بساط الريح

مفهوم الحق في الحياة الخاصة للإفراد – الدكتور عادل عامر

ان الحاسوب بشراهته التي لا تشبع في جمعه للمعلومات وما هو معروف عنه من دقة وعدم نسيان اي شيء يوضع فيه، قد تنقلب معه الحياة رأسا على عقب ،فيخضع الأفراد لنظام رقابي مشدد يتحول معه المجتمع إلى عالم شفاف ترقد فيه مكشوفة بيوت الناس ومعاملاتهم وحالتهم العقلية والجسمية لأي مشاهد”. هذا ما صرح به احد المختصين حول المخاطر المتولدة عن استخدام الانظمة المعلوماتية على الحياة الخاصة للافراد ،فالحق في الخصوصية يعتبر من أهم الحقوق اللصيقة بالشخصية الإنسانية وقد نص عليه العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية وذلك لما له من ارتباط وثيق بحرية الفرد، و الحاجة كانت ملحة لضمانات قانونية تحمي الحق في الحياة الخاصة للأفراد من المعلوماتية بأدواتها المتمثلة في جهاز الحاسوب والشبكة العالمية للمعلومات وما لهذه الأدوات من قدرة فائقة على جمع اكبر قدر من المعلومات والبيانات عن الأفراد واسترجاعها وتصنيفها وتحليلها ومعالجتها ومن ثم مبادلتها، إلا انه وبعد طول انتظار جاء قانون جرائم أنظمة المعلومات غامضا في بعض مواده خاصة تلك المتعلقة بحماية الخصوصية، واختزل في نصوصه صورا لجرائم عدة مما افقده الوضوح والتحديد ودقة الصياغة، واغفل صورا لجرائم الكترونية اخرى تتعلق بحماية الحق في الحياة الخاصة مما جعله قانونا يتسم بالقصور التشريعي.                                                                                                       

يعتقد البعض ان افشاء المعلومات والتنصت عليها والاعتداء على حرمة الاتصالات والمراسلات وسريتها يعد اهم صور الاعتداء على الحياة الخاصة وهذه الصور هي التي ركز عليها المشرع الاردني في قانون جرائم انظمة المعلومات، الا ان الاعتداء على الحق في الحياة الخاصة من خلال الانظمة المعلوماتية مفهوم أوسع واشمل ويأخذ ابعادا واشكالا مستحدثة ابرزها جمع البيانات عن الافراد وتخزينها على نحو غير مشروع ويستمد هذا الجمع او التخزين صفته غير المشروعة اما من الاساليب غير المسموح بها المستخدمة للحصول على هذه البيانات او المعلومات او من طبيعة مضمونها كالمعلومات المتعلقة بالمعتقدات الدينية والسياسية والانتماءات الحزبية والاصل العرقي للافراد والتي يجب ان تكون بمنأى عن الجمع والتخزين لاتصالها بالحياة الخاصة للافراد، وهو الامر الذي قننه الدستور البرتغالي حيث نص على انه”لا يجوز استخدام الحاسبات الالكترونية في معالجة البيانات المتعلقة بالاتجاهات السياسية او المعتقدات الدينية او الحياة الخاصة عدا البيانات التي تتعلق بالتعداد السكاني والبيانات غير الشخصية”.                                                                                                 

صورة اخرى من صور الاعتداء تتمثل في اساءة استعمال البيانات والمعلومات المتعلقة بالافراد؛ فالمعلومات التي يتم تجميعها وتخزينها لا بد وان يكون لها هدف واضح ومحدد سلفا ولا بد من التزام الجهة القائمة على النظام المعلوماتي بالهدف الذي من اجله قامت بتجميع ومعالجة المعلومات وهو الامر الذي نشاهد يوميا خروقات له من خلال تجاوز شركات الاتصالات للهدف الذي تم من اجله تجميع المعلومات ومعالجتها عن العملاء حيث يعاني الكثير من المواطنين من رسائل الدعاية القصيرة التي تصل الى الهواتف المتنقلة دون الحصول على اذن خطي مسبق من العميل يسمح فيه باستقبال هذه الرسائل ويظهر ذلك ايضا من خلال رسائل البريد الالكتروني الدعائية التي تصل الى الافراد دون علم منهم كيف ومتى تم الحصول على المعلومات المتعلقة بعنوان بريدهم الالكتروني. علاوة على ذلك فالهدف من جمع المعلومات عن الافراد يجب ان يكون مرتبطا بمهمة ووظيفة الجهة القائمة على التخزين ، وهذا الامر تنبهت له المحكمة الدستورية في المانيا حيث جاء في احد قراراتها ” انه لا حرية راي او حرية اجتماع ولا حرية مؤسسات يمكن ان تمارس كاملة ما دام الفرد غير متيقن في ظل اي ظروف ولاجل اي هدف جمعت عنه المعلومات الفردية وعولجت اليا في الحاسوب”. كما ان السماح بجمع البيانات او المعلومات عن الاشخاص مع عدم معرفة اوجه استخدامها في المستقبل يمثل احد الاخطار التي تهدد الحياة الخاصة للافراد ويظهر هذا الخطر جليا من خلال بنوك المعلومات التي تنشئها شركات التامين والاموال والبنوك وغيرها من المؤسسات التي تقوم بجمع معلومات تتعلق بحياة عملائها الشخصية او الصحية او عن حجم معاملاتهم ومنافسيهم وغير ذلك من معلومات قد يتم استغلالها بطريقة غير مشروعة في المستقبل وخاصة من خلال قيام بعض هذه المؤسسات ببيع هذه المعلومات لشركات او مؤسسات او جهات اخرى للتربح المادي. ويعتبر تخزين معلومات خاطئة غير مطابقة للواقع وغير صحيحة او دقيقة صورة اخرى من صور الاعتداء على الحياة الخاصة فهذه المعلومات قد تترك اثارا سيئة على سيرة الانسان وصورته ويلحق به ضررا واخطارا كبيرة خاصة على مستقبله الوظيفي والاجتماعي ان الحق في الحياة الخاصة للافراد يتطلب الى حانب الحماية القانونية ان يتمتع الفرد في التشريع الاردني بمجموعة من الحقوق المرتبطة ارتباطا وثيقا بجوهر الحق في الخصوصية ياتي في مقدمتها حقه بالاطلاع على المعلومات الخاصة به والوصول اليها وان يكون على علم بجميع البيانات المخزنة عنه، وحقه بالغاء المعلومات الخاطئة عنه او تصحيحها وتعديلها اذا دعت الحاجة الى ذلك، ومن اهم الحقوق التي يتوجب صيانتها وحمايتها والتي يعاني الفرد في مجتمعاتنا بسبب غيابه الكثير حماية حق الفرد بالنسيان فالمعلومات لا بد وان تتلف بعد مدة محددة وان لا تبقى شبحا يطارد الفرد اينما ذهب ، وهناك تجارب لدول وصلت الى مراحل متقدمة في هذا المجال فالدستور البرتغالي ينص على ان”لكل المواطنين الحق في معرفة المعلومات التي تتعلق بهم وما تتضمنه بنوك المعلومات من بيانات خاصة بهم والاستخدامات المعدة لها ويكون لهم طلب تصحيحها او تصويبها او الاضافة اليها كل فترة عندما يطرأ تغيير “. وهذا ايضا ما اكدت عليه اللجنة المعنية بالحقوق المدنية والسياسية في معرض تعليقها على المادة 17 من العهد والمتعلقة بالحق في حرمة الحياة الخاصة للفرد حيث اشارت الى انه “يجب أن ينظم القانون عمليات جمع وحفظ المعلومات الشخصية باستخدام الحاسوب وغيرها من الوسائل، سواء أكانت تجريها السلطات العامة أم الأفراد العاديون أو الهيئات الخاصة. ويتعين أن تتخذ الدول تدابير فعالة لكفالة عدم وقوع المعلومات المتعلقة بالحياة الخاصة للشخص في أيدي الأشخاص الذين لا يجيز لهم القانون الحصول عليها ، وعدم استخدامها على الإطلاق في أغراض تتنافى مع العهد. ولكي يتسنى حماية الحياة الخاصة للفرد على أكفأ وجه ينبغي أن يكون من حق كل فرد أن يتحقق بسهولة من ماهية البيانات المخزنة، والغرض من الاحتفاظ بها، كما ينبغي أن يكون بمقدور كل فرد أن يتحقق من هوية السلطات العامة أو الأفراد العاديين أو الهيئات الخاصة التي تتحكم في هذه البيانات، وإذا كانت هناك بيانات شخصية غير صحيحة أو بيانات جمعت أو جهزت بطريقة تتعارض مع أحكام القانون، ينبغي أن يكون من حق كل فرد أن يطلب تصحيحها أو حذفها”.                                                                        

