض والدم و والشرف والزوجة والأبناء والضمير, إنها تستكشف الشعور بالخيبة لدى الإنسان الفلسطيني في كل المواقع. فالقاص كان ناجحا في تشكيل وتأثيث الفضاء الذي احتضن الأحداث, وجعله بشكل رمزي مكثف يعكس وضعية العامل- الذات (البطل) المأساوية ويعبر عن حالة النقص لديه, فلون السماء, ارتجاج الأرض, هديل الحجل والحمام, كثرة التدخين, الصمت, الضياع في الشوارع, أفول الشمس, شدة الحرارة, احتراق أوراق الأشجار, تناثر الأوراق وذبولها, كثرة الطقوس المأتمية, النحيب والبكاء، عدم الرغبة في الزواج (الاقتران بهالة شرف لا أطمع فيه). كل هاته المقولات الدلالية تكرس الرؤية الفكرية لدى القاص عبر حديث الشخوص وبوحها بامتعاضها الشديد من العيش الدليل والاستمرار الرتيب (ما هذه بحياة!) (لو أن الأرض تخرج أثقالها, لو أنها تنشق وتبتلع في جوفها هذا العالم القاسي, لو أن… آه لو ينتهي هذا العذاب) ص 68. 

إن تعميق الإحساس بالطقوس المأساوية للأبطال بهذا الشكل هو إذكاء وتحسيس للآخر بالمسؤولية (المتلقي) وتشخيص صورته في المرآة, ورغم ذلك فالقصص لا تعكس الواقع فقط, وإنما تعطي بديلا ضمنيا أو صريحا, فالقيام بالانتقام أو صمود البطل من جهة وتخلفه من جهة أخرى يؤديان نفس الرسالة، خاصة عندما يشعر المتخاذل بالخطيئة والعار والذنب والذل، لذا فبناء على الاستقراء الأولي للنوى المتوصل إليها سابقا يمكن أن نركب نواة تصنيفية واحدة تختزل جميع المقولات المتضادة السابقة, لتكون بالتالي هي بؤرة الدلالة العامة في النص ككل وهي مقصود الرسالة, فالشخصيات في المجموعة القصصية تتجاذبها تيمتان أساسيتان هما التخاذل من جهة, حيث القسط الأكبر من الشخوص تتملص من المسؤولية في الدفاع عن الأرض وعظام الأجداد .., والمواجهة من جهة ثانية حيث الإعلان الصريح أو الضمني عن قدرة الفلسطيني أو العربي عموما على مسح العار ودفع قاذورة الذل عن نفسه ولو بدمه أوروحه, وبين هذه الثنائية تتأرجح طائفة أخرى من المعنيين تعيش التشتت الكلي بعد أن افتقدت القدرة على اتخاذ القرار الوجيه وتحديد المصير في حياة بئيسة, وبالتالي يمكن تشكيل خطاطة المربع السيميائي الذي يمظهر هذه المقولة الاختلافية على الشكل التالي:

تضاد

تناقض

تحت تضاد

يشكل الطرف الأول التيمة المكرسة التي يمارسها القاص ورؤيته للعالم. أما الموضوعة المضادة فهي التي يطمح النص لتبليغها كرسالة إلى المتلقي، وهذا نزوع الكتابة ورهانات المنظور الفكري عند الكاتب الذي تغلي في دمائه حرقة الأرض ولهيب القضية.

وصفوة القول، إن المجموعة القصصية تبرز صورة المعاناة التي يتخبط فيها الإنسان العربي المغلوب على أمره، بنوع من القسوة والحزم وقد نجح الكاتب في بناء رؤية فكرية ملتزمة تمتح من الماضي مادتها ومن الواقع غسيله ومظاهره ومن المتخيل غناه ورمزيته، وقد نسج ذلك كله بلغة سردية مباشرة بسيطة تنهل من الدارجة وترتكز على العنصر الدرامي المثير وعلى عنصري التكثيف والحكي اللذين يعتبران ماء النص ونبضه القوي.

المراجع المعتمدة

1-رشاد أبو شاور:(مهر البراري)، دار العودة، بيروت، ط2، 1979.

2-حميد لحميداني:(بنية النص السردي)، المركز الثقافي العربي،ط1، بيروت، البيضاء،1991

3-صبحي محيي الدين:(البطل في مأزق)، مطبعة الكاتب العربي، منشورات اتحاد الكتاب العرب،ط1، دمشق، سوريا، 1979.

4-رولان بارت: (سميولوجية الشخصية الروائية)، ترجمة سعيد بنكراد، مطبعة فضالة، المحمدية 1990.

5-نوسي عبد المجيد: التحليل السيميائي للخطاب الروائي، مطبعة النجاح الجديدة، البيضاء،ط1، 2002

6- السيميوطيقا والعنونة: عالم الفكر،المجلد الخامس والعشرين، ع3 يناير- مارس 1997

تنويه: 

نظرا لكثرة الإحالات على توثيق النصوص المستشهد بها من النص المصدر، فقد أثبتناها داخل المتن التحليلي، وبه وجب الإعلان.

اترك تعليقاً