عربي وعالمي

مقال كتبه الامام الراحل الشيخ محمد متولى الشعراوى فى رثاء الرئيس جمال عبدالناصر

عندما يتحدث السفهاء الموتورين عن الزعيم الخالد “جمال عبدالناصر “يرد عليهم شيخنا الجليل “محمد متولى الشعراوى “

———————————————————

بسم الله الرحمن الرحيم

( قد مات جمال وليس بعجيب أن يموت ، فالناس كلهم يموتون ، ولكن العجيب وهو ميت أن يعيش معنا ، وقليل من الأحياء يعيشون ، وخير الموت ألا يغيب المفقود ، وشر الحياة الموت فى مقبرة الوجود ، وليس بالأربعين ينتهى الحداد على الثائر المثير ، والملهم الملهم ، والقائد الحتم ، والزعيم بلا زعم ، ولو على قدره يكون الحداد لتخطى الميعاد الى نهاية الآباد ، ولكن العجيب من ذلك اننا لو كنا منطقيين مع تسلسل العجائب فيه لكان موته بلا حداد عليه ، لأننا لم نفقد عطاءنا منه ، وحسب المفجوعين فيه فى العزاء ، انه وهو ميت لا يزال وقود الأحياء ، ولذلك يجب أن يكون ذكرنا له ولاء لا مجرد وفاء ، لأن الوفاء لماض مقدر فاندثر ، ولكن الولاد لحاضر مستمر يزدهر فيثمر.

فلا أظن أن حيا فى هذا العصر يجهل ما فعل عبد الناصر من أعمال ، وما خلق فيه من آمال ، ولن أكرر عليكم ولكنى أقول انه بدأ الدائرة حينما فاجا الدنيا بالثورة الأم فاستقبله الناس بأعراس شعب منصور على اثم وطغيان مقهور، وكان خير ما قلت مستقبلا به السمع هذين البيتين:

حييتها ثورة كالنار عارمة .. ومصر بين محبور ومرتعد
شبت توزع بالقسطاط جذوتها .. فالشعب للنور والطغيان للهب
ثم انتقل البطل الى الدائرة الثانية من أبعاد حياته ، فانتفض العملاق العربى برأس متطاول الى السماء وقدمين راسخين فى الأرض ومد يديه ليحدد وطنه العربى بجغرافية الحق لا بخرائط الرق فاستقرت أنامل يمناه على الخليج العربى ، واستقرت أنامل يسراه على المحيط الأطلسى ، وظل يهدهد العروبة حتى شبت فكرة فى الرؤوس وتأججت عقيدة فى النفوس وأصبحت نشيدا على كل لسان،
ولقد سمعت من أخى الدكتور رزقانة فكرته فى تلك الدائرة قبل فكرته فى الدائرة التى وصفها فى فلسفة الثورة ، الدائرة الثالثة لأن الاسلام بالعروبة انساج وبها امتد ، فلابد أن تتوحد العروبة لنصبح بنعمة الله اخوانا ، حتى يكون بعث الاسلام على مثل ميلاده فانه لا يصلح أخر هذا الأمر الا بما صلح به أوله ، وقد قلت فى الوقت الذى قام فيه اعداء الاسلام أولا وأعداء العروبة ” بمبدأ فرق تسد ” . وكنت أيامها فى المملكة السعودية ، ونشرت قصيدة فى صحيفة البلاد خرجت بالبنط العريض قلت فيها :

 

 

ياقوم هذا سبيل لأمة التوحيد ..