لقد آن الاوان لنرتقي بتشريعاتنا الوطنية بما يكفل حماية مقتنيات الحياة الخاصة للفرد وبما يتوافق مع الالتزامات المفروضة على الاردن بموجب العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية الذي نشر في الجريدة الرسمية عام 2006 واصبح جزءا من النظام القانوني الوطني ، وهذه دعوة ايضا للمحامين للاستناد الى احكام العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية ي بتقديم طلب أو دفع أمام القضاء في القضايا التي تتعلق بالحق في حرمة الحياة الخاصة للافراد.  إن تدفق المعلومات وانسيابها عن طريق أجهزة الاتصال الحديثة وخاصةً الكومبيوتر والانترنيت له أثر إيجابي في مجال المعاملات القانونية المدنية والتجارية.

    ويقابل الأثر الإيجابي لوسائل الاتصال الحديثة أثر سلبي وعلى مختلف الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية سواء على المستوى الداخلي للدول أم على المستوى الدولي.

     ولا يتوقف الأثر السلبي إلى هذا الحد، بل يمتد ليشمل حقوق الإنسان وحرياتهُ الأساسية، ومن أهم هذه الحقوق التي تعرضت للانتهاك الالكتروني في مجال تكنولوجيا المعلومات هو الحق في الخصوصية أو الحق في الحياة الخاصة.

   ولبحث هذا الموضوع سنقسمهُ إلى عدة محاور نتناول في المحور الأول تعريف الحق في الخصوصية أو الحق في الحياة الخاصة وأنواعها.

     بينما سنبحث في المحور الثاني صور الانتهاك الالكتروني لخصوصية الأفراد أو بعبارة أخرى – أثر تقنية المعلومات على الحق في الحياة الخاصة في الوقت الذي سنخصص المحور الثالث لبيان وسائل مواجهة الانتهاك الالكتروني لحقوقية الأفراد.

المحور الأول

تعريف الخصوصية وأنواعها

    من الصعب وضع تعريف جامع مانع للحق في الحياة الخاصة أو الحق في الخصوصية، لأن تعريف هذا الحق يرتبط بالتقاليد والثقافة والقيم الدينية السائدة والنظام السياسي في كل مجتمع. فضلاً عن ذلك… فإن أغلب التشريعات اتجهت إلى عدم إيراد تعريف للحق في الخصوصية، واكتفت بوضع نصوص تكفل حماية الحق وتعدد صور الاعتداء عليهِ.    ولكن يلاحظ بأن هذا الأمر لم يمنع من نشوء العديد من التعريفات من قبل الفقه القانوني القضائي ومن هذه التعريفات ما ذهب إليه قاضي المحكمة الأمريكية العليا، بأن الخصوصية هو أن يترك الشخص ليكون وحيداً. كما عرف الحق في الحقوقية من قبل فقهاء آخرين بأنه رغبة الأفراد في الاختيار الحر للآلية التي يعبرون فيها عن أنفسهم ورغباتهم وتصرفاتهم للآخرين.

 

     ومن خلال ما تقدم:- يمكن أن نعرف الحق في الخصوصية -بأنه حق الأفراد في الحماية من التدخل في شؤونهم وشؤون عائلاتهم بوسائل مادية مباشرة أو عن طريق نشر المعلومات عنهم.

هذا ما يتعلق بتعريف الحق في الخصوصية، أما أنواعها فهي:-

   أولاً:- الخصوصية الجسدية والتي تتعلق بالحماية الجسدية للأفراد ضد أية إجراءات ماسة بالنواحي المادية لأجسامهم كفحص الجينات.

   ثانياً:- حماية الاتصالات وتتمثل بحق الأفراد في سرية وخصوصية المراسلات الهاتفية والبريدية والبريد الالكتروني.

  ثالثاً:- الخصوصية المكانية والتي تتعلق بحرمة المسكن، أو وضع القواعد المنظمة للتفتيش والرقابة الالكترونية والتأكد من بطاقات الهوية سواء كان الفرد في محل العمل أو في الأماكن العامة.

  رابعاً:- خصوصية المعلومات والتي تتمثل بحق الأفراد بعدم اطلاع الغير على المعلومات الخاصة بهم والمثبتة في أجهزة الكمبيوتر والانترنيت.

المحور الثاني

صور الانتهاك الالكتروني لخصوصية الأفراد

    إن صور الانتهاك الالكتروني لخصوصية الأفراد كثيرة ومتنوعة تبعاً لتنوع صور الحق في الحياة الخاصة، ومن هذه الانتهاكات على سبيل المثال.

   أولاً:- نشر وإعلان مفردات الحق في الحياة الخاصة للفرد في وسائل الإعلام والاتصال المختلفة دون موافقتهُ الصريحة أو الضمنية وكذلك التلاعب في البيانات الشخصية أو محوها عن طريق أشخاص غير مرخص لهم بذلك.

   ثانياً:- انتهاك خصوصية الأفراد بوسائل التنصت والتسجيل الحديثة والمراقبة الالكترونية بالأقمار الصناعية والكاميرات الرقمية المحولة عن طريق الهواتف المحمولة.

