الأرشيفوقفة عز

وداع متأخر لجميل شحادة الشعفاطي الطلياني – نضال حمد

توفي جميل أبو لؤي قبل سنتين فيما توفي نجله لؤي في السادس من آب – أغسطس ٢٠٢٣، لتفقد العائلة في غضون سنتين الأب والإبن، اللذان دفنا في مقبرة المسلمين ببولونيا. جميل مات ميتة طبيعية عن 70 سنة قضى جلها طالباً ثم مقيماً فمواطناً يحمل الجنسية الايطالية، جنسية البلد الذي سافر أليه شاباً يانعاً في مقتبل العمر، باحثاً عن العلم والدراسة والمعرفة، تماماً كما كل الفلسطينيين في ذلك الزمان، من الذين كانوا يسافرون ويقصدون دول أوروبا الغربية والشرقية للدراسة في الجامعات والكليات. فيما نجله لؤي توفي على اثر اصابته في حادث سير هذا العام أدى الى وفاته متأثرا باصابته تلك.
في ذلك الزمن كانت أوروبا مقسمة بين شرقية وغربية، الغربية تتبع نفوذ الولايات المتحدة الأمريكية فيما الشرقية تتبع نفوذ الاتحاد السوفيتي. الآن لم يعد هناك وجود للاتحاد المذكور الذي ورثته روسيا وتخوض أحدث حروبها للدفاع عما تبقى منه وعن هيبة ومكانة روسيا. فالحرب في أوكرانيا حرب عالمية مصغرة قابلة للتوسع وللانفجار الشامل في أي وقت. يجب أن نعترف بأن أوروبا كلها تقريباً كما معظم دول العالم تحت الوصاية والسيطرة والهيمنة الأمريكية.
في مدينة بولونيا الايطالية وهي مدينة تقع وسط ايطاليا وجميلة ومرتبة ولديها جامعة عريقة من أعرق جامعات أوروبا وأقدمها. هناك درس جميل الصيدلة. هناك درس أيضاً في ذلك الوقت مئات من الطلبة الفلسطينيين والعرب منهم بعض الشباب من مخيمي عين الحلوة. هناك تعالجت أنا وأكثر من مائة من جرحى الغزو الصهيوني للبنان سنة 1982 في مستشفيات بولونيا وايطاليا وعلى نفقة الشعب الطلياني الصديق.
كنت أقول عنه وأسميه جميل الفلسطيني الطلياني، لأنه كان لي في مدينة بولونيا الايطالية صديقين جميلين، كل منهما إسمه جميل، وكلاهما توفيا في ايطاليا بتاريخين مختلفين وفي مدينتين مختلفتين.
جميل الذي سأتحدث عنه في هذه العجالة هو المرحوم – أبو لؤي – جميل الفلسطيني الذي جاء من شعفاط، ضاحية من القدس عاصمة فلسطين المحتلة. فيما المرحوم جميل الثاني هو جميل كنج اللبناني الطلياني بقلب فلسطيني، اليساري الثوري الانساني، الذي وصل مدينة بولونيا الايطالية في آذار سنة ١٩٨٣، قادماً مع أكثر من مائة جريح لبناني وبعض الجرحى الفلسطينيين من الضاحية الجنوبية لبيروت. كتبت عنه أيضاً متأخراً كثيراً لأنني لم أعرف بوفاته إلا بعد مرور سنوات طويلة على ذلك، وعلمت أنه توفي بحادث سير في روما.
كنت واحداً من الجرحى الذين وصلوا إلى بولونيا “روسا” يعني “الحمراء” على متن طائرة خاصة نقلتنا من بيروت الى بولونيا مباشرة. في مطار بولونيا نقلنا على حمالات الى الإسعافات ومن هناك إلى المستشفيات، أنا نقلت إلى مستشفى “روتسولي” العريق في المدينة العريقة. قضيت هناك فترة طويلة من العلاج تعرفت خلالها ومنذ البداية على جميل وعشرات غيره من الطلبة الفلسطينيين. كانوا يزوروننا بشكل دائم ويهتمون بنا ويحرصون على مساعدتنا وسعادتنا في بولونيا. كانوا إخوة ورفاق وأهل وكانت وحدة وطنية جرحى وقوى طلابية فلسطينية حقيقية. ومن هؤلاء صديقي ابراهيم التعمري الذين أبلغني مشكوراً بوفاة جميل متأخراً فقد عرفت بوفاته يوم وفاة نجله اي بعد سنتين من الوفاة.