فما العروبة الا الإسلام فى تنهيد
بالعرب ساحة ندوة .. فى كل ناء بعيد
الغرب يعرف هذا .. والشرق غير بليد
فرق تسد أخطائنا .. فلتبحثوا عن جديد

وحين دانت قلوب العرب للعقيدة عزت عليه بعض قوالبها ، ولكن هل توقف الرجل؟ ، لا , بل ينصرف وليقفز الى الدائرة الثانية وهى الدائرة الانسانية بكل ما فيها من شيوع وأجناس وأموال ومبادئ ومذاهب ، وقد أعانه على ذلك ايمانه العميق بكل عقائد الحق والخير والجمال ، وأعانه على ذلك اسلامه بكل ما فيه من تعاون وتواد ، وتحاب، وحرية واخاء ومساواة وانطلاق وطموح ، ليحقق المستخلف فى الأرض مطلوب الله منه ، وهو أن يستعمرها وأن يحملها الى آفاق الرفاهية والحضارة والمدنية.

كان رحمه الله _ كما قال اخوانه أمام كل ثورة تحررية بالايحاء والقدح ، ووراءها دائما بكل الامكانات والمنح ، فوضع البطل بصماته الانسانية على التاريخ المعاصر ، ولذلك لن يجرؤ قوة فى الأرض أن تزحزح المظلومين عما لقنهم جمال من مبادئ للآباء على الضمير والانتفاض على الظلم والنهضة الى الآمال الواسعة الوارفة ، ولن تستطيع أى قوة فى الأرض أن تسلب المكاسب التى ادتها انجازاته ولا أن تحجب الآفاق التى أعلنتها تطلعاته ، وبذلك كله يقضى على قلة الفراغ المزعومة بعده.

ان الزعيم الذى يترك بعده فراغا زعيم انانى لأنه يحكم بمبادئ من رأسه ، فاذا ما انتهى قضى على نظام أسسه ، وهو زعيم أنانى ايضا لأنه يحب أن يفقد الخير بفقده ، ولكن زعيمنا لم يكن من هذا الطراز لأنه لم يكن زعيما فحسب ، وانما كان أستاذ زعامة ، ولم يكن ثائرا فحسب ، وانما كان معلم ثورة ودارس مبادئ ، وكانت عبقريته فى غرس هذه المبادئ أنه أشاعها فلم يجعلها خاصة بفئة دون فئة حتى مرغ بها النفوس كل واحد حتى يكون كل واحد صورة طبق الأصل مما عند الحاكمين ، حتى لا يخدع محكوم بعده بغفلة من حاكم أو جبروت من متسلط ، وأن أمة فجعت فيه هذه الفجيعة أكدت كل ذلك ، وأكدت صدقها فيما قالت له فى حياته ” كلنا ناصر” .. ولذلك نراها حزنت عليه أعمق الحزن ، ولكنها مع ذلك عرفت كيف تقبض على الزمام بحزم ،
اللهم اجعل لطفك فى قضائك رحمة واسعة ونعيما مقيما لعبدك جمال الذى جعلت مطلعه من فلسطين ومغربه فى فلسطين ، ونسألك يارب أن تقر روحه فى الخلود بتحريرها من خنازير البشر ، وأن توفقنا فى اتمام ما خطط له البطل الراحل من الآمال وحدة عروبة وتمكين اسلام وسلام انسانية ،
وأسألك ياربى أن تجزيه الجزاء الأوفى على ما قدم لإسلامك من شيوع وتثبيت وانتشار واعلام ، وعما صنعه فى الأزهر الذى تطور به ليتطور مع الحياة ، وليجعل منه بحق منارة الدين وحملة رسالة الله .
وأخيرا جزى الله بالخير وحيا بالكرامة كل من أسف عليه وكل من واسى فيه وكل من تأسى به ، وكل من اقتبس منه ، وكل من دعى له بخير ، ووفق خلقه العظيم حتى يكون امتدادا لجمال الكلمة الطيبة التى ضرب الله لها مثلا كشجرة طيبة أصلها ثابت وفرعها فى السماء تؤتى أكلها كل حين باذن ربها “.
والسلام عليكم ورحمة الله.

المصدر : كتاب ” الشيخ الشعراوى وفتاوى العصر” للصحفى محمود فوزى

اترك تعليقاً