   ثالثاً:- إن الكثير من المؤسسات والشركات الحكومية الخاصة تجمع عن الأفراد بيانات عديدة تتعلق بالوضع المادي والصحي والعائلي والعادات الاجتماعية، وتستخدم الحاسبات وشبكات الاتصال في خزنها ومعالجتها ونقلها، وهو ما يجعل فرص الوصول إلى هذه البيانات بسهولة كبيرة مما يشكل انتهاكاً لخصوصية الأفراد ورغبتهم بعدم معرفتها من قبل الغير.

المحور الثالث

وسائل مواجهة الاتصال الالكتروني لخصوصية الأفراد

     نظراً للمخاطر والأضرار التي تسببها وسائل الاتصال الالكترونية وخاصة الكمبيوتر والانترنيت على خصوصية الافراد، ومن أجل الحد من الأثر السلبي لهذه الوسائل، أقتضى الأمر إيجاد وسائل مناسبة لموجهة أو للحد من الانتهاك الالكتروني لخصوصية الأفراد، وهذه الوسائل تتمثل بالدور الذي تقوم به المنظمات الدولية والإقليمية لحماية الحق في الخصوصية، فضلاً عن الدور الذي تقوم به الدول لحماية الحق في الخصوصية.

ولذلك سنقسم هذا الموضوع إلى فرعين:-

    الفرع الأول: يتمثل بالجهود الدولية والإقليمية لحماية الخصوصية المعلوماتية فنلاحظ بأن العديد من المنظمات الدولية عملت على تنظيم وحماية المعلومات الخاصة وتنظيم تدفق المعلومات وانتقالها، ومن هذه المنظمات “منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية” والتي بدأت منذ عام 1978 بوضع أدلة وقواعد إرشادية بشأن حماية الخصوصية ونقل البيانات.

    وكذلك مجلس أوربا، الذي كان له دور كبير في عقد الاتفاقية الأوربية لحقوق الإنسان والحريات العامة لعام 1950، حيث أوجبت المادة “8” من هذه الاتفاقية على حماية الحياة الخاصة بالنص على حماية الأفراد من التدخل والاعتداء على حياتهم الخاصة وحياة اُسرهم. كما قررت المادة “10” من هذه الاتفاقية على وجوب حماية حق الوصول ونقل المعلومات.    بالإضافة إلى ذلك فقد كان للاتحاد الأوربي دور كبير في حماية الحق في الخصوصية، إذ صدر عن الاتحاد عدة تعليمات بهذا الشأن منها:- 

  التعليمات المتعلقة بحماية الأفراد من أنشطة خزن ونقل البيانات والتعليمات المتعلقة بحماية الأفراد من أثر التطور التقني لمعالجة البيانات والتوجيه الأوربي رقم 85 الصادر من البرلمان الأوربي في سنة 2002 والمتعلق بالمعالجة الآلية للبيانات وحماية الحياة الخاصة.

– هذا بالإضافة إلى الدور الكبير الذي تقوم به الأمم المتحدة ومنظمة التجارة العالمية بهذا الخصوص..

   الفرع الثاني:- الحماية الداخلية للحق في الخصوصية بالإضافة إلى الدور الذي تقوم به المنظمات الدولية والإقليمية في حماية الحق في الخصوصية، يوجد هناك حماية داخلية تتمثل بالتشريعات التي تصدر من بعض الدول التي تبين فيها تعريف الخصوصية وبيان أنواعها ووسائل حمايتها، وسنبين في هذا الفرع موقف كل من القانون الأمريكي والفرنسي والعراقي بهذا الخصوص

* بالنسبة إلى الولايات المتحدة الأمريكية فقد سنت الكثير من القوانين لحماية الأفراد من اقتحام الخصوصية، ومن هذه القوانين قانون الخصوصية الفيدرالي الذي صدر سنة 1974 وقانون حرية المعلومات لعام 1970 وكذلك صدر قانون المقاضاة للكمبيوتر وحماية الخصوصية الصادرة سنة 1988.

    أما فرنسا فقد أصدرت قانون في 17يوليو 1970 الخاص بحماية الحياة الخاصة، إذ نصت المادة “22” من هذا القانون على إن لكل شخص الحق في احترام حياتهِ الخاصة، ثم صدر بعد ذلك القانون رقم 17 لسنة 1978 والذي نظم حماية الحياة الخاصة للأفراد في مواجهة النظام الآلي للمعلومات.

* أما بالنسبة إلى موقف المشرع العراقي – فلم يعالج بشكل قانوني منظم موقع الخصوصية وحمايتها في مواجهة التطور الحاصل في أجهزة الاتصال الحديثة، واكتفى بالإشارة إليها في قانون العقوبات رقم 111 لسنة 1969 والذي أشار إلى ضرورة احترام حرمة المساكن وعدم الاعتداء على حرمة الجسم. لكن يلاحظ بأن القانون المدني العراقي وإن كانت لا توجد فيه نصوص مباشرة تشير إلى الخصوصية ووسائل حمايتها، ولكنه وقع في نطاق المسؤولية التقصيرية أحكاماً تتعلق بتعويض الشخص المعتدى عليه وضرورة احترام إنسانية وكرامة الفرد وعدم الاعتداء عليهِ، مع ذلك يحتاج المشرع العراقي لمواكبة التطورات الحاصلة في تقنيات المعلومات والاتصالات أن يشرع نصوص تفصيلية واضحة لحماية خصوصية الأفراد، وليكون على الأقل – في هذا الجانب – بالمستوى المطلوب والذي وصل إليه التشريع في بلدان أخرى.

يعتبر الحق في الحياة الخاصة من أهم حقوق الإنسان التي كرستها مختلف التشريعات الدولية والداخلية، و الذي من ابرز عناصره المسكن، باعتبار انه “لا قيمة للحياة الخاصة إن لم تشمل مسكن الشخص الذي يخلو فيه إلى نفسه بعيدا عن عيون و أسماع الآخرين مودعا فيه خصوصياته و أسراره و منفردا بذاته و بأسرته و المقربين إليه” .

ففي إطار القوانين الدولية، نص الفصل 12 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أن لكل شخص الحق في عدم التدخل في حياته الخاصة و عائلته و مسكنه و مراسلاته أو الاعتداء على شرفه و سمعته. و يتمتع كل فرد بالحماية القانونية ضد هذه الممارسات.

كما نصت أحكام الفصل 8 من الاتفاقية الأوروبية الخاصة بحقوق الإنسان أن لكل شخص حق التمتع بحماية حياته الخاصة و العائلية و مسكنه و مراسلاته. و لا تتدخل السلطة العامة في ممارسة هذه الحقوق إلا بقدر ما يجيزه القانون و في حدود ما يبرره الأمن العام و المصلحة الوطنية و متطلبات التنمية و الدفاع الوطني و التوقي من الجرائم و حماية الصحة و الأخلاق و الحقوق و الحريات.

وقد أكد هنري مازو أن “الشعور العميق بالتستر والحياء المتغلغل في أعماق كل كائن بشري يقتضي حماية سر الحياة الخاصة أي الشخصية والعائلية وبدون هذا السر ستنعدم الحرية، فسرّ الحياة الخاصة هو من مظاهر حرية وجودنا” . وما من شك أنه لا يمكن المحافظة على حرمة الحياة الخاصة إلا بحمايتها قانونا من كل اعتداء عليها .