في خريف سنة 1983 غادرت بولونيا الى الشام ومخيم اليرموك. كانت يومها تسمى المدينة الحمراء، نسبة لسيطرة قوى اليسار الطلياني عليها. منذ ذلك الوقت لم ألتقِ بجميل ولم أزرها مرة أخرى إلا في آب – أغسطس 2011، أي بعد أقل من 30 سنة على مغادرتها على ساقين واحدة اصطناعية والثانية طبيعية، نصف باقية وبجهاز خاص لمساعدتي على المشي… هذا بعدما كنت وصلتها من مخيم شاتيلا مقعداً على كرسي متحرك.
في بولونيا صيف سنة 2011 كنت برفقة صديقي ورفيقي الطلياني “أليساندرو” ابن نابولي الجنوبية. حرصت على زيارة الأمكنة الرئيسية التي كنت أقضي فيها أنا وإخوتي وأخواتي الجرحى والجريحات، وقتنا في ذلك الوقت. لكن تقدمي في العمر وتراجع صحتي وتلف ركبتي الوحيدة كانا مانعاً وعائقاً في وجه طموحاتي بتفقد المدينة كلها. مع ذلك سرنا أنا واليساندرو مسافات طويلة جدا بالنسبة لي ولقدرتي على السير. تفقدنا الساحة الرئيسية عند تمثال نبتون واللوحات التي تخلد ضحايا النازية والفاشية، وعرجنا على المقهى التاريخي الشهير القريب من نبتون ونافورته العارية والماطرة… من ثم توجهنا إلى الأزقة والشوارع القديمة، لفت انتباهي أن الأسواق القديمة في بولونيا مثل أسواق الشام والمدن العربية القدمية، فيها واسمها سوق (الكندرجية) أو ( سوق الخياطين) و (سوق الأحد) والخ… بعد تسطع وتفسح وصلنا إلى برجي الأخوين وكنت أعرف أنهم في المدينة يطلقون عليهما إسم برجا الحماران، وهما برجان قديمان مائلان على طريقة برج بيزا الشهير يعرفا باسم برج “أسينيلي” المائل، والذي يعود إلى القرن 12. بعد ذلك اتجهنا نحو جامعة بولونيا، على باب الجامعة كانت هناك شعارات ورسومات مناصرة لفلسطين. تابعنا طريقنا باتجاه شارع اسمه “مائة ثلاثمائة” يعني “سنتوتريسنتو” الذي أصبح شارعاً للطلبة ولجميل ولمقهى السلام بسبب قربه من الجامعة.
Via Centotrecento,
على هذا الشارع يقع مقهى السلام الفلسطيني العربي وأكلاته الشهية… وهناك وصلنا أنا وصديقي الساندرو بعد مشي وتعب في طقس حار جداً. في ذلك المكان التقينا بجميل وابراهيم وبسام منة جديد وبعد مرور 28 عاماً على فراقنا.. هم ثلاثة من طلبة 1983 ومن آخرين منهم الدكتور العزيز اسماعيل، بقيوا في بولونيا. كان لقاءاً حاراً، فأنا عرفت جميل من النظرة الأولى لأنه لم يتغير كثيراً، فيما هو لم يعرفني إلا بعدما ذكره ابراهيم … وبسام الذي تفاجئ أيضاً بزيارتي، فأسرع إلى شقته التي كانت تقع فوق المطعم وأحضر ألبومات الصور وشاهدناها كلنا معاً، ففيها صوراً لي وله وللجرحى وللطلبة من سنة 1983. الساندرو كان بدوره يعيش الحكاية كأنه في حلم وهو الذي سافر معي كي أحقق رغبتي بزيارة بولونيا واللقاء ببعض الرفاق والأخوة. قضينا معهم بعض الوقت ثم عدت أنا وصديقي الساندرو بالقطار إلى مدينة فياريجيو حيث كان يقام مخيم التضامن مع شعب فلسطين.

30-9-2023
نضال حمد
موقع الصفصاف – وقفة عز

هنا رابط البوم صور من بولونيا 1983 :

https://www.facebook.com/media/set/?set=a.149311709915768&type=3

اول مرة اقف على قدمي بعد الاصابة