ويعتبر المسكن الإطار المبدئي و الجوهري للحياة الخاصة باعتبار أنه المكان الذي ينعم فيه الشخص بالراحة والأمن والتستر بعيدا عن أعين الرقباء والفضوليين ، فمسكن الفرد هو ملاذه الآمن و مستودع أسراره و خصوصياته أين ينفرد بذاته و تطمئن نفسه و تسكن حين يكون محاطا بأهله و ذويه، بما يجعل في احترام حرمته احتراما لحياة الفرد الخاصة.

و امتدادا لفكرة قدسية المسكن، اعتبر العميد كاربونيي أن قلعة الفرد مسكنه . و هذه العبارة تبرز المغزى الأساسي الذي يتضمنه المسكن بما يمثله و يحققه للفرد من سكينة و طمأنينة و حرية في الآن ذاته. وتجد حرمة المسكن سندها الأول في كتاب الله الكريم، إذ ورد النص القرآني صريحا في نهيه عن دخول الفرد مسكن غيره حتى يستأذنه و يجد الترحاب و القبول جوابا لطلبه، و قد قال تعالى “يا أيها اللذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا وتسلموا على أهلها ذلك خير لكم لعلكم تذكّرون، فإن لم تجدوا فيها أحدا فلا تدخلوها حتى يؤذن لكم وإذا قيل لكم ارجعوا فأرجعوا هو أزكى لكم ، والله بما تعملون عليم” . بناءا على ذلك يستشف من لفظ ‘ تستأنسوا…’ “ضرورة اخذ الجانب النفسي في الاعتبار، حيث لا يكفي أن يتم الإذن تحت ضغط الحياء” حتى يعتبر القبول موجودا.

لكن في المقابل فإن حرمة المسكن ليست حقا مطلقا، باعتبار أن الفرد ولئن كان حرّا في ممارسة حقه لتحقيق مصلحته فإن هذه الممارسة تبقى مشروطة بعدم الإضرار بمصلحة المجموعة والتعسف في استعمال هذا الحق. وبناء عليه فقد أكدت بعض النصوص القانونية على جواز الدخول لمسكن الغير و لو دون رضاه إذا اقتضت المصلحة العامة ذلك.

وتماشيا مع هذا المبدأ فقد أقر الدستور التونسي في فصله التاسع أن حرمة المسكن وسرية المراسلة وحماية المعطيات الشخصية مضمونة إلا في الحالات الاستثنائية التي يضبطها القانون.

لكن و بالرغم من تكريس استثناءات تشريعية لمبدأ حرمة المسكن يبقى تخصيصه بحماية دستورية بمثابة تأكيد صريح لما لهذا الحق من أهمية تدعمت بما سنّه المشرع من قوانين سواء صلب أحكام القانون المدني أو القانون الجزائي.

ففي إطار القانون الجزائي و تكريسا لمبدأ حرمة المسكن، نص المشرع صلب الفصل 40 من المجلة الجزائية انه لا جريمة إذا كان القتل أو الجرح أو الضرب واقعا ليلا لدفع تسور أو خلع مسيجات أو ثقب جدران أو مدخل مسكن أو محلات تابعة له…

في هذا الفصل اعتبر المشرع رد الاعتداء على المسكن من قبيل الدفاع الشرعي تنعدم بمقتضاه صفة الجريمة عن الفعل. ذلك أن الحق في الرد الشرعي يجعل الشخص لا فقط هدفا للحماية الاجتماعية و لكن أيضا لماله .

و يمكن تعريف المسكن بأنه كل محل يستعمله الشخص كمنزل ينزل فيه بصفة دائمة أو مؤقتة ، بما يتجه معه القول انه يكفي أن يكون للفرد حق الإقامة سواء بصفة دائمة أو مؤقتة حتى يكتسب صفة الساكن بغض النظر إن كان هذا الساكن مالكا أو مكتريا… و هو ما يمثل المغزى الأساسي لحرمة المسكن التي تهدف إلى حماية الحياة الخاصة للفرد و ليس حماية حق الملكية باعتباره حقا دستوريا. و لا موجب لان يكون المسكن آهلا ليتمتع بالحماية و إنما يكفي أن يكون معدا للسكنى لتشمله تلك الحماية .

ولقد حددت المجلة الجزائية مفهوم المسكن صلب الفصل 267 باعتباره “كل بناء أو مركب أو خيمة أو مكان مسيج معد لسكنى الإنسان و يعتبر المحل مسكونا بالمعنى المقصود بالفصل 260 و لو لم يكن احد نازلا به عند وقوع الجريمة”.

كما انه في إطار توسيع مجال حماية حرمة المسكن، سۏۍ المشرع بين المحل المسكون و بعض الأماكن التابعة له و اعتبر صلب الفصل 268 أن “الصحون و محلات تربية الطيور و الإسطبلات و المباني الملاصقة لإحدى المحلات المبينة بالفصل المتقدم و لو كان لها سياج خصوصي في السياج العام للمحل أو بحرمه العام تعتبر من المحلات المسكونة”.

هذا التوسع في تعريف المسكن يعكس حرص المشرع على تبنّي موقف حمائي له و ذلك سواء صلب المجلة الجزائية أو مجلة الإجراءات الجزائية و يمكن اعتباره بكونه حماية تشريعية مباشرة و صريحة للمسكن تعززت باستقرار فقه القضاء على تبني قراءة موسعة لمفهوم المسكن معتبرا انه “يعد من قبيل المحل المسكون كل بناء أو مركب أو خيمة أو مكان مسيج معد للسكنى” ، و مؤكدا بان المسكن يشمل “كل الأماكن التي يعدها الإنسان ليأوي إليها كالمنازل و البيوت و الخيام” .

و لقد حرص الفقه و فقه القضاء على تأكيد هذا التوسيع و على انتهاج نفس المنحى و ذلك في محاولة منه لوضع مفاهيم متعددة للمسكن تنصهر فيها مختلف تطبيقاته و تكون مشمولة بالحماية من كل ما يمكنه أن يتسلط عليها من انتهاكات و تعديات .

و قد اعتبرت محكمة التعقيب في هذا السياق أن المراد بالمسكن هو “المكان المعد للسكنى بطبيعته أي للإقامة فيه ليلا و نهارا لمدة طويلة أو قصيرة و من تلك المنازل الفنادق إذ يقيم فيها الإنسان كما لو كان في منزله” . كما أكدت أن “دكان التجارة إذا اتخذه صاحبه مسكنا له زيادة على مباشرته لنشاطه التجاري فيه يعد محلا مسكونا” .

و يطرح موضوع المسكن في القانون الجزائي أهمية مزدوجة على المستويين النظري و التطبيقي لا سيما و قد راوح المشرع في اعتبار المسكن عنصر تشديد لبعض الجرائم من جهة و عنصرا ينعدم به التجريم من جهة أخرى. هذه المراوحة الاستثنائية تتعزز أهميتها بما يطرحه عنصر المسكن من إشكالات على مستوى القانون الجزائي سواء في فرعه العام أو الخاص أو الإجرائي.

فما مدى حماية المسكن في القانون الجزائي التونسي؟

جوابا على هذه الإشكالية يمكن أن نتناول بالدرس مظاهر حماية المسكن في القانون الجزائي صلب جزء أول و حدود هذه الحماية في جزء ثان.

الجزء الأول

مظاهر حماية المسكن في القانون الجزائي

لقد كرس القانون الجزائي التونسي عديد الآليات الحمائية للمسكن و ذلك من خلال قواعده الموضوعية (الباب الأول) وكذلك الإجرائية (الباب الثاني).

الباب الأول:

حماية المسكن من خلال القواعد الموضوعية للقانون الجزائي

لقد جرّم المشرع عديد الأفعال التي تشكل اعتداء على المسكن أو تمس من حرمته أو حرية استعماله. كما عاقب الموظف العمومي أو شبهه الذي يدخل مسكن إنسان بدون رضاه و ذلك بدون مراعاة الموجبات القانونية أو دون لزوم ثابت لذلك، صلب الباب الثالث من المجلة الجزائية المتعلق بالجرائم المرتكبة من الموظفين العموميين أو أشباههم حال مباشرة أو بمناسبة مباشرة وظائفهم وتحديدا في القسم الخامس منه، والمتعلق بتجاوز حد السلطة وعدم القيام بواجبات وظيفة عمومية. فالموظف العمومي الذي ينتهك حرمة المسكن يكون قد أفرط في استعمال السلطة المخولة له.

و قد اعتبر شراح القانون أن عبارة “بدون رضاه” الواردة بالفصل 102 من المجلة الجزائية المتعلق بهذه الجريمة، تقتضي أن يعترض شاغل المسكن على دخول الموظف و أن لا يعبأ هذا الأخير باعتراضه. و الاعتراض هنا لا يعني بالضرورة المقاومة المادية بل يكفي مجرد النهي الشفوي. و يعتبر الدخول كذلك واقعا بدون رضى متى دخل الموظف باستعمال الحيلة أو الإكراه المعنوي .

ولقد حدد المشرع العقوبة الخاصة بمرتكب هذه الجريمة بالسجن مدة عام وبخطية قدرها 72 دينارا.

كما نص الفصل 256 من المجلة الجزائية الوارد صلب القسم الأول المتعلق بهتك حرمة الملك و المسكن في إطار الباب الثاني حول الاعتداء على الملك أن “الإنسان الذي يدخل أو يستقر بمحل معد للسكنى وذلك بالرغم من إرادة صاحبه يعاقب بالسجن مدة ثلاثة أشهر والمحاولة موجبة للعقاب”.

و المستخلص من خلال هذين الفصلين أن غياب الرضاء في جانب صاحب مسكن وقع دخوله يشكل ركنا يستقيم مع وجوده اعتبار الفعل من قبيل الاعتداء على حرمة المسكن و ذلك بقطع النظر عن طريقة الدخول أو المدة التي قضاها المعتدي داخل المحل المسكون.

و قد اعتبرت محكمة التعقيب في هذا السياق أن “جريمة الدخول لمحل الغير المنصوص عليها بالفصل 256 من المجلة الجزائية لا تستلزم معارضة صاحب المحل بل يكفي أن يقع الدخول إلى المحل بالرغم من إرادة صاحبه أي عدم رضائه مثلا” .

و يتجلى على هذا الأساس أن اكساء حق الملكية صبغة دستورية من قبل المشرع والذي نص صراحة صلب الفصل 14 من الدستور أن حق الملكية مضمون و يمارس في حدود القانون، يمثل ضمانة أساسية و آلية فعالة في تكريس حرمة المسكن . ذلك أن “غرض المشرع هو حماية المسكن و هذه الحماية هي حماية للشئ في مرحلة أولى ثم حماية للشخص الموجود به من حيث المحافظة على أمنه و كرامته” .

من ذلك، فان هذين الغرضين أو البعدين لحماية حرمة المسكن يبقيان متلازمين لا يمكن فصل احدهما عن الثاني لاتحاد مقصدهما.

وفي هذا السياق فقد جرم المشرع صلب الفصل 171 من المجلة الجزائية دخول الفرد لمسكن بدون إذن صاحبه وذلك بقصد الحصول على الصدقة موهما أن بنفسه سقوط بدنيا أو قروحا.

والملاحظ أن الفقرة الأولى من الفصل المذكور نصت على عقاب مدته ستة أشهر لمرتكب التكفف، تتضاعف في صورة الدخول إلى مسكن بدون إذن صاحبه.

كما لم يستثن المشرع الاعتداء غير المباشر على المسكن وجرّمه صلب الفصل 320 من المجلة الجزائية، رمي الأشخاص لمواد صلبة أو قاذورات على ديار أو مبان أو أملاك لغيرهم. و قد اعتبر صلب الفصل 306 من المجلة الجزائية مجرّد وضع آلة انفجارية بمحل مسكون لقصد جنائي جريمة موجبة للعقاب بالسجن مدة اثني عشر عاما.

و قد تشدد المشرع في عقاب مرتكبي الاعتداء المسلط على محل مسكون، كما أنه لم يقتصر على حماية المحلات المسكونة وإنما تجاوزها إلى حماية الأماكن المسكونة عموما باعتبارها محيطة بالمسكن وذلك في حرص جليّ منه على حماية الفرد في ممارسة حياته بصفة عامة.

و نص الفصل 316 من المجلة الجزائية في هذا السياق على أنه يستوجب العقاب المقرر بالفصل 315 من هذه المجلة الأشخاص الذين يقودون بسوق أو بغيره من الأماكن المسكونة خيلا أو عربات بسرعة مفرطة تشكل خطرا على العموم.

وفي إطار هذا التوسع الذي ميز موقف المشرع الحمائي للمسكن، فقد أضفى هذا الأخير صبغة جزائية على مسكن الحاضنة وذلك بمقتضى القانون عدد 20 لسنة المؤرخ في 2008 المؤرخ في 4 مارس 2008 و المتعلق بتنقيح مجلة الأحوال الشخصية .

فقد نص الفصل 56 مكرر من مجلة الأحوال الشخصية على عقاب بالسجن من 3 أشهر إلى عام و خطية من مائة دينارا إلى ألف دينار لكل من يتعمد التفويت بقصد أو بدونه في محل سكنى ألزم الأب بإسكان الحاضنة و محضونها به أو رهنه دون التنصيص بسند التفويت أو الرهن على حق البقاء المقرر للحاضنة قاصدا حرمانها من هذا الحق.

كذلك بالنسبة لمن يتسبب في إخراج الحاضنة من المحل المحكوم بإسكانها ومحضونها به، وذلك إما بتعمده فسخ عقد الكراء بالتراضي مع المكري أو عدم أداء معينات الكراء الحالة عليه أو في صورة الحكم على الأب بمنحة سكن قضاءه شهرا دون دفع ما حكم عليه بأدائه.

في مستوى ثان فإن المسكن في القانون الجزائي يعتبر عنصر تشديد سواء في تكييف الجريمة أو في تحديد العقوبة.

فقد نص الفصل 33 من مجلة الإجراءات الجزائية أنه يشبه الجناية أو الجنحة المتلبس بها كل جناية أو جنحة اقترفت بمحل سكنى استنجد صاحبه بأحد مأموري الضابطة العدلية لمعاينتها ولو لم يحصل ارتكابها في الظروف المبينة بالفقرة السابقة (وهي الفقرة ثانيا من الفصل المذكور) والتي تنص أنه إذا طارد الجمهور ذا الشبهة صائحا وراءه أو وجد هذا الأخير حاملا لأمتعة أو وجدت به أثار أو علامات تدل على احتمال إدانته بشرط وقوع ذلك في زمن قريب جدا من زمن وقوع الفعلة.

والملاحظ صلب الفصل 307 من المجلة الجزائية أن المشرع، قد شدد في عقوبة من يتعمد مباشرة أو تعريضا إيقاد نار بمبان أو سفن أو مراكب أو مخزن أو حضائر مسكونة أو معدة للسكنى و بصفة عامة بالمحلات المسكونة أو المعدة للسكنى بأن جعلها عقوبة بالسجن بقية العمر. وهذا التشديد يستشف من قراءة مقارنة مع الفصل 308 من المجلة الجزائية الذي نص أن العقاب المستوجب يكون بالسجن مدة عشرين عاما إذا كانت الأماكن التي أحرقت غير مسكونة أو غير معدة للسكنى. كما يجد هذا التشديد في عقوبة مرتكب جريمة الحريق العمدي تفسيرا بالنظر إلى خطورة الفعلة و ما تستوجبه من زجر.

كما شدد المشرع صلب الفصل 260 من المجلة الجزائية في العقوبة بأن حددها بالسجن بقية العمر لمرتكب السرقة الواقعة مع:

– توفر استعمال العنف الشديد أو التهديد بالعنف الشديد للواقعة له السرقة أو لأقاربه.

-استعمال التسور أو جعل منافذ تحت الأرض أو خلع أو استعمال مفاتيح أو كسر الأختام وذلك بمحل مسكون أو بالتلبس بلقب أو بزي موظف عمومي أو بإدعاء إذن من السلطة العامة زورا

-وقوعها ليلا

-من عدة أفراد

-حمل المجرمين أو واحد منهم سلاحا ظاهرا أو خفيا.

و لقد فرق الفقهاء و شراح القانون بين اقتحام المسكن اقتحاما حقيقيا أو اقتحاما حكميا. ذلك أن الاقتحام الحقيقي للمكان “يتم بواسطة التسور أو الكسر أو استعمال مفاتيح مصطنعة” ، أما الاقتحام الحكمي للمكان فانه “يتم بطريق التحايل، و التحايل هو كل فعل من أفعال الغش و التدليس تمكن به الجاني من خداع المجني عليه أو تابعه لدخول المكان” .

كما أنه إذا كان مرتكب السرقة ممن يخدم عادة بالمسكن الذي ارتكبت به السرقة، فقد نص المشرع الجزائي صلب الفصل 263 من المجلة الجزائية على معاقبته بالسجن لمدة عشرة أعوام.

ونظرا لما للمسكن من حرمة وقدسية لم يقصر المشرع احترامها من قبل الغير وإنما أيضا من قبل أصحاب المسكن ومستعمليه، فقد اعتبر هذا الأخير صلب الفصل 236 من المجلة الجزائية أن ارتكاب الزنا بمحل الزوجية يحرم مرتكبيه من تطبيق أحكام الفصل 53 في حقهم.

و يراد بمنزل الزوجية “كل منزل يكون للزوج حق تكليف زوجته بالإقامة فيه، و يكون للزوجة حق دخوله. فأي مكان يذهب الزوج إليه للإقامة فيه لمصلحة أشغاله

أو لأي سبب آخر يعتبر منزل زوجية لأنه يجب أن يكون مستعدا لقبول زوجته به” .

و يكمن مغزى التشديد في أن المشرع لم يتهاون في معاقبة الزوج الذي يتصل بخليلته في المكان الذي يكون لزوجته الحق في ان تكون معه فيه. ذلك أن منزل الزوجية “ليس هو حتما المسكن الذي يقيم فيه الزوجان عادة و لا هو المحل القانوني للزوج. بل يعتبر المنزل منزل زوجية و لو كان الزوجان لا يسكنان هالا في أوقات خاصة كمنزل الاصطياف مثلا” . والجدير بالإشارة أن الفصل 53 من المجلة الجزائية يتعلق بأعمال ظروف التخفيف المتعلقة بتطبيق العقوبات. وقد استقرت محكمة التعقيب على تطبيق هذا النص القانوني الصريح مؤكدة على أن الزنا بمحل الزوجية لا يعتمد فيه الفصل 53 القاضي بتأجيل العقاب .

و بالإضافة إلى تجريم المشرع لأفعال التي تشكل اعتداء على المسكن وتشديده للعقوبة في خصوص الأفعال المرتكبة بمحلات السكنى، فإن القانون الجزائي جرم صراحة كل فعل يستخدم فيه المسكن كوسيلة لتحقيق غايات إجرامية.

وفي هذا السياق نص الفصل 32 من المجلة الجزائية في فقرته الخامسة أنه يعد مشاركا ويعاقب بصفته تلك الشخص الذي اعتاد إعداد محل لسكنى متعاطي جرائم قطع الطريق أو الاعتداء على أمن الدولة أو الأمن العام أو على الأشخاص أو الأملاك مع علمه بأعمالهم الإجرامية. و عموما فانه طبقا لأحكام الفصل 33 من نفس المجلة يعاقب المشاركون في جريمة في كل الحالات التي لم ينص القانون على خلافها بالعقاب المقرر لفاعليها ما لم تقتضي الأحوال إسعافهم بتطبيق أحكام 53 من المجلة الجزائية المشار له سابقا.

كما نص الفصل 133 من المجلة الجزائية على أنه يعاقب بالسجن مدة ستة أعوام كل

إنسان أعطى أعضاء عصابة مفسدين محلا للسكنى أو للاختفاء.

من ذلك و بناء على ما سبق بيانه، يتضح أن المسكن موضوع حماية صريحة في القانون الجزائي التونسي. فقد اعتبر المشرع الاعتداء على المسكن في عديد الحالات جريمة موجبة للعقاب. كما نص على المسكن بوصفه عنصر تشديد في حالات أخرى.

هذه الحماية للمسكن على مستوى القواعد الموضوعية للقانون الجزائي تتعزز بحماية على المستوى الإجرائي مثلما سيلي بيانه في الباب الموالي.

الباب الثاني :

حماية المسكن من خلال القواعد الإجرائية للقانون الجزائي

“إن البحث عن الأدلة قصد التوصل إلى المعرفة الحقيقية لا ينفي وجوب حماية الشخص ضد كل تجاوز من شأنه المس من حريته وحياته الخاصة” ، لذلك فإن القوانين الجزائية الإجرائية في معظمها نصت على حرمة المسكن وعدم جواز انتهاكها إلا بقوة القانون وذلك بمقتضى شروط نظمتها عدة نصوص تتركز أساسا صلب مجلة الإجراءات الجزائية.

هذا التنظيم الصريح صلب المادة الجزائية لإجراءات التفتيش بالمساكن تضمن جملة من الشروط الموضوعية والشكلية ، سواء بخصوص السلطة المختصة التي تصدر الإذن بالتفتيش أو الفترة الزمنية التي يقع فيها تفتيش المساكن.

وبالإطلاع على الفصول القانونية المنظمة لإجراءات التفتيش صلب مجلة الإجراءات الجزائية يتضح أن المشرع نص على مبدأ عام صلب الفصل 93 من المجلة المذكورة مفاده أن التفتيش يجري في جميع الأماكن التي قد توجد بها أشياء يساعد اكتشافها على إظهار الحقيقة، مما يعني أن المادة الإجرائية الجزائية لم تستثن المسكن رغم ماله من حرمة بمقتضى الدستور، لكنها في المقابل نظمت تفتيش محلات السكنى و أخضعته إلى ضمانات إجرائية من شانها أن تعالج في شقين أولهما يخص الشروط الموضوعية وثانيهما يتعلق بالشروط الشكلية.

ففي إطار الشروط الموضوعية لإجراءات التفتيش بمحلات السكنى و تحديدا فيما يتعلق بالسلطة المختصة، نص الفصل 94 من مجلة الإجراءات الجزائية أن تفتيش محلات السكنى من خصائص حاكم التحقيق دون سواه وهو ما نصّ عليه كذلك الفصل 53 من نفس المجلة، في إطار الباب الثاني منها الذي نظم التحقيق، بأن حاكم التحقيق يتولى بمساعدة كاتبه سماع الشهود واستنطاق ذي الشبهة وإجراء المعاينات بمحل الواقعة والتفتيش بالمنازل وحجز الأشياء الصالحة لكشف الحقيقة. ويتوجه حاكم التحقيق بمقتضى الفصل 56 من مجلة الإجراءات الجزائية من تلقاء نفسه أو بطلب من وكيل الجمهورية إلى مكان اقتراف الجريمة أو إلى مقر المظنون فيه أو إلى غيره من الأماكن التي يظن وجود أشياء فيها مفيدة لكشف الحقيقة.

على أن هذا الاختصاص المبدئي لحاكم التحقيق بالتفتيش بمحلات السكنى ليس اختصاصا حصريا وإنما وردت عليه استثناءات حددها الفصل 94 من مجلة الإجراءات الجزائية.

إذ يمكن أن يباشر التفتيش بمحلات السكنى:

– مأمور الضابطة العدلية في صورة الجناية أو الجنحة المتلبس بها وطبق للشروط المقررة بالقانون وقد نص الفصل 33 من مجلة الإجراءات الجزائية بأنه تكون الجناية أو الجنحة متلبسا بها :

أولا: إذا كانت مباشرة الفعل في الحال أو قريبة من الحال

ثانيا: إذا طارد الجمهور ذا الشبهة صائحا وراءه أو وجد هذا الأخير حاملا لأمتعة أو وجدت به آثار أو علامات تدل على احتمال إدانته بشرط وقوع ذلك في زمن قريب جدا من زمن وقوع الفعلة.

– مأمور الضابطة العدلية المبينون بالأعداد 2 إلى 4 من الفصل 10 والمكلفون بمقتضى إنابة من حاكم التحقيق وهم حكام النواحي، محافظو الشرطة وضباطها ورؤساء مراكزها وضباط الحرس الوطني وضباط صفه ورؤساء مراكزه.

– موظفو الإدارة وأعوانها المرخص لهم ذلك بمقتضى نص خاص.

وفي إطار هذه الفقرة الأخيرة وما منحته لبعض موظفي الإدارة وأعوانها المرخص لهم من صلاحية دخول للمساكن وتفتيشها، فقد نص الفصل 23 من القانون عدد 52 لسنة 1992 المؤرخ في 18 ماي 1992 والمنقح في نوفمبر 1998 والمتعلق بالمخدرات، على أنه يمكن لأعوان الضابطة العدلية المشار لهم صلب الفصل 10 من مجلة الإجراءات الجزائية والأعوان المخول لهم قانونا بحث ومعاينة جرائم المخدرات الدخول في كل وقت إلى المحلات والأماكن التي قد توجد بها مواد مخدرة سواء للاستهلاك أو التصنيع أو الترويج أو التهريب أو التي توجد بها أشياء من شأنها أن تساعد على اكتشاف تلك العمليات.

غير أنه بالنسبة لمحلات السكنى يجب أن يسبق ذلك ترخيص كتابي من وكيل الجمهورية ما لم يكن قد تعهد بالموضوع قاضي التحقيق مع مراعاة أحكام الفصل 94 من مجلة الإجراءات الجزائية.

و عموما تبقى اغلب الضمانات التي خص بها المشرع محلات السكنى حتى يوفر لها الحماية القانونية من الانتهاكات محل تساؤل حول حقيقة جدواها على المستوى التطبيقي.

من جهة أخرى، خول الفصل 54 من القانون عدد 64 لسنة 1991 المؤرخ في 29 جويلية 1991 والمتعلق بالمنافسة والأسعار كما تمّم بموجب القانون عدد 83 لسنة 1993 المؤرخ في 26 جويلية 1993، لمتفقدي المراقبة الاقتصادية والأعوان المؤهلين لذلك التابعين لوزارة الاقتصاد، القيام بزيارة محلات السكنى وحجز ما يلزم من وثائق بها.

لكن هذه الصلاحية لم ترد مطلقة وإنما حددها الفصل 55 من القانون المذكور بوجوب الحصول على ترخيص مسبق من وكيل الجمهورية.

كما أنه وفي إطار التفتيش في الجرائم الاقتصادية، اقتضى الفصل 22 من القانون عدد 117 لسنة 1992 المؤرخ في 7 ديسمبر 1992 والمتعلق بحماية المستهلك أنه يمكن للأعوان المكلفين بمعاينة المخالفات القيام بزيارة محلات السكنى وذلك بعد الحصول على ترخيص مسبق من وكيل الجمهورية على أن تتم هذه الزيارة في إطار احترام مقتضيات مجلة الإجراءات الجزائية.

في مستوى آخر، و في خصوص بعض الجرائم القمرقية، فانه وعلى اثر إصدار مجلة الديوانة الجديدة بمقتضى القانون عدد 34 لسنة 2008 المؤرخ في 2 جوان 2008، نص الباب الرابع من المجلة المذكورة و الذي يشمل سلطات أعوان الديوانة حصرا على هذه السلطات في إطار القسم الأول منه و تتمثل في ‘حق تفتيش البضائع و وسائل النقل و الأشخاص’ و ذلك دون تفتيش المساكن.

أما في خصوص عمليات الحجز بمحلات السكنى، فقد نص الفصل 307 من مجلة الديوانة في هذه الحالة على انه “لا يقع نقل البضائع غير المحجرة إذا قدم ذو الشبهة كفالة تغطيها. و إذا لم يقدم ذو الشبهة كفالة أو إذا تعلق الأمر ببضائع محجرة فانه يقع نقلها لأقرب مكتب ديوانة أو تعهد لشخص آخر يعين حارسا عليها أما بأماكن الحجز أو بجهة أخرى.”

كما انه في مقابل ذلك نص الفصل 314 من مجلة الديوانة و في إطار في فقرته الأولى و في إطار حرص جلي على إحاطة إجراءات الحجز بضمانات كافية انه” تبطل محاضر الحجز عند الإخلال بأحد الموجبات الشكلية التالية:

-سبب الحجز و تاريخ و مكان وقوعه و وصف البضائع المحجوزة.

-هوية ذي الشبهة إن كان معلوما.

-هوية الأعوان الذين تولوا الحجز.”

و الملاحظ ان صلاحيات صلاحيات أعوان الديوانة قد تقلصت و طالها تحديد كبير مقارنة بما كان لهم من سلطة تفتيش لمحلات السكنى منصوص عليها صلب التشريع السابق .

في مستوى ثان يتعلق بالشروط الشكلية المتعلقة بإجراءات التفتيش بمحلات السكنى فإننا نتناول بالدرس و بصفة أساسية الفصلين 95 و 96 من مجلة الإجراءات الجزائية الذين نظما هذه المسالة.

فقد نص الفصل 95 على مواعيد زمنية يتوجب احترامها عند إجراء التفتيش بمحلات السكنى، إذ لا يمكن إجراء التفتيش بهذه المحلات وتوابعها قبل الساعة السادسة صباحا وبعد الساعة الثامنة مساءا. لكن الفصل المذكور ألحق بهذا المبدأ استثناء يتمثل في صورة الجناية أو الجنحة المتلبس بها أو إذا اقتضى الحال الدخول المحل للسكنى ولو بغير طلب من صاحبه بقصد إلقاء القبض على ذي الشبهة أو على مسجون فار.

كما أضاف المشرع من جهة أخرى شرطا يتعلق بإجراءات التفتيش بمحلات السكنى ويتمثل طبقا لأحكام الفصل 96 من مجلة الإجراءات الجزائية في وجوب اصطحاب حاكم التحقيق أو مأمور الضابطة العدلية لامرأة أمينة عند مباشرة التفتيش بهذه المحلات إذا كان ذلك لازما. و هذا الإجراء يعكس حرص المشرع على احترام العادات و التقاليد و ما تفترضه حرمة الحياة الخاصة من واجب احترام و عدم كشف للخصوصيات.

مع الإشارة إلى أن الفصل المذكور لم يحدّد بصفة صريحة لمن ترجع سلطة تقدير هذا اللزوم من عدمه.

كما نص الفصل 96 المشار إليه في فقرته الأخيرة أنه إذا ظهر عدم إمكان حضور المظنون فيه أو عدم الفائدة من حضوره وقت التفتيش فإن حاكم التحقيق يحضر للعملية شاهدين من سكان المحل وإن لم يتيسر ذلك فينتخبهما من الأجوار ويلزم إمضاؤها بالتقرير. و في هذا الإجراء توفير لمزيد الضمانات القضائية فيما يخص حرمة المسكن و كذلك مصلحة المتهم الشرعية.

في مستوى ثان تطرح مسألة تفتيش محل السكنى الخاص بالمبعوث الدبلوماسي إشكالا على المستويين النظري و التطبيقي، ذلك أن الحصانة الدبلوماسية تشمل شخص المبعوث ومقر عمله ومسكنه طبقا لما استقر عليه العرف الدولي. و تتجلى أهم مظاهرها في عدم خضوع المبعوثين الدبلوماسيين للإجراءات الجزائية في إقليم الدولة الموفد إليها.

والملاحظ أن المشرع التونسي لم يتعرض صلب مجلة الإجراءات الجزائية إلى إجراءات تفتيش مقر البعثات الدبلوماسية، إلا أن القانون عدد 39-67 المؤرخ في 21 نوفمبر 1967 و المتعلق بترخيص انخراط البلاد التونسية في اتفاقية فيانا للعلاقات الدبلوماسية و في البروتوكول الملحق بها في شأن التحصيل على الجنسية ، أقر انضمام الجمهورية التونسية لاتفاقية فيانا الخاصة بالعلاقات الدبلوماسية و التي نصت صلب الفصل 22 على حصانة الأماكن الدبلوماسية الموجودة بتونس. و تبرر هذه الحصانة بمبدأ الحرمة الدبلوماسية التي تقر بعدم خرق مسكن موظف البلد الأجنبي، كما ينتج عن هذا منع أعمال التحقيق الجزائي التي تقوم بها السلطات المختصة في مادة التفتيش .

كما صادقت بلادنا في نفس السياق على معاهدة سنة 1973 المتعلقة بردع المخالفات ضد الأشخاص المتمتعين بحماية دولية. لكن في جميع الأحوال فان هذه الحصانة لا يعتدّ بها إلا خلال قيام الشخص بعمله بوصفه مبعوثا دبلوماسيا في الدولة المبعوث إليها باعتبار ان الغرض من تمتع المبعوث الدبلوماسي بحصانات معينة تشمل شخصه و مقر عمله و مسكنه هو بالأساس ضمان قيامه بمهمته في الدولة المبعوث إليها على الوجه الأكمل .

أما الاستثناء الثاني فانه يطرح حول مدى الحصانة التي يتمتع بها مسكن عضو مجلس النواب. و تمثل الحصانة البرلمانية أثرا لمبدا تفريق السلطات ، إذ من الثابت أن المجالس النيابية تضطلع بوظائف ومهام جسيمة تتعلق أساسا بسن القوانين التي تحدد معالم السياسات الحكومية على الصعيد الداخلي والخارجي، لذلك كان لزاما أن يعطي الدستور حصانة لأعضاء مجلسي النواب والمستشارين حتى يمارسوا أعمالهم دون أية قيود تحد من حريتهم وتحفظ لهم الاستقلالية عن أي ضغوط.

و قد نص الفصل 27 من الدستور على انه لا يمكن تتبع أو إيقاف أحد أعضاء مجلس النواب أو مجلس المستشارين طيلة نيابته في تهمة جنائية أو جناحية ما لم يرفع عنه المجلس المعني الحصانة. أما في حالة التلبس بالجريمة فانه يمكن إيقافه ويعلم المجلس المعني حالا على أن ينتهي كل إيقاف إن طلب المجلس المعني ذلك .

مفهوم الحق في الحياة الخاصة للإفراد – الدكتور عادل عامر

اترك تعليقاً